استعادة التوازن الحضري
تعلمنا فيما مضى أنه عند وصف المناطق نجد أنفسنا بين أمرين: فهي إما تطل علينا بألوان رمادية وبنية لمشاهد المدن الحضرية الصناعية، أو بألوان الباستيل الخضراء التي تتلون بها الحياة في الريف: نقيضان تواجههما أبصارنا في كل الأوقات. ولكن ماذا لو لم يكن الأمر هكذا؟ ماذا لو لم نكن بصدد منافسة بين طرفين: خاسر ورابح؟ ماذا لو كان بإمكاننا بلوغ حل وسط ــ أو حل هجين يجمع بين الريف والحضر؟ وماذا أيضاً إذا خرجت هذه الأفكار من طور التأمل إلى واقع التطبيق لتنعكس جلية في مشروعات رائدة على مستوى العالم؟
لقد تبين أن مثل هذه الأفكار موجودة بالفعل على أرض الواقع. فعالمياً، عاودت الطبيعة الظهور في مساحات شاسعة من الأراضي الفضاء، وغطت الواجهات أوراق الشجر الخضراء، وعادت الأنواع الأصيلة، واشتملت تصميمات المباني الجديدة المفعمة بالحيوية على الضوء الطبيعي وخصائص المناظر الطبيعية.
ولعل الأهمية المتزايدة لما يسمى بـ “استعادة الطبيعة البرية في المدن الحضرية” لا تمثل مكسباً للبيئة وحسب، بل أيضاً لـ 55٪ من سكان العالم الذين أصبحوا يعيشون وسط “غابات خرسانية”[1]
تصحيح عاجل لنواتج فرط التطوير
يعد تحويل المناطق الحضرية إلى مناطق أكثر انسجاماً من المنظور البيئي ذا أهمية بالغة لمواجهة فقدان التنوع البيولوجي، وتحسين صحة الإنسان، ومواجهة التهديد الأكبر المتمثل في تغير المناخ. ولكن لماذا يعد هذا الأمر ملحاً؟
أكثر من 80% من الأشخاص الذين يعيشون في المدن التي تتم فيها مراقبة جودة الهواء يتعرضون لمستويات من التلوث تتجاوز الحدود التي وضعتها منظمة الصحة العالمية[2].
من خلال استعادة 30% فقط من النظم البيئية والرجوع بها إلى حالتها الطبيعية، يمكن تجنب حوالي 465 مليار طن من ثاني أكسيد الكربون، و 70% من حالات الانقراض المتوقعة للنباتات والحيوانات[3].
تعكس المدن مناخاً محلياً خاصاً بها، ودائماً ما يكون أكثر دفئاً بعدة درجات مقارنة بالمناطق الريفية المحيطة بها. إذ يعادل تأثير شجرة واحدة قدرة تبريد 10 وحدات تكييف الهواء، مما يعني الحد من استنزاف شبكات الطاقة التي تعتمد على الوقود الحفري[4].
ولعل التركيز على تأثير الطبيعة على البلدات والمدن من شأنه أن يقلل مستويات ثاني أكسيد الكربون ويخفض درجات الحرارة المحلية. وهذا أمر رائع في حد ذاته وحافز كاف للعمل. في الوقت نفسه، تشير الأبحاث أيضاً إلى أن اعادة الطبيعة البرية في المناطق الحضرية تساعد في تحسين الصحة العقلية وتحقق الرفاهية لسكان المدن. وقد أوضح أحد المشروعات البحثية أن 92% من الدراسات أكدت أن العديد من الأمور الايجابية قد تبعت استعادة الطبيعة البرية في مختلف المجالات الصحية، وترتفع هذه النسبة إلى 98% عند فحص الصحة العقلية على وجه التحديد[5].
ويبدو أن فكرة إعادة تخصيص مساحات واسعة من مدننا للطبيعة الأم قد تأخرت كثيراً. فلفترة طويلة جداً، كان الزخم يتأرجح في الاتجاه الآخر.
فقد خصصت الولايات المتحدة 24 مليون فدان من الأراضي البرية بين عامي 2001 و2017 للإسكان والصناعة والطاقة[6]. ولا يزال الزحف الخرساني الكبير مستمراً، حيث تم فقدان 6000 فدان أخرى من الحدائق والغابات والمراعي والممرات المائية بسبب التطوير الذي يحدث كل يوم. ولكن تركيز الجهود والتعاون من أجل استعادة الطبيعة البرية من شأنه أن يحدث تأثيرات ايجابية على الموائل العالمية. بالإضافة إلى ذلك، يمكن لإعادة الطبيعة البرية في المناطق الحضرية أن تسهم أيضاً في تحقيق أهداف الأمم المتحدة للتنمية المستدامة (SDGs)، بما في ذلك الهدف رقم11 والمعني بالمدن والمجتمعات المستدامة، والهدف رقم 14 والذي يركز على الحياة تحت الماء، والهدف رقم 15 والخاص بالحياة على الأرض.
وفي ظل مثل هذه الأدلة التي لا تقبل الجدل، كيف يتعامل صناع القرار في المناطق الحضرية مع هذه الرؤى الجريئة المعنية بعودة الطبيعة البرية للمدن؟
استعادة الحياة البرية يعزز الطبيعة ويوفر فرص العمل
يمكن أن تتخذ استعادة الطبيعة البرية في المناطق الحضرية واحداً من أربعة أشكال. ويتوقف ذلك على تضاريس المناظر الطبيعية ذات الصلة وحجمها.[7]
التخضير الحضري: يمثل ذلك الصورة المتعارف عليها عندما يتعلق الأمر باستعادة الحياة البرية، حيث يتم إعادة إدخال النباتات المحلية والعمليات الطبيعية تدريجياً إلى البيئة الحضرية التي تعاني التدهور، وذلك من أجل بدء عملية استعادة التنوع البيولوجي.
الروابط الخضراء والزرقاء: وهي عبارة عن ممرات محمية تربط البلدات والمدن، وغالباً ما تخترق هذه الممرات مساحات مفتوحة. وتسمح هذه الروابط – سواء كانت ممرات ريفية أو أنهار أو جداول – للنباتات والحيوانات الطبيعية بالازدهار والانتشار عبر المناطق التي كان قد طغى عليها الزحف العمراني.
مشروعات صغيرة الحجم: هي مشروعات صغيرة تقام على مساحات لا تتجاوز الـ 50 هكتاراً ، وغالباً ما تهدف إلى التركيز على أماكن بعينها مثل المنتزهات أو الحدائق أو الغابات أو مروج الزهور البرية وإعادتها إلى نطاق الطبيعة.
نطاق واسع: ونعني هنا مشروعات تقام على مساحات تتجاوز الـ 50 هكتاراً، وتهدف إلى استعادة مناطق طبيعية بأكملها وجعلها معين ذاتي مستدام يضم النباتات والحيوانات التي تعتمد على بعضها البعض: فكر في أنظمة الأنهار، وأراضي الحزام الأخضر، والمتنزهات العامة والمناطق البحرية المحمية.
وخير مثال على تحرك السكان المحليين اصدار فريق عمل لندن لاستعادة الطبيعة البرية، والمكلف بوضع بتطوير مبادئ الممارسات الخاصة بمشروعات التخضير الحضرية في لندن، تقريراً في عام 2023 عن دعم استعادة الطبيعة البرية وتعزيز التنوع البيولوجي[8]. وقد حدد التقرير خمسة مبادئ أساسية لمشروعات استعادة الطبيعة البرية بنجاح:
- لتكن القيادة للطبيعة: إعادة العمليات الطبيعية، مثل تعاقب الموائل والاضطرابات البيئية. ويمكن تحقيق ذلك عن طريق إعادة إدخال أنواع الحيوانات المحلية أو إزالة قنوات الأنهار التي صنعها الإنسان.
. العمل على نطاق مناسب: استعادة النظم البيئية في إطار زماني ومكاني مناسبين للسماح للطبيعة بإملاء التغييرات.
- إنشاء مناطق طبيعية قادرة على الصمود: يجب أن نقبل بفكرة أن الطبيعة دائمة التطور، وأن العمليات الطبيعية على مر العصور ساعدت في خلق التنوع البيولوجي. ونحن بحاجة إلى نظام بيئي جديد ديناميكي تقوده الطبيعة بنفسها، مع الأخذ في الاعتبار المتغيرات الجديدة مثل تغير المناخ والنمو السكاني.
- ضمان استفادة الجميع: توفير تجارب غنية بالطبيعة لعدد كبير من سكان المناطق الحضرية. وينبغي أن تكون مسألة توافر هذه التجارب للجميع محورية في عملية التنمية، مع احترام ما تنطوي عليه عمليات استعادة الطبيعة البرية من أمور قد تحتاج إلى الحماية من الاضطرابات البشرية.
- دعم الاقتصادات المحلية: يمكن أن يدعم منحى استعادة الطبيعة البرية الاقتصادات القائمة على الطبيعة، لا سيما في مجالات الترفيه والتعليم. ويمكن أن تساعد فرص الأعمال المستدامة في تمويل مشروعات النظم البيئية والتي تشمل: خطط إدارة الفيضانات، وتنقية الهواء، وجودة المياه، وتخزين الكربون، واستعادة التربة، وإنتاج الغذاء الصديق للطبيعة.
لقد بات الرأي القائل بأن استعادة الطبيعة البرية قد تخلف تأثيرات سلبية على الاقتصاد وأن إيلاء الأولوية للطبيعة على حساب الأعمال التجارية من شأنه أن يؤدي إلى خسارة حتمية للوظائف ــ بات هذا الرأي مجرد من المنطق والصحة. فوفقاً لإحدى الأبحاث الذي أصدرته منظمة إعادة الطبيعة البرية في بريطانيا، والذي تناول 33 مشروعاً تمت في أكثر من 50 ألف هكتار من الأراضي، أن إعادة الطبيعة البرية كانت سببا في زيادة الوظائف على مدى عشر سنوات بنسبة 54٪.[9]
واستناداً إلى هذه النتائج، استثمرت عاصمة المملكة المتحدة اعتباراً من شهر أبريل الماضي ما يقرب من 30 مليون جنيه إسترليني (حوالي 40 مليون دولار أمريكي) في المساحات الخضراء وزراعة الأشجار من خلال صندوق ريوايلد لندن. ويخطط عمدة المدينة الحالي صادق خان لجعل لندن أول مدينة للمنتزهات العامة في العالم بحلول عام 2050.[10]
ومع أخذ ذلك في الاعتبار، دعونا نلقي نظرة على العديد من النقاط الحضرية المهمة الأخرى حول العالم، والتي تتصدر الآن اتجاه استعادة الطبيعة البرية.
رؤى مثالية للعيش في انسجام مع الطبيعة
سواء كنا نعيد الأراضي التي تم تطويرها إلى حالتها الأصلية، أو كنا ندخل قطعة من اللون الأخضر إلى حياة المجتمعات الحضرية، فبإمكاننا استلهام الكثير من الأفكار من رواد مضمار استعادة الطبيعة البرية.
فعندما تعرضت هيربين، بالصين، للعديد من الفيضانات في المواسم المطيرة، تحركت الحكومة ووفرت الحماية لمنطقة أرض رطبة تمت استعادتها في وسط المدينة. وابتكر المهندسون المعماريون مخططاً لاستعادة الأراضي الرطبة الأصلية في المدينة – والتي كان قد تم فصلها منذ فترة طويلة عن مصادر المياه الطبيعية الخاصة بها بسبب التطوير – وتحويلها إلى منطقة كانالي الرطبة الحضرية العامة، والتي تبلغ مساحتها 34 فداناً، وهي حديقة حضرية لمياه الأمطار. وتفيد الحديقة النظام البيئي من خلال ترشيح مياه الأمطار إلى طبقات المياه الجوفية، وتوفير موطن طبيعي للحياة البرية، بالإضافة إلى توفير منطقة ترفيهية لسكان المدينة البالغ عددهم 10 ملايين نسمة.
وفي مكان آخر من الصين، تسعى ليوتشو إلى أن تقدم نموذجا للبناء الذي يقوم على الطبيعة. ومن المنتظر أن تصبح ليوتشو، التي بدأ بناؤها في عام 2020، أول “مدينة غابات” في العالم، حيث تضم 40 ألف شجرة ومليون نبات تزين واجهات جميع البنية التحتية، وتمتص حوالي 10 آلاف طن من ثاني أكسيد الكربون و57 طناً من الملوثات سنوياً.
وفي آسيا أيضاً، تمخض عن اتجاه بناء “مدن الحدائق” في سنغافورة تثبيت 18 “شجرة عملاقة” – وهي أشجار صناعية يبلغ ارتفاعها 50 متراً. وتشمل هذه الهياكل الرائعة أكثر من 150 ألف نبات، وتساعد في تنقية مياه الأمطار وتوليد الطاقة الشمسية وتوفير الظل الذي يحتاجه السكان بشدة. اما الطرق الطبيعية في المدينة، والتي يبلغ طولها 150 كيلومتراً، والمستوحاة من النظام البيئي للغابات المطيرة حيث الشجيرات والطوابق السفلية والمظلات، فهي بمثابة ممرات خضراء تعزز التنوع البيولوجي.
وفي دلهي بالهند، وقع الاختيار على سبع حدائق للتنوع البيولوجي، لتحسين نوعية المياه والهواء، والمساعدة في إدارة مياه الفيضانات وعزل الكربون، ومواجهة مستويات درجات الحرارة الحضرية الخطيرة. وتضم حديقة يامونا للتنوع البيولوجي، والواقعة على ضفاف نهر يامونا، 457 فداناً من الغابات والأراضي الرطبة. وقد كان لهذه الحديقة الفضل في استعادة ثروات النباتات المحلية المتدهورة وتوفير موطن للطيور المهاجرة في الشتاء.
وهنا في الشرق الأوسط، تقوم نيوم، وهي المدينة الذكية الضخمة قيد التطوير التي تقع في شمال غرب المملكة العربية السعودية على البحر الأحمر، تقوم بزراعة مليون شجرة واستعادة ما لا يقل عن 1.5 مليون هكتار من الأراضي كجزء من مبادرة إعادة التخضير. وتقع هذه المدينة المستدامة ضمن العناصر الأساسية في المبادرة السعودية الخضراء ورؤية السعودية 2030.
أما في في لاجوس، بنيجيريا، فقد قام مجتمع يوروبا ذو الكثافة السكانية العالية، بتمويل شبكة من الحدائق العمودية المحلية – وهي عبارة عن هياكل منتصبة في بيئة تسمح بنمو النباتات مثل التربة أو البيئة الزراعية المائية. وهذه الشبكة مخصصة للنباتات الطبيعية. ويهدف المشروع إلى خفض درجات الحرارة وتعزيز التنوع البيولوجي وتوفير مصادر غذائية بديلة للسكان ذوي الدخل المنخفض.
وفي الوقت نفسه، تركز الحكومة في نيو ساوث ويلز بأستراليا على القدرة على التكيف مع تغير المناخ من خلال إنشاء المزيد من البنية التحتية الخضراء عن طريق الأماكن الخضراء. وتزخر حديقة “ون سنترال بارك” في سيدني بالحدائق المعلقة التي تضم 35200 نبات من 383 فصيلة تنتشر على أكثر من 1100 متر مربع من السطح، ويتم ريها بنظام “الري بالتنقيط”.
وفي مكان آخر في أستراليا، تمتلك ملبورن إستراتيجية مدينتنا الخضراء الخاصة. فقد بدأ البناء في عام 2023 في مجمع “جرين سباين” لناطحات السحاب الواقع في ساوث بانك بالمدينة. وفي ظل وجود 6000 متر مربع من النباتات والحدائق على السطح، من المقرر ألا يكون مجمع “جرين سباين” أطول مبنى في البلاد وحسب، ولكن أيضاً أطول حديقة عمودية في العالم
وتشغل حدائق هاي لاين في نيويورك، موقع خط سكة حديد مهجور، وتمتد بطول 1.5 ميل عبر مانهاتن وعلى طول نهر هدسون. وهناك يُسمح للطبيعة بإملاء رؤيتها الخاصة لإعادة الحياة البرية، حيث تتنافس الأنواع وتتطور تماماً كما تفعل في المناطق الريفية النائية. ويفيد المشروع النباتات والفراشات والطيور – وبالطبع البشر المحظوظين الذين يستمتعون بالهواء النقي، ويجدون ملاذاً في ممرات المشاة ذات المناظر الخلابة.
وبالمثل، تم تحويل مركز مهجور للتسوق في نوتنجهام بالمملكة المتحدة إلى مركز حضري يضم الأراضي الرطبة والغابات والأزهار البرية. ومن المنتظر أن يجذب مشروع تطوير برودمارش، المقام على مساحة ستة أفدنة لغرض منح فرصة جديدة للحياة لهذه البقعة، الأنواع المحلية إلى المدينة مرة أخرى ويوفر ممراً أخضر إلى غابة شيروود الشهيرة القريبة.
ولعل مشروعات اعادة الطبيعة البرية للمناطق الحضرية تعكس أن التطوير المفرط للمناظر الطبيعية كان له دور محوري في تدهور الطبيعة، وهو ما يجعلنا نعيد التفكير في تصوراتنا المسبقة حول الأمكنة الذي يمكن أن تتحقق فيها عمليات الأحياء والمحافظة على البيئة.
الضوء الأخضر – مواجهة التحديات
بغض النظر عن نطاق المشروع، والدوافع والمعايير المؤثرة، فإن عملية إعادة الطبيعة البرية في المناطق الحضرية تنطوي بلا شك على العديد من التحديات – ولكنها يمكن التعامل معها.
تستحق عملية إعادة الطبيعة البرية في المناطق الحضرية أن تشغل حيزاً يفوق كونها مجرد رقم في معادلة اقتصادية أو رقم في بيان للميزانية تتم مقارنته بالبدائل التي تحقق ربحية أعلى. فجزء من قيمة هذه العملية لا يمكن قياسه، لا سيما تلك العوامل التي تؤثر على جودة الحياة. فكيف لك أن تقيم الراحة والسلام الداخلي؟ إن هذه المناقشات، والتي تدور حول أولويات المجتمع، مستمرة… لكن الصورة لم تكتمل بعد.
لا تتعلق فكرة استعادة الطبيعة البرية بالنباتات والأشجار فحسب، بل تشمل الحيوانات والحشرات أيضاً. فإذا كنا نسعى لزيادة مساحة الطبيعة البرية في بلداتنا ومدننا، فكيف لنا أن نضمن التعايش الآمن مع البشر؟ تشير تقارير صادرة عن المراكز الأمريكية لمكافحة الأمراض والوقاية منها إلى أن 60% من الأمراض المعدية التي تصيب البشر يمكن أن تنتقل من الحيوانات، وأن ثلاثة أرباع الأمراض المعدية التي ظهرت حديثاً بين البشر تأتي بشكل أساسي من الحيوانات. وقد حصدت هذه “الأمراض الحيوانية المنشأ“، مثل كوفيد-19 والإيبولا ومتلازمة الشرق الأوسط التنفسية والسارس أرواح الملايين. ومن أجل الاستعداد لمواجهة هذه الأوبئة وانتشارها في المستقبل، يتعين علينا أن نستثمر بشكل أكبر في مجال اللقاحات، وتسخير القوة المتنامية للذكاء الاصطناعي لمساعدتنا على أن نسبق مسببات الأمراض الناشئة بخطوة.
في هذا الصدد، يجب أن نعي أن إعادة الطبيعة البرية إلى المناطق الحضرية – ما لم يتم تضمينها في استراتيجية اجتماعية واقتصادية شاملة، من الممكن أن يتمخض عنها عواقب وخيمة وغير مقصودة، لاسيما في هذه الأوقات التي نعاني فيها من وجود الصعوبات المالية. وقد يشمل تجديد الأحياء القديمة المناطق الخضراء التي جرى اختيارها حديثاً، وهو الأمر الذي من شأنه أن يؤدي إلى ارتفاع أسعار المنازل في المنطقة واتساع الفجوة بين الأغنياء والفقراء.
وتحتاج معظم المخططات أو البرامج الخاصة باستعادة الطبيعة البرية إلى إنفاق الأموال أولاً، وغالبًا يكون ذلك خارج إطار السلطات الحاكمة. فعادة ما يكون الدعم الحكومي محدود ويتعذر الاستفادة منه، ولذلك قد تتوقف العديد من المخططات عند نقطة البداية. ويحتاج المشرعون إلى إيجاد مسارات سريعة لتنفيذ الطروحات التي تتعلق باستعادة الطبيعة البرية واستيعابها في حدود الميزانيات المتاحة.
ولا شك أننا نحتاج إلى أن تأتي الاستثمارات بطريقة أو بأخرى من القطاع الخاص.
ويهدف صندوق المملكة المتحدة للاستثمار في البيئة الطبيعية والجاهزية (NEIRF) إلى الاضطلاع بهذا الدور، فهو يقدم مئات الآلاف من الجنيهات الاسترلينية للسلطات المحلية والشركات والمجموعات التطوعية من أجل تطوير المشروعات الخاصة بالطبيعة إلى أن يمكن لتلك الجهات الاعتماد على استثماراتها الخاصة.[11]
ومن المنتظر أن يستفيد من الصندوق بشكل مبدئي أكثر من 50 برنامج، بما في ذلك الخطط الخاصة باستعادة الأراضي الخثية، وتحسين القدرة على مقاومة الفيضانات، وإنشاء مساحات حضرية خضراء جديدة. إلى جانب ذلك، تهدف حكومة المملكة المتحدة إلى تشجيع القطاع الخاص على استثمار ما يقرب من 500 مليون جنيه إسترليني سنوياً بحلول عام 2027 في دعم استعادة الطبيعة، على أن تزيد هذه الاستثمارات إلى ما لا يقل عن مليار جنيه إسترليني سنوياً بحلول عام 2030.
ويلعب أصحاب المصلحة في القطاع الخاص دوراً مهماً فيما يتعلق بعملية إعادة الطبيعة البرية إلى المناطق الحضرية من خلال دورهم كملاك للأراضي. ففي الولايات المتحدة الأمريكية، على سبيل المثال، يمتلك الأفراد والشركات الخاصة حوالي 60% من إجمالي الأراضي[12] . وفي كثير من الحالات، فإن القطاع العام هو الذي سوف يحدد ما إذا كان من الممكن إعادة إحياء قطعة من الأرض لتصبح ليس فقط نابضة بالحياة، بل أيضاً خضراء. ونظراً لأن العلاقات العامة تستفيد بلا شك من الثورة البيئية، فإننا نأمل أن يقرر المزيد من أصحاب النفوذ في القطاع الخاص المشاركة في قصة استعادة الطبيعة البرية.
خطوات بسيطة قد تحدث فارقاً كبيراً
من السهل أن يدرك المرء سبب الاهتمام بفكرة إعادة الطبيعة البرية إلى المناطق الحضرية. فالمؤيدون للفكرة يؤكدون أننا في نهاية المطاف سننعم بمساحات للمعيشة أكثر نظافة واستدامة وجمالا. كما أن استعادة الطبيعة البرية ستسهم في التصدي لتغير المناخ على المستوى المحلي وفي الحفاظ على سلامة المحيط الحيوي الأوسع. أما فيما يتعلق بسكان المدن الذين يواجهون بالفعل خطر الانفصال عن إيقاعات الطبيعة، فإن الواحات الخضراء سوف تعزز اتصالهم مع العالم الخارجي. وهناك بيانات تشير إلى أن الأطفال الذين ينشئون في مناطق أكثر خضرة يتمتعون بمعدل ذكاء أعلى ويظهرون سلوكًيات أقل معاداةً للمجتمع وتتراجع بينهم معدلات الجريمة.[13]
لا تقتصر إعادة الطبيعة البرية إلى المناطق الحضرية على فئة دون الأخرى. فمبادئها لا تخص المشروعات الضخمة التي تقام على مستوى المدينة وتصل ميزانياتها إلى الملايين وحسب. فبغض النظر عن تواضع ممتلكات المرء، من الممكن دائماً البدء والانضمام إلى ثورة التغيير. حيث يمكننا جميعاً إنشاء موائل صديقة للكائنات في الأماكن المفتوحة الموجودة لدينا، وقد يكون ذلك في صورة صناديق للطيور أو بيوت الحشرات. كما يمكننا زراعة الأسياج النباتية أو صناديق النوافذ. وكذا زراعة الزهور الملائمة للملقحات في أي قطعة من المساحات الخضراء المتاحة لدينا.
لقد حظي توجه استعادة الطبيعة البرية بدعم من السير ديفيد أتينبورو، عالم الأحياء والمؤرخ الطبيعي الأول في المملكة المتحدة، والذي دعانا جميعاً في عام 2020 إلى أن “نعيد الحياة البرية إلى العالم”[14].
فهل من فرصة لتخضير كوكبنا إذا أغفلنا الأدلة التي تطل علينا من نوافذنا؟
فنحن عندما نرى الخرسانة والأسفلت والفولاذ، لا يتطلب الأمر سوى قدر بسيط من إعمال الخيال حتى نسمع صراخ وأنين يطالب بالقليل من اللون الأخضر الزاهي.
وإذا كنا بالفعل على شفا الانقراض الجماعي السادس[15]، وفجر عصر الأنثروبوسين، فإن إعادة الطبيعة البرية إلى المناطق الحضرية تقدم نموذجاً واعداً للتعايش بين الإنسان والطبيعة ــ وهي الأداة المفاهيمية المثالية لمحو ذلك الخط الذي يفصل منذ قديم الأزل بين المدينة والريف. كما أنها إحدى طرائق تعويض المحيط الحيوي عن المتاعب التي ألحقناها به؛ وإحدى السبل كي نقدم للأجيال القادمة وعداً بأننا نهتم بشأن العالم الذي سنتركه خلفنا.
1] https://www.citizenzoo.org/CZ/urbanrewilding/
[2] https://www.who.int/news/item/12-05-2016-air-pollution-levels-rising-in-many-of-the-world-s-poorest-cities
[3] https://www.independent.co.uk/climate-change/news/rewilding-extinction-climate-change-biodversity-summit-co2-b1050021.html
[4] https://theconversation.com/urban-greening-can-save-species-cool-warming-cities-and-make-us-happy-116000
[5] https://www.ncbi.nlm.nih.gov/pmc/articles/PMC9754067/
[6] https://www.weforum.org/agenda/2021/06/8-cities-rewilding-their-urban-spaces/
[7] https://www.c40knowledgehub.org/s/article/Urban-rewilding-the-value-and-co-benefits-of-nature-in-urban-spaces?language=en_US
[8] https://www.london.gov.uk/media/100509/download
[9] www.rewildingbritain.org.uk/why-rewild/benefits-of-rewilding/nature-based-economies
[10] https://www.london.gov.uk/programmes-strategies/environment-and-climate-change/parks-green-spaces-and-biodiversity/green-space-funding/greener-city-fund
[11] https://www.gov.uk/government/news/50-projects-receive-up-to-100000-each-to-boost-investment-in-nature
[12] https://naldc.nal.usda.gov/download/CAT87209991/PDF
[13] https://www.theguardian.com/environment/2020/aug/24/children-raised-greener-areas-higher-iq-study
[14] https://blog.sciencemuseum.org.uk/rewilding-the-world/
[15] https://www.worldwildlife.org/stories/what-is-the-sixth-mass-extinction-and-what-can-we-do-about-it