كثيراً ما أجد نفسي متحمساً – وربما شغوفاً – للتأمل في أسباب ووتيرة وطبيعة التغيرات البيئية التي لا نتوقف عن إثقال كاهل كوكبنا بها يوماً بعد يوم، وساعة بساعة. وهذا إنما يرجع لخطورة هذه القضية وحساسيتها البالغة على المستوى العام وبالنسبة لي شخصياً. 

ولقد كتبت سابقاً عن المخاطر المتزايدة التي تشكلها حرائق الغابات، و التصحر وارتفاع درجات الحرارة العالمية، وكذلك حول أهمية تعزيز الأمن الغذائي وتوفير المياه لشتى المناطق المحرومة في جميع أنحاء العالم. وهذه كلها تحديات عالمية هائلة تتطلب استجابة عالمية توازي ما تحمله هذه التحديات من مخاطر، ولكن دون أن نتغافل عن القضية البيئية الأولى التي تغذي كل هذه الأزمات، والتي تتجسد في جانب قد لا نلحظه في كثير من الأحيان، رغم قدرته الهائلة على إحداث أضرار بيئية ومالية جسيمة في كوكبنا. وهنا أتحدث عن الطقس، وتحديداً، إخفاقنا المتزايد في التنبؤ بأحوال الطقس.

وقد سمعنا جميعاً عن عشرات الكوارث المناخية التي ضربت الأرض في عام 2022، مخلفةً وراءها خسائر بمليارات الدولارات، إلى حد أن عام 2022 كان ثاني أكثر الأعوام تكلفة على الإطلاق من حيث حوادث الجفاف [1]. ويكفينا أن نعرف أن العام ذاته شهد ثلاث كوارث ضخمة كلفت وحدها ما لا يقل عن 29 مليار دولار أمريكي [2]، بالإضافة إلى موجة حر تسببت في فوضى عارمة في أوروبا [3]، ناهيك عن الفيضانات الموسمية التي شهدتها الهند وباكستان وجلبت معها الموت والدمار لآلاف المجتمعات. 

بل ولم نكد نصل إلى منتصف عام 2023 حتى فاجأتنا الفيضانات في كاليفورنيا، ودرجات حرارة تصل -28 درجة مئوية في أفغانستان؛ وفي أوروبا، نرى منتجعات التزلج تغلق أبوابها لكون أن الجو دافئ جداً إلى حد يتعذر معه ممارسة هذه الرياضة [4].  وفي الجنوب الأفريقي، أدى إعصار فريدي إلى نزوح أكثر من 80 ألف شخص في جميع أنحاء موزمبيق وملاوي ومدغشقر، ليصبح بذلك واحداً من أطول الأعاصير أمداً في نصف الكرة الجنوبي، حيث سجلت الأرض ثاني أطول إعصار في عام 2016. 

وفي أبريل 2023، اجتاحت العواصف والأعاصير بلدة رولينج فورك الصغيرة في ولاية ميسيسيبي بالولايات المتحدة الأمريكية، مما أسفر عن مقتل 25 شخصاً على الأقل. ويبدو أن الإعصار نفسه كان استثنائياً، إذ بلغت حدته “أربعة درجات” على مقياس فوجيتا المحسن، ما يعني أن سرعة الرياح التي صاحبت الإعصار كانت ما بين 110 إلى 135 ميلا في الساعة، إلى حد أنها قذفت بالحطام على ارتفاع 30,000 قدم (9 كم) في الهواء[5]، حتى أن هيئة الأرصاد الجوية الوطنية في الولايات المتحدة صرحت بأن هذا النوع من العواصف نادر جداً وواحد من أكثر العواصف تدميراً.

تأثير المناخ على الطقس

ثمة علاقة قويّة بين تغيّر المناخ والظواهر الجوية المتطرفة. ولفهم هذه الصلة علينا أن ندرك أن الغلاف الجوي السفلي للأرض يزداد رطوبةً ودفئاً بسبب غازات الدفيئة التي يعود منشأها إلى الأنشطة البشرية على الكوكب، وهي ذاتها التي تؤدي إلى تهيئة الظروف التي تنشط فيها العواصف والأعاصير وغيرها من الظواهر الجوية المتطرفة[6]، التي يُعرّفها العلماء بأنها أحداث جوية تختلف عن 90% -95% من الظواهر المناخية السابقة في ذات المنطقة.

وها نحن نرى كيف أصبحت وتيرة هطول الأمطار الغزيرة وتساقط الثلوج التي تزيد من خطر الفيضانات أكثر تكراراً، وكيف تسبب الاحترار العالمي في جعل موجات الحرارة أكثر شيوعاً وشدة وطولاً من حيث مدتها، كما أوضحتُ في مقالتي السابقة  حرائق الغابات. وقد كشف تقرير التقييم الوطني للمناخ لعام 2018 أن تواتر موجات الحرارة في الولايات المتحدة قد تضاعف بنحو ثلاث مرات منذ الستينيات، وأن متوسط موسم موجات الحرارة زاد بمقدار 45 يوماً[7].  فيما يتوقع الفريق الحكومي الدولي المعني بتغير المناخ (IPCC) اتجاهاً مماثلاً في جميع أنحاء العالم.

وقد رأينا كذلك كيف أن موجات الحرارة باتت تضرب مناطق مختلفة في وقت واحد وبشكل متكرر ولفترة أطول من المعتاد، مما أدى إلى ظهور مصطلح “موجات الحر المتزامنة”، والذي يشير إلى تعرض منطقتين من المناطق الواقعة على خطوط العرض الوسطى لموجات حرارة كبيرة في وقت واحد. وللتدليل على زيادة وتيرة هذه الموجات، يكفي أن نعرف أن حقبة الثمانينيات شهدت موجات حرارة متزامنة لمدة 20-30 يوماً فقط كل صيف، في حين أن نعيشها كل يوم تقريباً في موسم الصيف من هذا العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين. وهكذا فقد أدى الاحترار العالمي إلى زيادة ملحوظة في تواتر موجات الحرارة المتزامنة بنحو ستة أضعاف على مدار الأربعين عاماً الماضية – وهي تغطي مساحة أكبر بنسبة 46% وتتجاوز حدتها 17% أعلى مما كانت عليه قبل 40 عاماً[8].

لكن تبعات ارتفاع درجات الحرارة لا تقتصر على الجفاف وحرائق الغابات، بل تمتد إلى الأعاصير التي تزداد شراسة بشكل متزايد في ظل تفاعل المحيطات الأكثر سخونة مع الغلاف الجوي الأكثر دفئاً ورطوبة، وهو ما يعني أننا قد نشهد أعاصير أشد وطأة وتأثيراً وأطول مدة في قادم الأيام، يصاحبها بالطبع هطولاً غزيراً للأمطار، وآثاراً مدمرة في مناطق جديدة. وما يزيد الأمر تعقيداً هو ارتفاع منسوب سطح البحر نتيجة ذوبان القمم الجليدية القطبية، والذي سيؤدي بدوره إلى اندفاع كميات هائلة من مياه البحر إلى الشاطئ أثناء العواصف الساحلية. ومع تزايد تدفق مياه البحر وكمية الأمطار، فلا يسعنا سوى أن نتوقع مزيداً من العواصف العاتية والفيضانات المدمرة.

تغيير أنظمة الطقس

إن الاحتمال الراجح لدينا وبقوة هو أن الاحترار العالمي سيؤدي إلى أعاصير أكثر حدة، لكننا لا نعلم تماماً ما إذا كان سيؤدي أيضاً إلى زيادة في تواترها. وبالمثل، لا يمكننا الجزم بأن العالم سيشهد مزيداً من الأعاصير في المستقبل، وهذا يرجع لعوامل أخرى غير مؤكدة مثل التغيرات في حركة الرياح الرأسية والأفقية – وإن كنا على يقين من أن بعض العوامل المسؤولة عن الأعاصير ستتفاقم بالتوازي مع تصاعد ظاهرة الاحتباس الحراري.

لكن الحقيقة المؤكدة هي أنظمة الطقس معقدة جداً إلى حد أن كل ظاهرة مناخية متطرفة تعتمد في حدوثها على تضافر العديد من العوامل في آن واحد. فعلى سبيل المثال، تعد ظاهرتيّ “النينيو والنينيا” من أكبر التقلبات في نظام مناخ الأرض[9]، ويمكن أن يكون لهما تبعات ملحوظة على أنماط الطقس في جميع أنحاء العالم.

تشير ظاهرة النينيو إلى ارتفاع درجة حرارة سطح البحر الذي يحدث كل بضع سنوات، وعادةً ما يتم الإعلان رسمياً عن ظاهرة النينيو عندما ترتفع درجات حرارة البحر في منطقة وسط شرق المحيط الهادئ الاستوائي بمقدار 0.5 درجة مئوية فوق المتوسط طويل المدى، بحيث تصبح مياه البحر أكثر دفئاً من متوسط الطقس في شرق المحيط الهادئ. أما ظاهرة النينيا فهي تشير إلى انخفاض درجات حرارة إلى أدنى من المتوسط في منطقة المحيط الهادئ الاستوائية، مما يؤدي إلى طقس أكثر برودة وجفافاً.

لكن المحصلة واحدة في كلتا الظاهرتيّن، النينيو والنينيا، إذ أنهما تؤثران على أنماط هطول الأمطار، والضغط الجوي، ودورة الغلاف الجوي العالمي، أو حركة الهواء المسؤولة عن توزيع الطاقة الحرارية على سطح الأرض، إلى جانب التيارات المحيطية. وهذه التغييرات هي المصادر الرئيسية لتقلب المناخ في العديد من المناطق في جميع أنحاء العالم. وتُعرف ظاهرتي النينيو والنينيا معاً باسم “التذبذب الجنوبي لظاهرة النينيو” (ENSO)، أي التذبذب في تغيرات الضغط الجوي بين شرق وغرب المحيط الهادئ الاستوائي المصاحبة لظاهرة النينيو والنينيا في البحر.

تظهر الأبحاث أن دورة “التذبذب الجنوبي لظاهرة النينيو” تُلقي بتأثيرات ملموسة على الكوكب بأسره. على سبيل المثال، يمكن أن تزيد سنوات النينيو من مخاطر فصول الشتاء الباردة في المملكة المتحدة، وقد تؤدي كذلك إلى طقس أكثر برودة ورطوبة في جنوب الولايات المتحدة، في حين أنها قد تقلل من احتمالية حدوث عواصف استوائية في شمال المحيط الأطلسي. وفي المقابل، نجد أن ظاهرة النينيا تزيد من احتمالية حدوث العواصف الاستوائية في المحيط الأطلسي، والرياح الموسمية في جنوب شرق آسيا، وتفاقم مخاطر الفيضانات في أستراليا، وهذا على سبيل المثال فقط.

أسباب غير مؤكدة

بشكل عام، النينيو والنينيا هي أنماط استثنائية لتقلبات المناخ الطبيعية، وتتشكلان تحت تأثير العديد من العوامل المتفاعلة. وفي هذا الصدد، تقول كارولين وينرايت، عالمة المناخ في إمبريال كوليدج لندن، أن “كل ظاهرة ما هي إلا مزيج من تغير المناخ وتقلب المناخ”[10]. وهذا قد يجعل من الصعب عزو ظاهرة جوية متطرفة معينة إلى تغير المناخ الناجم عن الأنشطة البشرية. صحيح أن المشككين في تغير المناخ قد يحتجون بهذه الفرضية في ادعائهم بأن “الظواهر المناخية المتطرفة كانت قائمة على مر الزمان”، لكن الدراسات تؤكد أن المناخ الدافئ بشكل عام يجعل الظاهرة المناخية أكثر حدة أو يجعل حدوثها أكثر ترجيحاً[11].

ولعل الفيضانات الأخيرة التي غمرت ثلث مناطق باكستان هي خير دليل على ما يمكن أن يحدث حال تضافر العديد من العوامل معاً لتشكيل ظاهرة جوية معينة.  ولنا أن نعرف مثلاً أن كل درجة مئوية إضافية تؤدي إلى زيادة رطوبة الهواء بنسبة 7%، وهو ما يعني هطول أمطار أكثر غزارة مع تزايد خطر الفيضانات.  يؤثر الاحترار العالمي أيضاً على الأنهار الجليدية في أعالي الجبال، بمعنى أن المياه الناتجة عن ذوبان الجليد في الربيع ستُضاف إلى المياه التي كانت محبوسة في الجليد سابقاً.  ففي عام 2022، أدت درجات الحرارة المرتفعة على غير المعتاد في جبال الهيمالايا إلى ذوبان الأنهار الجليدية، ما أدى إلى زيادة الضغط على نهر السند والممرات المائية الأخرى التي تعاني من صعوبة في احتواء الأمطار الغزيرة الناجمة عن الرياح الموسمية الناتجة عن ظاهرة النينيا.  ومن بين المؤشرات الأخرى الدالة على تغير المناخ هو أن معدل هطول الأمطار في باكستان، ككل، بلغ 243% أكثر من المعتاد خلال هذه الفترة، وسجلت أعلى نسبة رطوبة في أغسطس منذ عام 1961[12].

والواقع أننا عالقون في حالة من عدم اليقين لعجزنا عن فهم حقيقة ما يشهده طقس العالم من تغييرات، وهذا لأننا لا نعي حقاً كيف يمكن لظاهرة مثل دورة التذبذب الجنوبي لظاهرة النينيو أن تتأثر بتغير المناخ. كان العام 2022، على سبيل المثال، هو العام الثالث على التوالي الذي تحدث فيه ظاهرة النينيا، وهي المرة الأولى التي يتم فيها تسجيل هذه الظاهرة لثلاث سنوات متتالية في هذا القرن. وفي العادة، تستمر دورة ظاهرة التذبذب الجنوبي لظاهرة النينيو لثلاث إلى سبع سنوات، وغالباً ما تكون ظواهر النينيو القوية متبوعة بظاهرة النينيا التي تُحدث نوعاً من التوازن في المناخ.

أصبحت سنوات النينيا أيضاً أكثر دفئاً وتكراراً. ففي مارس 2022، أعلنت السلطات المسؤولة عن الحاجز المرجاني العظيم في أستراليا أن الشعاب المرجانية تعرضت لتبيض جماعي، وهي ظاهرة تؤدي بالشعاب المرجانية إلى طرد الطحالب التكافلية كرد فعل لارتفاع درجات الحرارة[13]. كان ذلك الحدث هو السادس من نوعه في العصر الحديث، لكنه كان الأول من نوعه في سنوات النينيا. وهذا يدفعنا إلى القول بأن ظاهرة النينيا لعام 2020 قد تكون نذيراً لما نحن مقدمون عليه في ظل ارتفاع درجات الحرارة وتزايد الفيضانات وموجات الجفاف الشديد.

التحكم في الطقس

في مواجهة تزايد وتيرة أنماط الطقس الشاذة، حاولت بعض البلدان أن تمد يد العون للطبيعة باستخدام تقنية تعرف باسم ‘استمطار السحب’، وذلك بهدف تعديل كمية أو نوع هطول الأمطار الناتج عن السحب. بينما سعت دول أخرى إلى التخفيف من آثار تغيّر المناخ من خلال تعزيز بنيتها التحتية. وهذه لا شك جهود حسنة النيّة على المدى القصير، لكن المخاطر الناجمة عن التدخل المباشر في أنماط الطقس قد تكون أشد وطأة مما يمكننا تصوره، وقد يُؤدي بنا إلى الوقوع ضحية في فخ «قانون العواقب غير المقصودة»، مثلما حدث تماماً في قصة توماس ميدجلي جونيور، الرجل الذي كان يعتبر ذات يوم أعظم مخترع في العالم[14]

توماس ميدجلي جونيور هو مكتشف طريقة خلط الرصاص على البنزين، والتي أدت إلى جعل محرك الاحتراق الداخلي أكثر كفاءة، وإليه أيضاً يُنسب الفضل في تحضير غاز الفريون، أول مركبات الكربون الكلورية فلورية على الإطلاق، والتي مكنت الثلاجات من العمل بأمان. وهكذا ساهم ميدجلي في صنع سيارات أسرع وأكثر قوة وثلاجات أكثر برودة وكفاءة. لكن يبدو أننا تأخرنا كثيراً قبل أن نكتشف حجم التأثيرات الهائلة لكلا الابتكارين، والتي تتجاوز بكثير ما كان ميدجلي نفسه يتوقعه.

فبعد عقود ليست بالقليلة، ثبت لنا وبالأدلة أن البنزين المحتوي على الرصاص لم يتسبب فقط في زيادة أمراض القلب والسكتات الدماغية والسرطان[15]، بل أدى أيضاً إلى زيادة تركيزات الرصاص في قلب الجليد القطبي بنسبة 350%. كما اتضح أن مركبات الكربون الكلورية فلورية هي نفسها غازات الدفيئة التي أحدثت ثقب طبقة الأوزون وأثارت فكرة تغيّر المناخ في الوعي العام.  

يزعم البعض أن استمطار السحب يحسن قدرة السحاب على إنتاج المطر أو الثلج عن طريق حقن نوى جليدية صغيرة، مثل يوديد الفضة، في أنواع معينة من السحب تحت درجة التجمد، حيث تُوفر هذه النوى قاعدة لتكوين ندفات الثلج. وتستخدم دول جنوب شرق آسيا هذه التقنية للتخلص من ضباب موسم الجفاف، بينما تستخدمها منتجعات التزلج في أمريكا للإبقاء على الثلوج في مسارات التزلج[16]

وفي الآونة الأخيرة، أطلقت دولة الإمارات أحد أكبر برامج استمطار السحب في العالم، ونفذت بالفعل نحو 200 مهمة سنوياً من مركز استمطار في أبوظبي، متجاوزةً الصين[17] التي تنفق ما لا يقل عن 200 مليون دولار أمريكي سنوياً على برنامجها لاستمطار السحب، الذي شمل في عام 2018 وحده حوالي 5 ملايين كيلومتر مربع، أو أكثر من نصف أراضي الصين البرية، مع عزمها توسيع هذا النطاق بنحو 100,000 كيلومتر مربع كل عام.  وتقول الحكومة أن الاستمطار السحابي ينتج حوالي 50 مليار متر مكعب من الأمطار أو الثلوج الإضافية في جميع أنحاء البلاد كل عام- أي ما يعادل حوالي 8% من إجمالي الطلب على المياه. بينما في العاصمة الجافة، بكين، يمكن أن يؤدي الاستمطار إلى زيادة هطول الأمطار بنسبة 15%.

وعلى الرغم من ضخامة هذه الاستثمارات، إلا أن الدراسات العلمية المستقلة حول فعالية الاستمطار السحابي تبدو أقل من مقنعة. ففي عام 2019،  صرّح العلماء المنتسبون إلى المنظمة العالمية للأرصاد الجوية أن أنشطة صناعة الأمطار غالباً ما تستند إلى “فرضيات جوفاء لا تقوم على أساس علمي سليم”[18]. والواقع أن التطورات الحديثة في نمذجة الرادار والحاسوب ساعدت في إجراء اختبارات أكثر دقة في هذا الخصوص، بحيث أن الإجماع العلمي يتجه حالياً إلى نتيجة مفادها أن استمطار السحب يمكن أن يزيد قليلا من تساقط الثلوج في سياقات معينة[19]، لكنه نادراً ما يكون على النطاق الذي يدعيه مؤيدوه.

وثمة نوعان رئيسيان آخران من تعديل الطقس يهدفان إلى ترويض بعض الظواهر المتطرفة [20] التي نتعرض لها بشكل متزايد. تعتمد إحدى هذه الطرق على ما يعرف بـ «تسميد المحيطات»، كطريقة لزيادة قدرة المحيطات على امتصاص ثاني أوكسيد الكربون، بينما تركز الطريقة الأخرى على تبييض السحب أو الجليد لعكس المزيد من ضوء الشمس ومن ثم تقليل الاحترار العالمي أو المحلي.

وعلى صعيد آخر، يعتزم مشروع القطب الشمالي للجليد [21]، وهو منظمة غير حكومية، نشر حبات زجاجية مجوفة صغيرة مصنوعة من ثاني أكسيد السيليكون فوق أجزاء من جليد بحر القطب الشمالي والمحيط المتجمد الشمالي لزيادة الانعكاسية وإبطاء ظاهرة الاحتباس الحراري.  وفي الوقت نفسه، تختبر الجامعات الأسترالية إمكانية رش رذاذ الملح فوق الحاجز المرجاني العظيم لعكس المزيد من أشعة الشمس وحماية الشعاب المرجانية، في عملية تعرف باسم ‘تبييض السحب’.

ومع ذلك، فإن التأثير المتوسط إلى طويل الأجل للعديد من تقنيات تعديل الطقس هذه لا يزال غير واضح. فعلى سبيل المثال، ثمة مخاوف من أن تؤدي عملية تبييض السحب إلى آثار ضارة على النظم البيئية والزراعة والاحتباس الحراري.

ويحذر الفريق الحكومي الدولي المعني بتغير المناخ[22] من أن تبييض السحب يمكن أن يستنفد طبقة الأوزون ويغير أنماط الطقس الإقليمية، في حين أن تأثيره في الحد من ظاهرة تحمض المحيطات قد لا يكون كبيراً. كما أن الحد من ظاهرة الاحتباس الحراري بشكل هادف ومفيد، يتطلب أن يحدث تبييض السحب لفترة طويلة من الزمن. وإذا ما توقف تبييض السحب، بسبب تغييرات السياسات أو القيود المالية أو القضايا الجيوسياسية، فهناك خوف من أن الاحترار العالمي قد يتفاقم بشكل أقوى مما كان عليه في السابق.    

التكيف أم المنع؟

في ظل حالة عدم اليقين التي تحيط بتقنيات تعديل الطقس، قد يُثار سؤال جوهري حول ما إذا كان علينا أن نركز جهودنا على التكيف مع المناخ المتغير والمخاطر المتزايدة الناشئة عن الظواهر الجوية المتطرفة؟  

الواقع هو أن الإجابة على هذا السؤال أبعد ما تكون الوضوح، خاصة إذا ما علمنا أن إحدى المفارقات المؤسفة لتغيّر المناخ والظواهر الجوية المتطرفة هي أن المجتمعات الأكثر عرضة للخطر غالباً ما تفتقر إلى الموارد اللازمة للتعامل مع هذه المعضلة المناخية. على سبيل المثال، في صيف عام 2021، بلغت درجات الحرارة في كولومبيا البريطانية على ساحل المحيط الهادئ في كندا 49.6 درجة مئوية[23]. وفي الوقت نفسه، تجاوزت درجات الحرارة في العراق 50 درجة مئوية، مما أدى إلى انقطاع التيار الكهربائي في أغلب مناطق البلاد.  صحيح أن موجة الحر التي ضربت كندا كانت أكثر غرابة من نظيرتها في العراق، لكن كندا، وعلى عكس العراق، تزخر بشتى الموارد اللازمة لتحمل مثل هذا الموقف والتعامل معه.

وثمة أيضاً خطر لا يُستهان به أشار إليه تقرير الفريق الحكومي الدولي المعني بتغير المناخ لعام 2022[24]، وهو أننا نتسبب عن غير قصد في ضرر أكثر مما ننفع من خلال جهودنا لكبح الآثار المباشرة للظواهر المناخية المتطرفة. على سبيل المثال، ثبت أن بناء جدار بحري لحماية منطقة ما من ارتفاع منسوب مياه البحر وعرام العواصف يمكن أن يتسبب في تغيير نمط التيارات الساحلية، مما يؤدي إلى تفاقم ظاهرة تآكل الشواطئ في أماكن أخرى، وربما تغيير خصائص الثروة السمكية المحلية، مما يؤثر سلباً على التنوع البيولوجي البحري. وفي حالات أخرى، يمكن أن يؤدي بناء نظام ري قائم على مجرى نهري في منطقة تعاني من هطول غير منتظم للأمطار إلى الإفراط في استهلاك مياه النهر، مما يقلل الموارد المائية المتاحة للناس بمرور الوقت.

ومن شأن هذا النوع من التدابير أن يضفي أيضاً إحساسا زائفاً بالأمان. ولدينا بالفعل حالة واقعية لذلك كما في بنغلاديش[25]، التي شرعت في بناء سدود لحماية الناس من فيضانات نهر جامونا،  وهو ما أدى إلى تدافع الناس للعيش في السهول الفيضية، معتقدين أن السدود ستحميهم من خطر الفيضانات. لكن هذا في الواقع يُعرض المزيد من الناس للخطر حال انهيار السد.  

الحل يكمن في التدابير المتوازنة

الاستنتاج الوحيد الذي يمكننا التوصل إليه في هذه الظروف هو أنه مهما فعلنا، علينا أن نوازن دائماً بين هاتين الأولويتين. بمعنى أنه لا يمكننا اتخاذ أية تدابير الآن للتخفيف من آثار الظواهر الجوية المتطرفة إذا ما ثبت لنا أن هذه التدابير من شأنها أن تؤدي إلى مشاكل إضافية، أو عواقب أسوأ، في المستقبل.  ولا يمكننا في ذات الوقت أن نركز كل اهتمامنا على المستقبل، على حساب ملايين الناس الذين يتعرضون لأخطار متزايدة بسبب الأحوال الجوية غير المتوقعة. الخلاصة، علينا أن نحاول القيام بالأمرين في آن واحد. وهذا لا يتأتى إلا من خلال مضاعفة جهودنا نحو تحقيق الصفر الصافي من الانبعاثات في سبيل إبطاء معدل الاحترار العالمي، مع التركيز على استغلال أفضل ما لدينا من معارف وتقنيات وموارد في التخفيف من آثار الظواهر الجوية المتطرفة الناجمة عن تغير المناخ. 

وإذا ما تحدثنا عن العمل الميداني، أقول وبكل فخر أنه بالنسبة لعبداللطيف جميل على الأقل، هذه ليست مجرد كلمات، فنحن – كما يقولون- نتبع القول بالفعل. ولهذا أطلقنا “شبكة مرصد جميل لنظام الإنذار المبكر من تغيرات المناخ” (Jameel Observatory-CREWSnet)، وهي مشروع مشترك بين معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا و مجتمع جميل، وأحد المشاريع المشاركة في سباق الابتكار الذي تديره «قمة مهمة الابتكار الزراعي من أجل المناخ 2023» (AIM4C).

قمة مهمة الابتكار الزراعي من أجل المناخ هي مبادرة مشتركة بين الولايات المتحدة والإمارات العربية المتحدة تستهدف تعزيز العمل المناخي من خلال تسريع الابتكار والاستثمار في النظم الزراعية والغذائية. فيما يتوقف قبول المشاريع للمشاركة في سباق الابتكار على اجتياز مجموعة من المعايير التنافسية منها التميز العلمي وحجم الدعم المالي للمشروع، ومن ثم  تعمل القمة على تسريع تأثير المشاريع الفائزة على أرض الواقع.

وأشير هنا إلى أن “شبكة مرصد جميل لنظام الإنذار المبكر من تغيرات المناخ”[26] هي واحدة من المبادرات الخمس الرئيسية التي يديرها معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا ضمن مساعيه لمواجهة تحديات المناخ الكبرى،  وتهدف إلى تمكين المجتمعات حول العالم من التكيف مع الصدمات المناخية من خلال الجمع بين أحدث تقنيات التنبؤ بالمناخ والتغييرات الاجتماعية والاقتصادية من جهة، والحلول التكنولوجية من جهة أخرى. وقد تقرر إطلاق أولى المشاريع التجريبية للشبكة في بنغلاديش والسودان، بهدف تمكين المزارعين من مواجهة الظواهر الجوية المتطرفة من خلال تزويدهم بتنبؤات الطقس، وإمدادهم بمختلف الأدوات الضرورية مثل البذور المقاومة للحرارة والأسمدة عالية الفعالية. وغايتنا من كل ذلك هي إتاحة معلومات كافية للمجتمعات حول أحوال الطقس المتوقعة لمساعدتهم على التأهب للمخاطر والتعامل معها. وفي سبيل ذلك، نعمل على الخروج بمخرجات البحث العلمي من المختبر إلى أرض الواقع، آملين أن تساعد في التخفيف من حدة الفقر من خلال تحسين الإنتاجية.

ختاماً، علينا أن ندرك حجم التحدي الجسيم الذي نواجهه في مساعينا لإبطاء معدل ارتفاع درجة حرارة الكوكب وتخفيف وطأة تغير المناخ،  وأنه لا سبيل أمامنا أيضاً سوى أن نتقبل هذا التحدي، وأن نعمل على تجاوزه بأي شكل من الأشكال. ومع أننا ندرك يقيناً أن الأمر أبعد ما يكون عن السهولة،  لكن أقل ما تُوصف به عواقب الفشل هو أنها كارثية بالمعنى الحرفي للكلمة.

 

[1] https://yaleclimateconnections.org/2023/01/dozens-of-billion-dollar-weather-disasters-hit-earth-in-2022/

[2] https://yaleclimateconnections.org/2022/10/world-rocked-by-29-billion-dollar-weather-disasters-in-2022/

[3] https://yaleclimateconnections.org/2023/01/dozens-of-billion-dollar-weather-disasters-hit-earth-in-2022/

[4] https://www.theweek.co.uk/news/environment/960113/the-most-extreme-weather-events-of-2023-so-far 

[5] https://www.bbc.co.uk/news/world-us-canada-65072195  

[6] https://royalsociety.org/topics-policy/projects/climate-change-evidence-causes/question-13/  

[7] https://www.weforum.org/agenda/2022/07/heat-waves-climate-change-europe-northern-hemisphere/

[8] https://www.weforum.org/agenda/2022/07/heat-waves-climate-change-europe-northern-hemisphere/

[9] https://oceanservice.noaa.gov/facts/ninonina.html

[10] https://www.economist.com/science-and-technology/2022/09/05/heatwaves-and-floods-around-the-world-may-be-a-taste-of-years-to-come

[11] https://royalsociety.org/topics-policy/projects/climate-change-evidence-causes/question-13/  

[12] https://www.worldweatherattribution.org/wp-content/uploads/Pakistan-floods-scientific-report.pdf

[13] https://www.economist.com/science-and-technology/2022/09/05/heatwaves-and-floods-around-the-world-may-be-a-taste-of-years-to-come

[14] https://www.nytimes.com/2023/03/15/magazine/cfcs-inventor.html

[15] https://www.unep.org/news-and-stories/press-release/era-leaded-petrol-over-eliminating-major-threat-human-and-planetary

[16] https://www.unep.org/news-and-stories/press-release/era-leaded-petrol-over-eliminating-major-threat-human-and-planetary

[17] https://www.economist.com/china/2021/03/25/cloud-seeding-will-not-solve-chinas-water-shortages

[18] https://www.economist.com/china/2021/03/25/cloud-seeding-will-not-solve-chinas-water-shortages   

[19] https://www.economist.com/china/2021/03/25/cloud-seeding-will-not-solve-chinas-water-shortages 5th paragraph

[20] https://www.chathamhouse.org/2022/02/geoengineering-reining-weather-warriors

[21]https://www.chathamhouse.org/2022/02/geoengineering-reining-weather-warriors    

[22] https://www.chathamhouse.org/2022/02/geoengineering-reining-weather-warriors

[23] https://www.economist.com/science-and-technology/2022/02/28/new-ipcc-report-over-3bn-people-face-rising-climate-change-threat/21807939

[24] https://www.ipcc.ch/report/ar6/wg2/  

[25] https://www.researchgate.net/publication/339003222_The_interplay_between_structural_flood_protection_population_density_and_flood_mortality_along_the_Jamuna_River_Bangladesh

[26] https://www.communityjameel.org/post/jameel-observatory-early-warning-system-selected-by-us-and-uae-governments-for-accelerated-deployment-at-climate-change-summit-in-washington-dc