من المزرعة إلى فم المستهلك – كيف نعالج أزمة الغذاء
في ضوء الزيادة السكانية المطردة في ربوع العالم، وصلت القضايا المتعلقة بأمننا الغذائي إلى منحنى خطر، بيد أن تنامي الوعي بمشكلة فقد الغذاء وهدره قد دفع كلاً من الشركات الخاصة والعامة إلى التحرك قدما نحو إيجاد حلول مستدامة.
بقلم فادي جميل، نائب الرئيس ونائب رئيس مجلس إدارة عبد اللطيف جميل
لن يتمكن المرء في واقع الأمر من إدراك كنه المشكلة ومدى سوئها إلا عندما يقرأ الأرقام المتعلقة بها قراءة متأنية. وفي هذا الإطار، أفاد التقرير الصادر عام 2019 من منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة أن تعداد سكان العالم قد بلغ نحو 7.6 مليار نسمة، من بينهم 820 مليون يئنون وطأة الجوع.[1] وعلى الرغم مما تظهره هذه الأرقام، فإن 30% من الغذاء الذي ننتجه على سطح الأرض لا يستهلك أبدًا.[2]
ولنتعرف على هذه الأرقام في سياقاتها، دعونا نضرب مثلا بالولايات المتحدة الأمريكية التي تتخلص سنويا من نحو 38 مليون طنا من الغذاء بما يربو على وزن “مبنى امباير ستيت” بنحو 104 مرة. أما اليابان، فإنها تتخلص من 19 مليون طنا سنويًّا، منها نحو 9 ملايين طنا يتم التخلص منها حتى قبل انتهاء فترة صلاحيتها؛ بينما تهدر الأسرة الواحدة في المملكة المتحدة تقريبا 78 دولارًا أمريكيًّا شهريا، إذ تتخلص مما يعادل وجبةً واحدةً كاملةً يوميا.[3]
وفي ضوء ما يتوقعه العلماء من وصول عدد سكان العالم إلى 9.8 مليار نسمة بحلول عام 2050 و11.2 مليار بحلول عام 2100،[4] تمثل أزمة فقد الغذاء وهدره أكثر القضايا الملحة التي تواجه عالمنا. وإذا ما استخدمنا لغة المال للتعبير عن هذه الأزمة، فإنه من المتوقع أن يصل الفاقد من الغذاء نحو 2.1 مليار طن بحلول عام 2030 بما يعادل 1.5 مليار دولارًا أمريكيًّا.[5]
ولكي نتمكن من التفرقة بين قضية فقد الغذاء وقضية هدره، فإن فقد الغذاء يقع بداية من عملية الحصاد ومرورًا بنقله وانتهاءً بتسليمه لبائعي التجزئة. وعلى الصعيد الآخر، فإن هدر الطعام يقع من جانب المستهلك وبائعي التجزئة ومقدمي الخدمات الغذائية مثل المطاعم، وبشكل أساسي، المنازل.
تمثل عملية إنتاج الغذاء في منبعه وما يليها من عمليات نقل له إلى السوق مشكلة رئيسة في هذا السياق، إذ يُفقد من الغذاء نحو 70% في مرحلة الحصاد وحدها إضافة إلى 14% أخرى تفقد في رحلة نقله إلى بائعي التجزئة، وذلك وفقا لتقرير منظمة الأغذية والزراعة التابعة لأمم المتحدة.
ويوضح الشكل أدناه، وهو منقول من تقرير لمعهد الموارد العالمية WRI))،[6] كيفية فقد الغذاء وهدره عبر السلسلة الغذائية.
وفي الوقت الحالي، فإن نحو 70% من منتجي الغذاء حول العالم من صغار الملاك الذين ليس لديهم من الإمكانات ما يمكنهم من استخدام التكنولوجيا والطرائق الحديثة للحصول على أعلى إنتاجية للمحاصيل.[7] ومن ثم، فإن أحد الحلول الرئيسة لتقليل الفاقد من الغذاء يكمن في تطوير الابتكارات لمد يد العون لهؤلاء الذين يمثلون الواجهة الأمامية للسلسلة الغذائية من أجل الحفاظ على إنتاجهم بطريقةٍ أفضل حتى يصل للسوق. ويظهر الشكل أدناه معدلات فقد الغذاء وهدره لكل كيلو جرام للفرد الواحد في مناطق مختلفةٍ من العالم، في كل من مرحلتي المنبع والاستهلاك.[8] ووفقاً لما يظهره الشكل التوضيحي، فإن فقد الغذاء يعد القضية الأكبر والأشد خطورة في هذا الصدد، وهو الأمر الذي يعزى على نحوٍ كبيرٍ إلى عملية التخزين غير الملائمة في المنبع وكذا عملية النقل لبائعي التجزئة. ومن المهم أيضاً في هذا الإطار أن نشير إلى أن معدلات هدر الطعام في الدول النامية، وعلى وجه الخصوص في أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى وتلك المناطق غير الصناعية في قارة آسيا، أقل بكثير جدا من نظيرتها في الدول المتقدمة والصناعية.
ومن بين مجمل البضائع التي تصل بأمان، فإن الهدر الحادث يعد مشكلةً مزمنةً. وفي هذا الصدد، يشير التقرير الصادر عن منظمة الأغذية والزراعة أن نسبة من 9% إلى 20% من الفاكهة ونسبة 14% إلى 37% من المنتجات الحيوانية يتم التخلص منها، إما من خلال بائعي التجزئة أو مقدمي الخدمات الغذائية أو المستهلكين النهائيين. وتأتي أعلى نسب الهدر من المناطق ذات الدخل المرتفع في قارة أمريكا الشمالية وأوروبا. فعلى سبيل المثال، بلغ معدل هدر الطعام في الولايات المتحدة 9% من عملية الإنفاق على الأغذية لكل شخص.[9]
التأثير البيئي
إن التأثيرات السلبية لفقد الغذاء لا تتوقف على خسارة قيمته المالية، بل تتعداه بكثير إلى غير ذلك من المساوئ، إذ تمثل نسبة انبعاثات غاز ثاني أكسيد الكربون العالمية الناتجة من الغذاء غير المأكول وحتى عملية التخلص منه نحو 7% من إجمالي انبعاثات الغازات المسببة للاحتباس الحراري (GHG). ويمتد الأمر على طول السلسلة الغذائية، بدايةً من عملية الإنتاج ومرورًا بعمليات النقل والمعالجة والتوزيع وانتهاءً بعملية الاستهلاك.[10]
أما برنامج الأمم المتحدة للبيئة، فإنه يرى المشكلة من منظورٍ مختلف، إذ يرى أنه إذا مُثلت نسبة الهدر من الطعام بدولة ما، فإنها ستعد ثالث أكبر مصدر لانبعاثات الغازات المسببة للاحتباس الحراري على مستوى العالم.[11]
وهنا تظهر مفارقة قاسية من مفارقات القدر.
ففي الوقت الذي تتنامى فيه أعراض التغير المناخي، فإن التأثيرات الناجمة عن سوء الطقس مثل الفيضانات والجفاف لتلقي بثقلها على عددٍ من الدول التي تنتج السواد الأعظم من الغذاء العالمي.
تؤثر عملية فقد الغذاء سلبًا على استخدامنا للأراضي بمعدلات تثير القلق وتنذر بالخطر، وذلك إذا ما أخذنا في الاعتبار أن نسبة 30% من الأراضي الزراعية – والتي غالبًا ما تشمل إزالة الغابات – تستخدم في إنتاج غذاء لا يُتناول أبدًا. وإذا ما أخذنا أيضًا بعين الاعتبار أن الزراعة وحدها مسؤولة عن استهلاك نسبة 70% من مياه العالم، فإن نسبة 6% من موارد المياه العالمية تُستنزف في عملية فقد الغذاء في الوقت الذي يواجه العالم فيه أكبر تحدٍ يتعلق بندرة المياه.[12
وهناك مشكلة أخرى تثير الاهتمام في هذا الشأن، وهي تأثير هذه العملية (فقد الغذاء) على التنوع البيئي، إذ تشير التقارير إلى أنه من بين 6,000 فصيلة نباتية تزرع من أجل الغذاء، فإن أقل من 200 فصيلة تساهم فعليًّا في إنتاج الغذاء الحقيقي.
ومن بين هذه الفصائل المئتين، فإن تسعة منها فقط تشكل نسبة 66% من إنتاج المحاصيل الغذائية في العالم؛ كما أن هناك 7,745سلالة محلية من الماشية (تقريبًا 40 فصيلة)، منها نسبة 26% تعاني خطر الانقراض، ناهيك أن نسبة 33% تقريبًا من الثروة السمكية قد تعرضت للصيد الجائر.[13]
ونستطيع من خلال التحرك في الوقت المناسب من تقليل كل من فقد الغذاء وهدره وتقديم المساعدة الملائمة في مبتدأ ومنتهى السلسلة الغذائية، بالإضافة إلى اتخاذ الإجراءات الصحيحة لمنع الهدر الناجم عن الاستهلاك – نستطيع من خلال ذلك كله تعزيز الأمن الغذائي العالمي وكذا معالجة سلسلة من المشاكل الناجمة عنه مثل التغير المناخي والفقر والقضايا العالمية المتعلقة بالصحة وتحلية المياه.
ومن بين أهداف التنمية المستدامة التي وضعتها الأمم المتحدة الهدف الثاني عشر الذي يرمي إلى تقليل هدر الطعام بمعدل النصف لكل فرد وتقليل فقد الغذاء بحلول عام 2030 (الهدف 12.3 من أهداف التنمية المستدامة).[14] ومن أجل تسليط الضوء على التأثير الأوسع لهذا الهدف 12، يمكن القول أنه يساهم في تحقيق 11 هدفًا من بين 16 هدفًا وضعتها الأمم المتحدة للتنمية المستدامة.
مناصرة القضية
على الرغم من التحدي الكبير، فإن الكثير من الجهود تبذل على المستوى الحكومي والعام لتقليل فقد الغذاء وهدره.
وفي هذا الإطار، صنف مؤشر استدامة الغذاء (FSI)، والذي طورته وحدة الذكاء الاقتصادي (EUI) بالشراكة مع مركز باريلا للغذاء والتغذية، 67 دولة من حيث استدامة نظام الغذاء في ضوء الأركان الثلاثة لعملية فقد الغذاء وهدره، بالإضافة إلى التحديات الزراعية والغذائية المستدامة.[15]
ويبين المؤشر أن هناك تقدمًا إيجابيًا تحرزه الأسواق الكبرى حول العالم في هذا الشأن. فعلى سبيل المثال، طالبت التشريعات التي وضعتها فرنسا منذ عام 2016 المتاجر الرئيسة بتوزيع بقايا الطعام على المؤسسات الخيرية التي تخدم المجتمعات الفقيرة.
وفي الوقت ذاته، ألغت إيطاليا تشريعًا متعلق بالغذاء بمجرد تخطيه تاريخ الصلاحية – وهو ما كان يعد أحد الأسباب الرئيسة في عملية هدر الطعام، ولا سيما فيما يتعلق بالمنتجات القابلة للتلف. أما دول أخرى مثل أستراليا والولايات المتحدة وجمهورية التشيك والسويد وسلوفينيا وسلوفاكيا فقد قدمت تشريعات مماثلةٍ لتقليل هدر الطعام من قبل المتاجر.
ويلاحظ مثل هذا الزخم أيضًا في القطاع الخاص، إذ يشير مؤشر استدامة الغذاء (FSI) إلى بحثٍ أعدته Ceres – مجموعة الدعوة المستدامة غير الربحية – والذي ينص على أن نسبة 86% من عدد 600 شركة تعمل في قطاع الغذاء واللاتي شملتهن الدراسة قد وضعت أطرًا زمنيةً محددةً للحد من انبعاثات الغازات المسببة للاحتباس الحراري.
وهناك مبادرة مشتركة أخرى هي Chef’s Manifesto (بيان للطهاة)،[16] وهي مجموعة مكونة من أكثر من 500 طاهٍ ينتمون إلى أكثر من 70 دولة، وتصف نفسها على أنها مركز الدعوة للهدف الثاني من أهداف التنمية المستدامة بما يتوافق مع الهدف الثاني من أهداف الأمم المتحدة للتنمية المستدامة والمتمثل بالقضاء على الجوع بالكامل.
وتعد عملية “إعادة التدوير للأفضل” إحدى الابتكارات المتنامية للحد من هدر الطعام، إذ تتيح لنا العديد من الطرق للاستفادة من المنتجات المتحللة والمرضوضة والمعيبة وغريبة الشكل، والتي كان سيتم التخلص منها. والحق أن هذا الأمر ضروي من المنظور البيئي وكذا من حيث هدر الطعام، حيث إن الطعام المتراكم في مواقع دفن النفايات ينتج عنه غاز الميثان، وهو أحد الغازات القوية والمدمرة من بين الغازات المسببة للاحتباس الحراري.
وتشمل مبادرات إعادة التدوير للأفضل شركة [17]Rubies in the Rubble التي تتخذ من المملكة المتحدة مقرًا لها، حيث تصنع هذه الشركة التوابل والبهار من الفواكه والخضراوات “غير الناضجة” والتي كان من المخطط أن يتم التخلص منها. أما خط إنتاج الكاتشب’Red and Green’ التابع لشركة Unliver، فإنه يحفظ ما يقدر بنحو 2.5 حبة طماطم من غير “ذوات الحمرة” المناسبة من الرمي سنويًّا.[18] وعلى نحو مماثل ومن خلال برنامجها المعروف باسم “الغذاء ثمين” يهدف عملاق البيع بالتجزئة السويدي IKEA إلى الحد من هدر الطعام بنسبة 50% بحلول نهاية عام 2020 من خلال تشجيع موظفيها ورفقاء العمل على ابتكار أفكار إبداعية للحد من الهدر.[19]
وتلعب التكنولوجيا دورًا كبيرًا في هذا الصدد أيضًا، فالشركات مثل Winnow التي تتخذ من الولايات المتحدة مقرًّا لها وشركة Good for Food السنغافورية تستخدم الذكاء الاصطناعي في مساعدة الطهاة في المطابخ على تتبع وتعقب نفاياتهم الغذائية، كما أنها تتعهد لعملائها بعوائد كبيرة على الاستثمار في هذا الأمر. أما تطبيق Too Good to Go، فهو تطبيق ذكي طورته المملكة المتحدة لمساعدة الشركات التجارية مثل بائعي التجزئة والمطاعم على إعادة توزيع الطعام الذي لا يرغبون فيه، وهو ما أدى إلى الآن إلى توفير ما يقارب على 27 مليون وجبة غذائية على مستوى العالم.
أما فيما يتعلق بعملية تعبئة المنتجات، فإنها تعد سيفًا ذا حدين بالنسبة لصناعة الغذاء، حيث تلعب دورًا إيجابيًّا وكبيرًا في حفظ المنتجات بداية من المزرعة وحتى وصولها إلى بائع التجزئة، بيد أنها في الوقت ذاته وبنفس الدرجة لها تأثير مدمر على البيئة. ويوجد هنا أيضا بعض التطورات الإيجابية المستجدة على الساحة. ففي عام 2017، تعهدت شركة Unliever بجعل نسبة 100% من عبواتها البلاستيكية قابلة لإعادة الاستخدام بشكلٍ كاملٍ بحيث يمكن إعادة تدويرها وتحويلها إلى أسمدة بحلول عام 2025؛[20] وهو الأمر ذاته التي قطعته نستله على نفسها، حيث تعهدت بالتخلص من منتجاتها البلاستيكية غير القابلة لإعادة التدوير[21] في نفس الإطار الزمني.
معالجة القضية في المنبع
فيما يتعلق بالطرف الآخر من السلسلة الغذائية، يمكن للبحث العلمي والابتكارات أن يلعبا دورًا كبيرًا في الحد من فقد الغذاء من المنبع على المستوى العالمي. ويقدر البنك الدولي أن نسبة 37% من الغذاء المنتج في أفريقيا جنوب الصحراء وحدها، على سبيل المثال، يفقد قبل أن يصل حتى للمستهلك.[22]
وهذه هي المنطقة التي أشعر بالفخر حين أتحدث عنها، إذ أن عبد اللطيف جميل يصنع فيها بالفعل فارقاً ملحوظًا، إذ يساعد معمل عبد اللطيف جميل للماء والغذاء (J-WAFS) في معهد ماسوشوستس للتكنولوجيا (MIT) عمليات البحث والابتكار لضمان الحصول على إمدادات آمنةٍ ومرنةٍ من الغذاء والمياه بأقل أثرٍ ممكن على البيئة. ومنذ تأسيسه في العام 2014، دأب المعمل على تمويل نحو 60 مشروعًا، موجِدًا بذلك أكثر من 12 مليون دولارًا أمريكيًّا في صورة تمويلات متتابعةٍ من أجل توسيع نطاق البحث الذي يدعمه معمل عبد اللطيف جميل للماء والغذاء (J-WAFS).[23]
وتدور الغالبية العظمى من الأبحاث التي يدعمها المعمل حول البحث عن تقنيات ابتكارية من شأنها تحسين وإحداث التغيير المثالي في كفاءة وفعالية أنظمة الغذاء والمياه في الدول النامية بتكلفةٍ مجدية اقتصاديًا وتتيح للجميع الحصول عليها.
ففي كينيا، على سبيل المثال، يدعم المعمل مشروعًا يقوده الأستاذان بمعهد ماسوشوستس للتكنولوجيا (MIT) – دانيال فري وليون غليكسمان – من أجل تطوير غرف تبريد بخرية من أوانٍ مصنوعة من الصلصال من أجل الحفاظ على الفاكهة باستخدام عملية تبخير المياه الطبيعية، بدون الحاجة إلى الكهرباء.
أما المناطق الحارة والجافة، فإن غياب منشآت التخزين التي يتم فيها التحكم في درجات الحرارة وتلك التي تستخدم فيها الكهرباء بالكاد تؤدي إلى فساد محاصيل الفاكهة والخضروات بسرعةٍ. ومن خلال توفير درجة حرارة منخفضة ملائمة وظروف رطوبة عالية، نجحت غرف التبريد البخرية المصنوعة من أواني الصلصال في الحفاظ على المنتجات والوصول بها إلى السوق. وفي الإطار ذاته، تقدم عمليات التخزين المناسبة للمزارعين مرونة اقتصادية للانتظار من أجل السعر المناسب قبل طرح منتجاتهم في السوق حال ما كانت أسعار السوق منخفضة وقت الإنتاج.
وهناك مبادرة أخرى تتعلق بدعم البحث في هذا الصدد ويقودها تيم سواغر، أستاذ كرسي جون دي ماك آرثر للكيمياء بمعهد ماسوشوستس للتكنولوجيا (MIT)، وزملاء العمل لتطوير تكنولوجيا استشعار سريعة وسهلة ورخيصة التكلفة لأغراض الحفاظ على الغذاء. ويقوم هذا البحث على قطرات متخصصة – تعرف باسم مستحلبات غانوس – والتي من شأنها اكتشاف التلوث البكتيري في الغذاء والسوائل.
ويمكن أن يكون لهذه التكنولوجيا فوائد جمّةً في الدول ذات معدل النمو المنخفض، كما يمكن تطبيقها على مياه الشرب وجميع أنواع الأطعمة. فعلى سبيل المثال، يعد الانبثاث (هجرة الخلايا السرطانية) في الأبقار مشكلة كبرى تواجه منتجي الألبان في جميع أرجاء العالم، إذ يمكن لهذا المرض الانتشار بسرعةٍ في قطيع كاملٍ من الأبقار.
ففي الهند، على سبيل المثال، تُجمع الألبان من عدد من القطعان المختلفة في المنطقة الواحدة في الغالب في نقطة تجميع مركزية. وعليه، فلو أن أحد هذه القطعان كان مصابًا بهذا الداء، فإن دفعة الحليب بكاملها ستفسد، ومن ثم يجب التخلص منها. وهنا يبرز دور التكنولوجيا التي يطورها سواغر، إذ ستعمل على التعرف على هذا الداء في القطيع المصاب قبل أن يلوث اللبن السليم، وهو ما سيؤدي بدوره إلى الحد من الهدر. وقد طور هذه التكنولوجيا بالفعل معمل عبد اللطيف جميل للماء والغذاء(J-WAFS) باعتبارها جزءًا من برنامج الحلول التي يقدمها المعمل، في حين تطور شركة Xibus Systems البروتوكولات اللازمة للتجارب الميدانية، بهدف تقديم نظامٍ بسيط وسهل وناجع يتطلب القليل من التدريب ولا يؤثر على طريقة العمل الحالية التي ينتهجها المنتجون.
وفي الإطار ذاته، تتشارك عبد اللطيف جميل للماء والغذاء (J-WAFS) مع شركة Rabobank للخدمات المالية في جائزة الابتكار الغذائي والزراعي-التجاري السنوية – والتي تعتبر جزءًا من مبادرة معهد ماساشوستس للتكنولوجيا (MIT) للابتكار، والتي تحدد المبتكرين على امتداد السلسة الغذائية. وتشمل قائمة المشاريع الفائزة بالجائزة الفريق المشترك من معهد ماساشوستس للتكنولوجيا (MIT) وجامعة Tufts، والذي طور طبقة من البروتين الطبيعي من أجل زيادة نسبة فترة عمر تخزين الفواكه والخضروات بنحو 50%.
تعتمد هذه التكنولوجيا على بحث أجرته جامعة Tufts تحت قيادة بنديتتو ماريلي – أستاذ بول إم. كوك للتطوير المهني المساعد بمعهد ماساشوستس للتكنولوجيا (MIT)، قسم الهندسة المدنية والبيئية. ويبين البحث أن هذه الطبقة من البروتين بمقدورها إطالة فترة عمر تخزين الفراولة، والتي تفسد في الغالب في أقل من اثنتي عشرة (12) يومًا.
ويتحدث جاك-هنري غريسلاين، أحد أعضاء هذا الفريق البحثي عن هذا الابتكار قائلاً: ”لدينا تكنولوجيا بمقدورها الحد من الهدر بشكلٍ كبيرٍ في كل مرحلةٍ من مراحل سلسلة القيمة: للمنتجين وللموزعين وللمستهلكين.“
أما Wakati التي تتخذ من بلجيكا مقرًّا لها، فإن لها ابتكار آخر يساعد على الحد من فقد الطعام. فبما أن العديد من المناطق الزراعية حول العالم توجد في أماكن تشهد مناخات استوائية وجافةٍ، فقد قدمت Wakati حلاًّ قائما بذاته للحفاظ على الفواكه والخضروات؛ وتعتمد هذه التكنولوجيا على استخدام طاقة الشمس وبدون الحاجة إلى التبريد، إذ تعمل على خلق مناخ وقائي صغيرٍ جدًّا داخل خيمةٍ مصممة خصيصًا لهذا الغرض، والتي تستطيع بدورها تخزين 200 كجم من الفواكه والخضروات باستخدام ألواح شمسية صغيرة في وجود لترٍ واحدٍ من الماء أسبوعيًّا.[1]
وعلى الصعيد البيئي، تجري شركة ReFED (إعادة التفكير في هدر الطعام من خلال علم الاقتصاد والبيانات) أبحاثًا حول تكنولوجيا تسمى “الهضم المركزي اللاهوائي”، والتي تعمل على تكسير المواد القابلة للتحلل الحيوي والتي من الممكن أن تستخدم لاحقًا كأسمدةٍ حيوية.[2] وتطبق نفس هذه التكنولوجيا في مبادرات تحويل النفايات إلى طاقةٍ.
وتظل عملية مكافحة الآفات إحدى المشاكل الكبيرة التي تواجه صغار الملاك من المزارعين في المناطق ذات المناخات الحارة، كما أن استخدام المبيدات الحشرية قد غدا بحاجةٍ إلى إعادة النظر لآثاره الضارة والمدمرة على الصحة والبيئة. وعليه، يتم الآن تطوير إدارة بيئية سليمة، أو ما يعرف باسم “علم البيئة الزراعي”، من أجل الحد من استخدام المبيدات الحشرية واستخدام الموارد الطبيعية في مكافحة الآفات.
فعلى سبيل المثال، أظهرت تقنية زراعة المحاصيل المختلطة (محصولين أو أكثر على مقربة من بعضهما البعض) نتائج جيدة، ليس فقط على مستوى الاستخدام الأمثل للأراضي، ولكن أيضًا من حيث مكافحة حشرات ثاقبات الساق والنباتات المتطفلة مثل نباتات دغل الساحرة ذات التأثيرات المدمرة على محاصيل الذرة الشامية في المناطق الجنوبية والشرقية من قارة أفريقيا. وفي هذا الصدد، أظهرت دراسة أجريت في الفترة من عام 2000 إلى عام 2003 أن 1,500 مزارعٍ في كينيا وأوغندا قد وجدوا أن هذه التكنولوجيا تزيد من إنتاجية محاصيل الذرة الشامية بما يربو على نسبة 50% في المناطق التي تنتشر فيها حشرات ثاقبات الساق ونباتات دغل الساحرة بأعدادٍ كبيرةٍ.[3]
ويشير تقرير منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة إلى أحد البرامج التي تنفذها وزارة الغذاء والزراعة في دولة غانا بتمويل من الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية، حيث يتم تطوير التربة الطينية للحفاظ على محاصيل الذرة الشامية ومكافحة الآفات وآثار المرض، وهو ما أدى بدوره إلى انخفاض الفاقد من عملية التخزين لكل أسرة في السنة الواحدة بما يعادل نسبة 50 كجم، بعد أن كانت 300 كجم فيما مضى.
وعلى الرغم من أن الأثر الناجم عن مبادراتٍ مثل هذه لا يزال صغيرًا، إلا أنه آخذ في التنامي. ومن ثم، يجب علينا مواصلة استثمار هذه الموارد وبحث كيفية زيادة نطاقها على نحوٍ مضاعفٍ. ويظهر الشكل أدناه كيف أن عمليات التطوير الآخذة في الظهور تساعد في الحد من فقد الغذاء وهدره خلال رحلته من المنتج إلى المستهلك.
القوة في التعاون
وبناء على المقترح السابق القائم على أن الهدف الثاني عشر من أهداف التنمية المستدامة (الاستهلاك المسؤول والإنتاج) يؤثر على 12 من بين 17 هدفاً وضعتها الأمم المتحدة للتنمية المستدامة، فإن الهدف السابع عشر من هذه الأهداف (الشراكة من أجل الأهداف) يعمل باعتباره العنصر الملزم لتحقيق كل من هذه الأهداف.
في الوقت الذي يتم فيه إحراز تقدم كبيرٍ في العديد من المناطق، يؤكد سين دي كلييني، عضو اللجنة التنفيذية ورئيس مستقبل الغذاء في المنتدى الاقتصادي العالمي، أن صانعي القرار بحاجة للعمل خارج مجالاتهم ذات الصلة والتعاون مع بعضهم فيما يتعلق بسن التشريعات.[27]
وأوضح كلييني أن هذه الطريقة وحدها تخول صياغة خطة العمل حول “تطوير أنظمة الغذاء” – حسب وصفه – في ضوء الصورة الأكبر للصحة والغذاء واستخدام الأراضي والتنمية الاقتصادية الريفية والهجرة والصراعات والاستثمار.
ويوضح كلييني أن أية دوافع أو مبادرات – مهما كانت فعاليتها – ستظل في نطاق التهميش إذا لم تتم في نطاق تحالفٍ أكبر.
وتسعى الأمم المتحدة نفسها لدفع هذا النوع من التعاون قدمًا عبر القطاعات والصناعات، كما تعمل على توضيح مسار التقدم، حيث أعلنت مؤخرًا عن نواياها لعقد “قمة أنظمة الغذاء” في عام 2021، مركزة جل اهتمامها على أنظمة الغذاء باعتبارها جزءًا من خطة عمل أهداف التنمية المستدامة لعام 2030، بما في ذلك معالجة التحديات الناجمة عن التغير المناخي.
تهدف القمة إلى إحداث حالة من الزخم وتوسيع نطاق المعرفة ومشاركة كل من الخبرات والمناهج العالمية حول فوائد أنظمة الغذاء بين كل الناس حول العالم. وتأمل الأمم المتحدة من وراء ذلك أن تقدم لحظة محفزة للتعبئة العامة على المستوى العالمي والتزامات قابلة للتنفيذ من أجل الاستثمار في طرقٍ متنوعةٍ ”لجعل أنظمة الغذاء شاملة ومتكيفة مع المناخ ومساعدة في إحلال السلام المستدام.“[28]
وفي الإطار ذاته، يقوم القطاع الخاص بدوره في جمع المساهمين سويًّا وزيادة وعيهم بالتحديات الغذائية التي نواجهها في عالم اليوم.
فعلى سبيل المثال، أطلقت شركة Compass Group، شركة خدمات غذائية متعددة الجنسيات، حملة وعي عالمية تحت عنوان “يوم وقف هدر الطعام” في إبريل من عام 2017. ومن خلال الحملات التي يتم تدشينها على صفحات التواصل الاجتماعي والملصقات الإعلانية ومنصات المعارض، وأيضًا من خلال المشاركة مع مشاهير الطهاة وشركاء الصناعة والأشخاص ذي التأثير من جميع أرجاء العالم، بلغ عدد المشاركين في حدث 2018 نحو 12 مليون شخص من جميع العالم.[29]
وفي الختام، فعلى الرغم من أن كلا من “فقد الغذاء” و”هدر الطعام” له تعريفه الخاص به الذي يميزه عن غيره إلا أن الاثنين متصلان ببعضهما البعض – بدءًا من عملية الإنتاج التي لا يتم فيها تخزين المنتج على نحو سليمٍ ومرورًا بعملية النقل غير السليم ووصولًا إلى رفضه من قبل بائعي التجزئة أو المطاعم أو المستهلك وانتهاءً بوجهته النهائية التي ينتج فيها غاز الميثان في موقع النفايات.
ولكي نسهل الأمر ونيسره، فإن المشكلة واضحة للعيان، ولكنها على الرغم من ذلك لا تزال تفرض على العالم أحد أكبر التحديات التي يواجهها.
ويكمن حل هذه المشكلة في بذل جهود استراتيجية وموحدةٍ في كل ركنٍ من أركان السلسلة الغذائية؛ إنه جهد بمقدورنا، بل يجب علينا، أن نبذله لضمان مستقبل مستدام ومجد اقتصاديًا لمجتمعاتنا.
[1] The State of Food and Agriculture – Moving Forward on Food Loss and Waste Reduction, Food and Agriculture Organization, 2019
[2] http://www.fao.org/save-food/resources/ar/
[3] https://www.compass-group.com/en/media/news/2018/stop-food-waste-day.html
[4] https://www.un.org/development/desa/en/news/population/world-population-prospects-2017.html
[5] https://www.bcg.com/en-gb/publications/2018/tackling-1.6-billion-ton-food-loss-and-waste-crisis.aspx
[6] https://wriorg.s3.amazonaws.com/s3fs-public/reducing-food-loss-waste-global-action-agenda_1.pdf
[7] http://foodsustainability.eiu.com/wp-content/uploads/sites/34/2018/12/FixingFood2018-2.pdf
[8] https://www.weforum.org/agenda/2015/08/which-countries-waste-the-most-food/
[9] The State of Food and Agriculture – Moving Forward on Food Loss and Waste Reduction, UN Food and Agriculture Organization, 2019
[10] The State of Food and Agriculture – Moving Forward on Food Loss and Waste Reduction, Food and Agriculture Organization, 2019
[11] https://www.unenvironment.org/regions/north-america/regional-initiatives/minimizing-food-waste
[12] The State of Food and Agriculture – Moving Forward on Food Loss and Waste Reduction, Food and Agriculture Organization, 2019
[13] http://www.fao.org/news/story/en/item/1180463/icode/
[14] https://sustainabledevelopment.un.org/sdg12
[15] http://foodsustainability.eiu.com/wp-content/uploads/sites/34/2018/12/FixingFood2018-2.pdf
[16] http://www.sdg2advocacyhub.org/chefmanifesto
[17] https://rubiesintherubble.com/
[18] https://www.unilever.co.uk/sustainable-living/our-strategy/embedding-sustainability/
[19] https://newsroom.inter.ikea.com/news/ikea-aims-to-cut-food-waste-by-50–with-new-food-is-precious-initiative/s/efde35e5-2909-4d45-be75-ff5f7941d092
[20] https://www.unilever.com/sustainable-living/reducing-environmental-impact/waste-and-packaging/rethinking-plastic-packaging/
[21] https://www.nestle.com/ask-nestle/environment/answers/tackling-packaging-waste-plastic-bottles
[22] https://www.worldbank.org/en/programs/africa-myths-and-facts/publication/is-post-harvest-loss-significant-in-sub-saharan-africa
[23] https://jwafs.mit.edu/about/impact
[25] https://www.refed.com/solutions/centralized-anaerobic-digestion/
[26] https://www.oaklandinstitute.org/sites/oaklandinstitute.org/files/Push_Pull_Kenya.pdf
[27] https://www.weforum.org/agenda/2019/11/food-systems-agriculture-sustainable-sdgs/
[28] https://www.un.org/sg/en/content/sg/personnel-appointments/2019-12-16/ms-agnes-kalibata-of-rwanda-special-envoy-for-2021-food-systems-summit
[29] https://www.compass-group.com/en/media/news/2018/stop-food-waste-day.html