التعدين في أعماق البحار… مشكلة تتفاقم
تعج الحياة بالمفارقات المزعجة والمعضلات التي دائما ما تحتاج إلى ما هو أكثر من الحلول السريعة أو تلك التي تأتي من خارج الصندوق.
لنأخذ حاجتنا المتنامية إلى زيادة مواردنا من المعادن الحرجة مثالا – ونعني هنا تلك المعادن النادرة التي تعد جد ضرورية للعديد من التقنيات الرئيسة التي سنتمكن بها من بلوغ مستقبل مستدام.
تناولت هذ القضية في مقال سابق أوضحت فيه أن ما هو متوافر في الوقت الحالي من المعادن الحرجة لا يكفي لدعم التحول السريع نحو صافي الانبعاثات الصفرية كما جاء في أهداف اتفاقية باريس وتم التأكيد عليه في مؤتمر الأطراف للمناخ COP26. فعلى سبيل المثال، من المنتظر أن يغطي الإنتاج المتوقع من الليثيوم والكوبالت من المناجم الموجودة حاليا والمشروعات قيد التنفيذ نصف احتياجتنا فقط بحلول عام 2030.
كما أنه من المتوقع أن نجد الموارد المتاحة تعجز عن تلبية 20% من احتياجاتنا المتوقعة من النحاس. وفي الوقت نفسه، من المتوقع أن نواجه مشكلات فيما يتعلق بما هو متاح من بعض المواد مثل النيكل المستخدم في البطاريات والعناصرالأرضية النادرة الرئيسة مثل: النيوديميوم والديسبروسيوم في السنوات المقبلة.[1]
إذن فنحن بحاجة إلى إيجاد مصادر جديدة لهذه المعادن – وبسرعة.
ليس ثمة خلاف على ذلك.
ويوجد نصب أعيننا مباشرة أكبر المصادر الممكنة للمعادن الحرجة: إنها محيطات كوكبنا التي تهب لنا الحياة. لكني أؤمن أننا لا نستطيع – ولا يتوجب علينا – أن نسعى ببساطة نحو نهب محيطاتنا لتوفير بعض الراحة المؤقتة على المدى القصير.
تعتبر بحارنا ومحيطاتنا مستودعات طبيعية لأنواع المعادن التي نحتاج إليها على وجه التحديد من أجل دعم التقنيات الخضراء الجديدة. وثمة العديد من الجهات على استعداد لدعم الاستثمار في مجال التعدين في أعماق البحار من أجل استخراج هذه المعادن. لكن محيطاتنا من أعظم الموارد الطبيعية في كوكبنا. وهي تقف لا حيلة لها أمام الاستغلال التجاري. وإذا لم نتوخ الحذر، قد نجد أنفسنا في مسعى لإنقاذ كوكبنا من خلال تدمير أحدى أثمن بيئاته!
الخوض في التفاصيل
وبنظرة فاحصة على الحقائق، يمكننا فهم أبعاد المشكلة والاستراتيجيات المتاحة.
يجب أن نبدأ بمحاولة فهم سبب زيادة الطلب على هذه العناصر المهمة – وتنامي ذلك بشكل سريع. إننا نحتاج إلى عناصر أرضية نادرة معينة (مثل البراسيوديميوم والنيوديميوم والتيربيوم والديسبروسيوم) لاستخدامها في المكونات المغناطيسية للتوربينات والمركبات الكهربائية – وكلاهما من التقنيات التي تقع في الصميم من رحلتنا نحو صافي الانبعاثات الصفرية.
وبينما نحن نتحول بسرعة نحو تقنيات الطاقة المستدامة مثل الرياح والطاقة الشمسية، نحتاج إلى جيل جديد من البطاريات للمساعدة في تخزين الطاقة المولدة. وتعتمد هذه البطاريات عالية الأداء وطويلة العمر على عناصر مثل الليثيوم والنيكل والكوبالت والمنجنيز والجرافيت. كما أننا نحتاج إلى زيادة الموارد من بعض المواد مثل النحاس والألمونيوم من أجل صيانة شبكات الكهرباء.
قائمة طويلة حقا، وأشبه بقائمة التسوق.
تعتبر أعماق البحار معيناً للمعادن الحرجة التي تحتاج إليها تلك التقنيات. فعلى الصعيد العالمي، تحتوي السهول السحيقة (قاع البحار) على تريليونات من العقيدات المتشبعة بالمعادن المتعددة التي تضم النحاس والنيكل والحديد. كما أن الفتحات الحرارية المائية القديمة تشير في كثير من الأحيان إلى وجود ترسبات الكبريتيد التي تحتوي على الذهب والفضة والرصاص والزنك. في الوقت نفسه، غالبًا ما تشمل الجبال المغمورة على طبقات سطحية غنية بالكوبالت. إن كل تلك المعادن متوافرة هناك. فهي ترقد في قيعان المحيطات دون أن يمسها أحد.
موضوع مثير. أليس كذلك؟
وليس من المنطقي أن نترك مثل هذه الهبة دون أن نستغلها. فهي ثمار القصف الكوني أثناء التكوين الناري للأرض.
لو كنا فقط نستطيع الغوص إلى هناك وانتزاع العقيدات من قاع البحر، واحدة تلو الأخرى، فسيكون لدينا فرصة للحصول على إمدادات لا نهائية من تلك المعادن التي نحتاجها على وجه التحديد لدعم تحولنا الأخضر.
ولكن لسوء الحظ، عندما يتعلق الأمر بالمحيطات، غالبًا ما نرى أنفسنا – وتقنياتنا – في مواجهة موقف يفوق إمكاناتنا.
الدروس المستفادة من التعدين الأرضي
إن المشكلة واضحة جلية: إننا في الوقت الحالي لا نملك المعرفة التكنولوجية اللازمة التي تمكننا من استخراج المعادن من أعماق البحار بالطريقة الصحيحة – والأهم من ذلك، دون تدمير البيئة.
فقد اعتمدنا حتى الآن على طريقة التجريف التي تفتقر بشكل واضح إلى الدقة والاحترافية. وفيها تعمل الآلات الضخمة على طول قاع البحر وتدمر الطبقة السطحية الغنية بيولوجيًا بأكملها بحثًا عن كتلة صغيرة من هذه المواد المفيدة. فالأمر أشبه بتدمير غابة مطيرة بأكملها من اجل الحصول على بعض الصخور القيمة الموجودة على الأرض.
إن هذه الطريقة لا تخلف تدميرا ماديا بالغا على البيئة وحسب، ولكنها تؤثر أيضًا بالسلب على الحياة البحرية والكائنات التي لا تعيش في قاع المحيطات من خلال ما تحدثه من تلوث ضوضائي تحت الماء.
ويشير أحد التقارير الصادر عن هيئة حماية الحياة البرية البحرية السويسرية [2]OceanCare إلى أن أنشطة التعدين التي تتم في أعماق البحار يمكن أن تؤثر على الحياة البحرية من سطح البحار وحتى القاع. ومن المنتظر أن تكون الأنواع التي تعيش في أعماق البحار الأكثر تضررا والأكثر عرضة للخطر بشكل خاص لأنها تعتمد عل الأصوات الطبيعية في أداء وظائف مهمة مثل البحث عن الطعام. وهي لم تعتاد على الضوضاء البشرية تأتي من مسافة قريبة.
كما أن العديد من الأنواع التي تعيش في أعماق البحار مرتبطة بقاع البحر بما فيه من تكوينات صخرية. ولذا فإنها لن تستطيع الهرب من الضوضاء (موجات الاهتزاز / الضغط) التي تنتج عن أنشطة التعدين في أعماق البحار. ويؤكد التقرير أنه حتى الأنواع المهاجرة مثل الحيتان والدلافين والسلاحف قد تتأثر بهذه الأنشطة أثناء مرورها عبر منطقة التعدين ولو لفترة وجيزة بحثا عن الطعام أو فرص التكاثر.
والأمر كارثي بالنسبة للأسماك والقشريات والنباتات التي تعيش في قاع البحر: فالبيئة أصبحت مزعجة، والقاع بات خاليا من مقومات الحياة، و النظام البيئي تبدل إلى الأبد.
إننا نعبث بالنظام البيئي على حساب آماننا: فهذا العبث سيتمخض عنه تعرض البشرية بأسرها لمخاطر عدة. قد تبدو أعماق البحار بالنسبة لنا بيئة غريبة وغير معروفة، ويعزى ذلك إلى أن اكتشافاتها لا تحظى بما تحظى به اكتشافات الفضاء من اهتمام من قبل وسائل الإعلام وما يتبع ذلك من سيطرة على الوعي الاجتماعي العام . لكن أعماق البحار تقع في الصميم من الأنشطة البشرية – بل ومن بقاء البشرية بشكل عام. فهي تسهم في امتصاص الحرارة من كوكبنا – الذي ترتفع فيه الحرارة بالفعل – كما أنها تبطئ عملية التغيرات المناخية من خلال حبس الكربون، وتدعم الحياة البحرية بتنوعها ووفرتها، وتعيد تدويرالمغذيات، ومعظم “دورة الكربون العميقة” تحدث عند منعطف الصفائح التكتونية.
وهي تقوم بكل هذه الأدوار بالهدوء والفعالية اللذان ظلت تعمل بهما لمئات الملايين من السنين – حتى تدخل الإنسان.
فقد حذرت صحيفة الجارديان البريطانية من أن ” التجريف سيؤدي إلى القضاء على الكائنات التي تعيش في أعماق البحار مثل الديدان متعددة الأشواك، وخيار البحر، والشعاب المرجانية، والحبار. كما أن عمليات التجريف سينتج عنها أيضا إرسال أعمدة حلزونية من الرواسب المليئة بالمعادن السامة إلى أعلى لتسمم سلاسل الغذاء البحرية”[3]
وبالطبع ستحتاج الكائنات البحرية التي ستختنق بالغيوم الموحلة التي تخلفها آلات التجريف إلى قرون كي تتعافي التلوث الضوضائي – هذا إن تمكنت من ذلك أصلا.
ولعل سجل التعدين على الأرض يبرر قلق أولئك المهتمين بحماية محيطاتنا.
فلطالما الحق استخراج الفحم والمعادن الثمينة من الأرض أضرارا بالغة بالبيئة. فقد سبب تراجعا في التنوع البيولوجي، وتدميرا للمجاري المائية، ناهيك عن خسارة الغطاء النباتي، والتلوث، وتآكل التربة.
وتشير التقديرات إلى أن التعدين يعد مسؤولا عن 4٪ إلى 7٪ من إجمالي انبعاثات غازات الاحتباس الحراري سنويًا، أو ما بين 1.9 جيجا طن و 5.1 جيجا طن من انبعاثات مكافئ ثاني أكسيد الكربون[4]. وحتى المعادن المعروفة مثل الحديد قد تحمل في طياتها تكلفة بيئية باهظة، حيث ينتج كل كيلوجرام من الحديد يتم تعدينه حوالي 2 كجم من غازات الدفيئة.[5]
فخلاصة القول أن تاريخ التعدين الأرضي ظل محكوما بأهداف قصيرة المدى، وتحقيق الأرباح على حساب البشر والكوكب، وانعدام الكفاءة. والآن فقط، وبعد فترة طويلة من إلحاق الضرر بالبيئة، بدأنا في فهم التأثيرات البيئية واتخاذ تدابيرمجدية لتطوير تقنيات وطرائق تهدف إلى الحد من التأثيرات السلبية على البيئة من أجل الحفاظ عليها واستعادتها.
وبعيدًا عن التوقعات المتعلقة بالتغيرات المناخية، قد يؤدي إقرار استغلال محيطاتنا بهذه الطريقة إلى تفاقم مشكلاتنا، بل والإسراع بتدهوربيئتنا.
زيادة الطلب على المعادن الحرجة
لا تتوقع أن يتراجع تعطش العالم للمعادن الحرجة مع مرور الوقت – فالعكس هو الصحيح.
فعلى الرغم من أن محطات طاقة الرياح والطاقة الشمسية تعتبر أكثر استدامة مقارنة ببدائل الوقود الحفري التقليدية، فهي تتطلب 200٪ إلى 300٪ أكثر من المعادن مقارنة بالمحطات التي تعمل بالغاز الطبيعي[6] تستخدمها في البناء وعمليات التشغيل. وبذلك، زادت كمية المعادن المطلوبة لإنتاج وحدة واحدة من الطاقة بمقدار النصف منذ فترة ما قبل عام 2010 ، عندما سيطرت مصانع الوقود الحفري على الصناعة.[7]
ولعل ظهور المركبات الكهربائية والبطاريات المرتبطة بها يعني أننا قد نحتاج – بحلول عام 2040 – إلى ما يصل إلى 40 ضعفًا من الليثيوم، و 20-25 مرة من الجرافيت والكوبالت والنيكل، وكذلك مضاعفة كمية النحاس التي نستهلكها حاليًا.
ولتلبية أهدافنا المناخية على مدى العقدين المقبلين، ستمثل الطاقة النظيفة في نهاية المطاف 90٪ من الطلب العالمي على الليثيوم، و 60٪ -70٪ من الطلب على النيكل والكوبالت، و 40٪ من الطلب على النحاس والعناصر الأرضية النادرة.
ويمثل قاع البحار وما يوجد به من فتحات حرارية مائية وجبال كنوزا ومعينا لهذه المعادن، والتي تعد أكثر قربا و أكثر تنوعا مقارنة بما يأتي من أي بيئة أرضية جافة تتطلب – في أغلب الأحيان – منجما مستقلا لكل عنصر.
لا عجب إذن في أن ثمة إقبال غير مسبوق على استكشاف البحار العميقة لغرض استخراج المعادن منها.
التعدين تحت البحار – أهو سباق نحو القاع؟
تتصدر اليابان القائمة عندما يتعلق الأمر بالتعدين في المياه المحلية. وقد نجحت شركة “جوجميك للتعدين” المملوكة من قبل الدولة، في استخراج الزنك من موقع به فتحات حرارية مائية يقع على عمق 1600 متر بالقرب من أوكيناوا في عام 2017. ويعني ذلك أن التفكير في الجدوى التجارية يعد أمرا متوقعا في المستقبل القريب إلى المتوسط[8]
وبعيدا عن المياه المحلية، تضطلع الهيئة الدولية لقاع البحار (ISA) التي أسستها الأمم المتحدة، والتي تضم 167 دولة عضو بالإضافة إلى الاتحاد الأوروبي، بمسئولية إدارة المياه الدولية نيابة عن جميع الدول.
وتتمثل إحدى مهام الهيئة في المساعدة على حماية البيئة البحرية من الآثار الضارة المحتملة للتعدين في أعماق البحار. ومنذ عام 2014، تعمل الهيئة على وضع إطار عمل دولي تنظيمي يتمثل الغرض منه في ضمان أن تعود أية عملية تعدين تتم في قاعه البحر بالنفع على البشر في كل مكان. لكن جائحة كوفيد 19 التي ضربت العالم أعاقت تقدم العمل نحو وضع هذا الإطار.
وقد قامت الهيئة في غضون ذلك، بإصدار 31 رخصة استكشافات خلال هذا القرن لشركات تعدين دولية لغرض دراسة مواقع في المحيطين الهادئ والهندي والمحيط الأطلسي الأوسط. وقد ذهبت خمس رخص للصين وحدها، والتي تمتلك متطلبات تعدين أكثر من أي دولة أخرى. وهذا يعني أن للصين الآن الحق في القيام بأعمال تنقيب في 238،000 كيلومتر مربع (وهو ما يعادل مساحة نيوزيلندا تقريبا) في أعماق البحار في مناطق تقع خارج نطاق المياه المحلية الصينية وتسويقها تجاريًا. وتشمل أعمال التنقيب الكوبالت والنيكل والنحاس والمعادن الثمينة الأخرى. ومن بين اللاعبين الرئيسيين الآخرين في السباق نحو قاع البحر: اليابان والمملكة المتحدة وألمانيا وفرنسا وكوريا وروسيا.
و من أكثر المواقع ثراءً بالموارد منطقة كلاريون كليبرتون التى تقع في شرق وسط المحيط الهادئ ويُعتقد أنها تحتوي على ما يصل إلى ستة أضعاف كمية الكوبالت ضمن حدودها البالغة 6 ملايين كيلومتر مربع مقارنة بجميع الاحتياطيات المعروفة على الأرض.[9]
ووفقا لبعض التقديرات، من المتوقع أن يبدأ التسويق التجاري لعمليات التعدين التي تتم في أعماق البحار بحلول عام 2024، وهو التاريخ الذي ينتظر لمقاولي جزيرة ناورو في المحيط الهادئ أن يبدأوا في حصاد العقيدات في مياه ناورو. وفي أماكن أخرى من المحيط الهادئ ، من المقرر القيام بعمليات مماثلة في كل من كيريباتي وتونجا. وقد دفع ذلك العشرات من الحكومات للمطالبة بتعليق مؤقت لجميع أنشطة التعدين في أعماق البحار لحين فهم الآثار التي تترتب عليها بشكل كامل – على الرغم من أن ذلك في حد ذاته قد يستغرق عقودًا[10].
وتتعالى الأصوات المعارضة للتعدين في أعماق البحار. ففي مؤتمر الأمم المتحدة للمحيطات الذي انطلق هذا العام في البرتغال، تضافرت جهود علماء البيئة ومجموعات المجتمع المدني والعلماء لإضفاء الطابع الرسمي على اعتراضهم على التعدين في أعماق البحار.[11]
وقد أكد رئيس الوزراء الفيجي فرانك باينيماراما أثناء حديثه أمام المؤتمر أنه إذا سمح بالمضي قدمًا في هذا التوجه، فإن التعدين في أعماق البحار “سيدمر بشكل لا رجعة فيه الحياة القديمة في أعماق البحار، كما أنه سيؤثر على أولئك الذين يعتمدون على المحيط لكسب قوت يومهم“.
وقد اقترحت تشيلي تأجيلًا لمدة 15 عامًا للوائح التي تسمح بالتعدين في أعماق البحار، كما وقع 146 مشرعًا من جميع أنحاء العالم الإعلان البرلماني العالمي الذي يدعو إلى فرض حظر على التعدين في قاع البحار.
أتمنى ألا يكون قد فات الأوان.
إننا إذا أهملنا الطبيعة، فمن يدري ما هي الفرص التي نهدرها؟ فخلال العشرين عامًا الماضية وحدها، تم اكتشاف آلاف الأنواع الجديدة من الكائنات تحت الماء. وبعض هذه الأنواع الغريبة تساعدنا بطرق غير متوقعة.
فعلى سبيل المثال، تعتبر المقاومة البكتيرية مشكلة متنامية في جميع أنحاء العالم. والبكتيريا التي تعيش في بعض أنواع الإسفنج تنتج مركبات مضادة للميكروبات يمكن أن تساعد العلماء في تصنيع مضادات حيوية جديدة.
يكمن خطر أعمال التعدين غير المسؤولة التي تتم في أعماق البحار في القضاء على أنواع وفصائل جديدة قبل حتى أن نعرفها، وهو ما يحرمنا إلى الأبد من فوائدها الطبيعية والتي قد تشمل مواجهة الأوبئة في المستقبل[12].
ويحذرنا البروفيسور كريج سميث، أستاذ علم المحيطات بجامعة هاواي، من أن التعدين في أعماق البحار قد يتمخض عنه في نهاية المطاف البصمة البشرية الأكبر على الإطلاق على هذا الكوكب من حيث التأثير.”[13]
أما بالنسبة لي . . . فيجب أن تكون هناك طرائق أفضل.
التعدي على المحيطات … هل من بدائل؟
فبدلاً من بذل الجهود المضنية من أجل تلبية احتياجتنا المتزايدة من المعادن النادرة التي ينطوي الحصول عليها على أضرار بيئية، لماذا لا نقلل هذا الاحتياج؟
إن إعادة تدوير المعادن ونشر التقنيات الخضراء البديلة نهجان جديران بالدراسة.
فإعادة التدوير ستسمح بأخذ المعادن الثمينة من بطاريات السيارات الكهربائية المستنفدة وإعادة استخدامها في عملية إنتاج بطاريات جديدة. ووفقا لبعض التقديرات، بإمكان هذه العملية أن تلبي من 35٪ إلى 40٪ من احتياجاتنا من هذه المعادن بحلول عام 2035.[14]
ولا يقتصر الأمر على البطاريات وحسب، بل يمكن إعادة تدوير محركات الأقراص ولوحات الدوائر بل والمصابيح الفلورسنت. فيتم إعادة تدوير محتوياتها المعدنية بشكل انتقائي، مما يقلل الطلب على معادن الإنديوم والإيتريوم والنيوديميوم والكوبالت والليثيوم التي نحتاج إلى استخراجها.[15]
ويعكف بعض الباحثين على دراسة تقنيات البطاريات البديلة، التي تجنبنا تماماً الحاجة إلى المعادن مثل الكوبالت والمنجنيز والنيكل والنحاس. فعلى سبيل المثال، يشهد تطوير بطاريات فوسفات حديد الليثيوم (LFP) ، التي تستخدم فوسفات حديد الليثيوم كقطب كاثود والكربون كقطب أنود، تقدما ملحوظا.
وقد أوضحت بعض الدراسات أن تكلفة بطاريات فوسفات حديد الليثيوم تعد أقل بنسبة 6٪ مقارنة ببطاريات الـ NMC (النيكل والمنجنيز والكوبالت)، كما أنها تدوم 67 ٪ أكثرمنها من حيث دورات إعادة الشحن.[16]
ومع إطلاق التسويق التجاري لمواقع أعماق البحارفي المحيط الهادئ واكتساب ذلك زخما، ومع وجود تقنيات بديلة في الأفق، تتزايد معارضة التعدين تحت الماء. لكن في غضون ذلك – ماذا يمكننا أن نفعل أيضًا؟
إذن … فهناك طرق أفضل
إذا كان يجب علينا ألا نقوم بتجريف قيعان المحيطات بحثًا عن المعادن والقضاء على كل أشكال الحياة الموجودة هناك، فماذا عسانا أن نفعل بدلاً من ذلك؟
تقدم شركة “ليلاك سولوشنز” الناشئة، والتي تتخذ من الولايات المتحدة الأمريكية مقراً، وتعد شركة جميل لإدارة الاستثمار “جيمكو” ضمن قائمة مستثمريها، بارقة أمل وتطرح حلولا من منظور مختلف.
لقد فهمت “ليلاك سولوشنز” اللغز: فتحديداً يتم الحصول على معظم احتياطيات الليثيوم في العالم من رواسب المياه المالحة الطبيعية، و لكن فصل الليثيوم عن المياه المالحة يتطلب أحواض تبخر شاسعة تدمر البيئة. ولمواجهة ذلك، قامت “ليلاك سولوشنز” بتطوير تقنية جديدة “للتبادل الأيوني” تسمج باستخراج الليثيوم من المياه المالحة دون الحاجة إلى برك التبخر هذه. وتسهم هذه الطريقة في زيادة كميات الليثيوم المستخرجة والحصول في الوقت نفسه على منتج أكثر نقاءاً وأقل تأثيرا على البيئة.
ولكن كيف يحدث ذلك؟ تقوم حبيبات التبادل الأيوني الخاصة من “ليلاك سولوشنز” بامتصاص الليثيوم أثناء تدفق الماء المالح عبر خزانات المياه. ثم يضاف حمض الهيدروكلوريك لاستخراج الليثيوم من هذه الحبيبات، فينتج كلوريد الليثيوم، الذي يمكن معالجته بعد ذلك ليتحول إلى كربونات الليثيوم أو هيدروكسيد الليثيوم وهما يصلحان للاستخدام في البطاريات. وبذلك، أصبحت عملية استخراج الليثيوم التي كانت تحتاج إلى عامين فيما مضى لا تستغرق سوى ساعتين.
وتجدر الإشارة إلى أن التبادل الأيوني كان يستخدم في برامج معالجة المياه، ولكن هذه هي المرة الأولى التي يستخدم فيها في صناعة العناصر النادرة.
إننا إذا تمكنا من التوصل إلى تقنيات مماثلة واستخدامها على نطاق أوسع، فإن ذلك سيدعم الرأي القائل بضرورة ترك قيعان البحار تزدهر بما فيها من حيوات بدلاً من تجريفها والقضاء على كافة ما بها من أنشطة بيولوجية. بخلاف ذلك، فإننا نحكم على الأجيال القادمة بأن تحيا في عالم محروم من الهبات التغذوية التي تهديها المحيطات للإنسان، وكذا من أحد أكبر العناصر المنظمة لنظامنا البيئي.
الخلاص: من المناطق النائية إلى الفضاء الخارجي
وثمة اكتشاف آخر من المحتمل أن يغير قواعد اللعبة يأتينا من أستراليا، حيث استطاع الباحثون استعادة الرواسب الغنية بالكوبالت من نفايات منجم النحاس في المناطق الأسترالية النائية. وقد أظهرت الاختبارات أن النفايات تحتوي على أكثر من 200 ضعف كمية الكوبالت الموجودة عادة في القشرة الأرضية. والآن، تقوم فرق من الجيولوجيين بفحص عينات أخرى من النفايات الناتجة عن عمليات التعدين في جميع أنحاء البلاد لمعرفة مقدار الكوبالت الذي يمكن اكتشافه.[17]
وبالنظر إلى دلالة هذا الكشف، يتضح لنا أننا كنا نبحث في المكان الخطأ طوال الوقت، بينما مصادر المعادن الحرجة المهمة قريبة منا ولا تحتاج إلى الغوص نحو الأعماق.
وقد يكون البديل للنظر إلى الأعماق التوجه بأعيننا نحو السماء.
إن الكويكبات التي تدور حول نظامنا الشمسي بها 8٪ من الأجسام الغنية بالمعادن و 75٪ من الأجسام الكربونية الغنية المتطايرة. كما تنتشر بها المعادن الأكثر كثافة ومعادن مجموعة البلاتين والعناصر الأرضية النادرة بالتساوي في جميع الأنحاء، مما يعني أنه يمكن استخراجها على أعماق ضحلة نسبيًا – وذلك بالطبع بمجرد التغلب على مشكلة السيطرة على الكويكب.
ولا تزال التكنولوجيا اللازمة لذلك قيد التطوير في الوقت الحالي. وتتنافس على الصدارة العديد من الشركات مثل شركة بلانتري ريزورسز، التي تأسست في واشنطن في عام 2012 (والتي اشترتها لاحقًا “كونسينس سيس” على يد بيتر ديامانديس وكريس لويكي وآخرين؛ وشركة “ديب سبيس إنداستريز” التي يقع مقرها في سيليكون فالي والتي اشترتها لاحقًا شركة برادفورد سبيس وكان من بين مؤسسيها في عام 2013 رائد أعمال الفضاء ويك تملينسون.[18]
وفي الآونة الأخيرة، أنطلقت شركة “استروفورج” الناشئة في كاليفورنيا في يناير 2022 بتمويل أولي بقيمة 13 مليون دولار أمريكي. ولدى “استروفورج” تقنية مختبرة في المعامل لمعالجة المواد المستخرجة من الفضاء، ومن المقرر أن تجرب معداتها في المدارات عبر الرحلة الفضائية سبيس إكس SpaceX [19].
قد تؤتي هذه المساعي بثمارها.
وتشير إحدى الدراسات إلى أن تكلفة تسخير كويكب وزنه 500 طن وتحديد موقعه في مدارأرضي منخفض قد تصل إلى حوالي 2.6 مليار دولار أمريكي – لكن الكويكب 30 مترًا يمكن أن يدر ما يصل إلى 50 مليار دولار أمريكي من البلاتين وحده.[20]
ما من شك أن هذه الأرقام ستدفعنا إلى التوقف والتفكير في الأمر.
تدمير بيولوجي لا رجعة فيه … يجب أن نسرع
ما من أحد يمكنه أن ينكر أهمية المعادن الحرجة بالنسبة للكثير من التقنيات التي لا يمكن الاستغناء عنها في الحياة المعاصرة. ويشمل ذلك الهواتف المحمولة والبطاريات والطاقة الخضراء والرقائق الدقيقة وغيرها. ولكن يكمن التحدي في الحصول على تلك المعادن من خلال الطرائق الأقل تدميراً للبيئة.
فقبل أن نقضي على مخزون الأسماك، ونخرب كامل النظام البيئي بمضاعفة عمليات التعدين في أعماق البحار، نحتاج إلى الاعتراف بجهلنا والضغط على زر ” ايقاف مؤقت” كي نتوقف ونفكر.
إننا بحاجة إلى المزيد من المعرفة والمزيد من البصيرة، وإلا فإننا نجازف بتكرار أخطاء الماضي التي شهدناها في عمليات التعدين الأرضي، ونجازف بالتعدي على بيئاتنا البحرية بطريقة لا رجعة فيها.
كم هو سهل أن نجرف قيعان البحار بحثاً عن أي معدن ذا قيمة ونخلف الفوضى ورائنا … ولكن كم هو صعب أن نتدارك الأضرار التي ستحدث ونصلحها.
[1] https://www.iea.org/reports/the-role-of-critical-minerals-in-clean-energy-transitions, IEA, May 2021
[2] https://www.oceancare.org/wp-content/uploads/2021/11/DeepSeaMining_a-noisy-affair_report_OceanCare_2021.pdf
[3] https://www.theguardian.com/world/2021/aug/29/is-deep-sea-mining-a-cure-for-the-climate-crisis-or-a-curse
[4] https://www.mckinsey.com/business-functions/sustainability/our-insights/climate-risk-and-decarbonization-what-every-mining-ceo-needs-to-know
[5] https://earth.org/environmental-problems-caused-by-mining/
[6] https://www.mckinsey.com/industries/metals-and-mining/our-insights/the-raw-materials-challenge-how-the-metals-and-mining-sector-will-be-at-the-core-of-enabling-the-energy-transition
[7] https://www.iea.org/reports/the-role-of-critical-minerals-in-clean-energy-transitions
[8] https://www.sciencedirect.com/science/article/pii/S0964569120301526
[9] https://www.youtube.com/watch?v=7HoVwJH-_so
[10] https://www.nationalgeographic.com/environment/article/proposed-deep-sea-mining-would-kill-animals-not-yet-discovered
[11] https://globalvoices.org/2022/07/05/the-tide-is-rising-against-deep-sea-mining/
[12] https://www.theguardian.com/environment/2021/sep/29/covid-tests-and-superbugs-how-the-deep-sea-could-help-us-fight-pandemics
[13] https://www.boldbusiness.com/energy/blue-economy-impact-deep-seabed-mining-ocean-minerals/
[14] https://www.theguardian.com/world/2021/aug/29/is-deep-sea-mining-a-cure-for-the-climate-crisis-or-a-curse
[15] https://www.theguardian.com/environment/2021/may/10/recycling-rare-metals-climate-green-technology
[16] https://www.pnnl.gov/sites/default/files/media/file/Final%20-%20ESGC%20Cost%20Performance%20Report%2012-11-2020.pdf
[17] https://www.ft.com/content/d142bb46-1bc0-49bd-8005-0833497b84e0
[18] https://web.mit.edu/12.000/www/m2016/finalwebsite/solutions/asteroids.html
[19] https://www.space.com/asteroid-mining-startup-astroforge-2023-launch
[20] https://web.mit.edu/12.000/www/m2016/finalwebsite/solutions/asteroids.html