من الشرق تُشرق آفاق المستقبل
كيف تعيد العلاقات المتنامية بين الشرق الأوسط والشرق الأقصى رسم ملامح المشهد العالمي؟
من قوافل طريق الحرير التي نسجت أولى خيوط التجارة بين الحضارات، إلى شبكات الألياف الضوئية التي تختصر المسافات وتنقل البيانات في لمح البصر، لم تنقطع جسور التواصل بين الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وتركيا من جهة، والشرق الأقصى من جهة أخرى. فعلى مدى قرون، شكّل هذا الارتباط بوابة للتبادل الحضاري والثقافي والتجاري، وها هو اليوم يشهد نهضة جديدة تعكس تحولاً استراتيجيًا في العلاقات بين الجانبين. فخلال العقود الأخيرة، تطوّرت هذه العلاقة لتغدو أكثر تماسكًا وفاعلية، متجلية في شراكات اقتصادية وثقافية متنامية، تشمل مجموعة واسعة من القطاعات الحيوية، من البنية التحتية والسياحة إلى الطاقة والدفاع، ما يعيد رسم خريطة التعاون العالمي من الشرق… وباتجاه المستقبل.
كيف تطورت العلاقة بين المملكة العربية السعودية والصين؟
لطالما احتفظت المملكة العربية السعودية بعلاقات وثيقة مع الولايات المتحدة وأوروبا الغربية، غير أنه ومع بروز تحولات جذرية في موازين القوى العالمية خلال تسعينيات القرن الماضي، اتجهت المملكة العربية السعودية إلى توسيع نطاق علاقاتها مع دول آسيوية مثل اليابان وكوريا الجنوبية، ولا سيما الصين. وفي الوقت ذاته، بدأت الصين تسعى إلى توطيد علاقاتها مع العالم العربي، خاصة بعد إطلاقها مبادرة “الحزام والطريق” في عام 2013، وهي استراتيجية طموحة لتطوير البنية التحتية على مستوى عالمي. وفي عام 2016، نشرت الصين “الوثيقة سياسية الصين تجاه الدول العربية”، التي أكدت من خلالها على الدوافع التاريخية والحضارية والجيو-اقتصادية لتعميق الشراكات مع الدول العربية[1]. ومنذ ذلك الحين، وقّعت الصين اتفاقيات تعاون مع معظم الدول العربية، وانضمت العديد من هذه الدول إلى عضوية البنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية (AIIB)، ما يعكس تنامي الشراكة بين الطرفين على أسس استراتيجية راسخة.
وتُعد المملكة العربية السعودية شريكاً محورياً للصين، بفضل مكانتها القيادية في العالمين العربي والإسلامي، ودورها المحوري في سوق الطاقة العالمي. وفي المقابل، تسهم الصين وسائر دول آسيا في تمكين السعودية من تنويع علاقاتها الخارجية، ودعم إصلاحاتها الاقتصادية الطموحة على المستوى المحلي.
ما هي أبرز المحطات في تطوّر العلاقات بين السعودية والصين؟
شهدت العلاقات بين المملكة العربية السعودية وجمهورية الصين الشعبية مسارًا متصاعدًا من التنسيق والتقارب، انطلق فعليًا على المستوى الرسمي الرفيع في عام 1999 مع الزيارة التاريخية التي قام بها الرئيس الصيني جيانغ زيمين إلى الرياض، والتي مهّدت الطريق لبناء شراكة استراتيجية طويلة الأمد. تواصل هذا الزخم الدبلوماسي في عام 2006، حين قام خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز آل سعود ـ رحمه الله ـ بزيارة رسمية إلى بكين، مثّلت محطة مفصلية في ترسيخ العلاقات السياسية والاقتصادية بين البلدين، ودفعت باتجاه تعاون أوثق في مجالات الطاقة، الاستثمار، والبنية التحتية.
ومنذ ذلك الحين، تعددت اللقاءات والاتفاقيات الثنائية، لتشمل قطاعات التكنولوجيا، الأمن الغذائي، والتمويل، في إطار رؤية طموحة يتقاطع فيها “الحزام والطريق” الصيني مع “رؤية السعودية 2030″، بما يعكس تحوّل العلاقة من تبادل مصالح إلى شراكة استراتيجية شاملة.
وفيما يلي أبرز المحطات في مسار تطور العلاقة بين البلدين:
- 1999: زيارة الرئيس الصيني جيانغ زيمين إلى المملكة العربية السعودية.
- 2006: زيارة الملك عبد الله بن عبد العزيز آل سعود ـ رحمه الله ـ إلى الصين.
- 2017: زيارة الرئيس الصيني شي جين بينغ إلى السعودية، وزيارة الملك سلمان بن عبد العزيز آل سعود إلى الصين.
- 2019: زيارة صاحب السمو الملكي ولي العهد الأمير محمد بن سلمان إلى الصين.
- 2022: زيارة الرئيس شي جين بينغ إلى المملكة العربية السعودية.
وقد شكّلت زيارة الملك سلمان إلى الصين في عام 2017 نقطة تحوّل في توسيع نطاق التعاون الثنائي، لا سيّما في المجالات السياسية والأمنية والعسكرية والاقتصادية ومشاريع البنية التحتية. كذلك، لعبت زيارتا الرئيس شي جين بينغ في عامي 2016 و2022 دوراً مفصلياً في ترسيخ شراكة استراتيجية شاملة بين البلدين، امتدت إلى قطاعات متعددة، من التجارة والثقافة والسياحة إلى التكنولوجيا والطاقة.
وخلال زيارة الرئيس الصيني شي جين بينغ في عام 2016، تم الإعلان عن تأسيس “اللجنة السعودية الصينية المشتركة رفيعة المستوى” التي ركّزت على تعزيز التعاون الاقتصادي والاستراتيجي، وقد تم حينها توقيع اتفاقيات بقيمة تُقدَّر بنحو 30 مليار دولار أمريكي.[2] وفي عام 2017، أسفر الاجتماع الثاني للجنة عن إطلاق صندوق استثماري مشترك، وتأسيس “شركة طريق الحرير السعودي للخدمات الصناعية”، بهدف تعزيز الاستثمارات في منطقة جازان الاقتصادية.
أما في عام 2022، فقد شهدت العلاقات طفرة نوعية من خلال ثلاث قمم تاريخية: القمة السعودية الصينية، والقمة الصينية الخليجية الأولى، والقمة العربية الصينية الأولى. وقد رسّخت هذه القمم مكانة المملكة بوصفها البوابة الرئيسية للصين نحو منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وأسست لمرحلة جديدة من التعاون العميق في مجالات حيوية تشمل الطاقة، والاستثمار، والتعليم، والتبادل الثقافي.
إن التلاقي الاستراتيجي بين مبادرة “الحزام والطريق” الصينية ورؤية المملكة 2030 يواصل دفع عجلة التعاون بين البلدين، مع التركيز على مجالات التجارة، وتطوير البنية التحتية، وتعزيز الروابط بين الشعوب، لاسيّما من خلال السياحة والتبادل الثقافي.
ما مدى تأثير العلاقات السعودية الصينية على التجارة والاقتصاد؟
تربط المملكة العربية السعودية وجمهورية الصين الشعبية علاقات اقتصادية وثيقة، ويضطلع البلدان بدور مؤثر على الساحتين الإقليمية والدولية. فكلاهما عضو في منظمة التجارة العالمية، ومجموعة العشرين، وعدد من التكتلات الاقتصادية الدولية، بما في ذلك البنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية (AIIB).
وتُعد المملكة أول شريك تجاري للصين في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.[3] ومنذ عام 2001، أصبحت السعودية أكبر شريك تجاري للصين في الشرق الأوسط، وتمثل حالياً أكثر من 35% من إجمالي تجارة الصين مع دول مجلس التعاون الخليجي[4]. وبحلول عام 2013، تجاوزت المملكة جميع الشركاء التجاريين لتصبح الشريك الأول للصين على الإطلاق.[5]
وقد شهدت التجارة الثنائية بين البلدين نمواً هائلاً، إذ ارتفعت من 417 مليار دولار أمريكي في عام 1990 إلى 107 مليارات دولار في عام 2023،[6] فيما تجاوز إجمالي حجم التبادل التجاري خلال الفترة من 2019 إلى 2023 نحو 419 مليار دولار.[7]
وتُعد الصين أكبر مستورد للنفط الخام السعودي؛ ففي عام 2022 بلغت صادرات السعودية من الهيدروكربونات إلى الصين ما يقرب من 66 مليار دولار، من أصل إجمالي صادرات بلغت 78 مليار دولار. أما الصادرات الصينية إلى المملكة، فغالبيتها تتكوّن من السلع الاستهلاكية (بنسبة 50%)، إلى جانب الآلات والمعدات الإلكترونية والمعادن والمنسوجات والملابس.[8]
وقد أسهم الدعم الصيني لرؤية السعودية 2030 في تحفيز موجة جديدة من الاستثمارات بدءاً من عام 2016. وبين عامي 2005 ويونيو 2024، استثمرت الصين نحو 54 مليار دولار في مشاريع البنية التحتية داخل المملكة، خُصص معظمها للفترة الممتدة بين عامي 2016 و2024، حيث أنفقت الصين خلال هذه الفترة نحو 14 مليار دولار، منها 9 مليارات بين عامي 2019 و2024.[9]
وفي عام 2019، وقّعت المملكة العربية السعودية وجمهورية الصين الشعبية خمساً وثلاثين اتفاقية تعاون اقتصادي بلغت قيمتها الإجمالية 28 مليار دولار أمريكي،[10] وتنوّعت مجالاتها بين الطاقة المتجددة، والتصنيع، وإنشاء التوربينات الهوائية، وشفرات التوربينات، والمولدات الريحية، فضلاً عن منح التراخيص للشركات الصينية للعمل في العاصمة الرياض. وفي عام 2022، تم توقيع المزيد من الاتفاقيات بقيمة إجمالية بلغت 30 مليار دولار، ركّزت على مجالات الطاقة الخضراء، والبنية التحتية السحابية، والتقنيات الرقمية، والنقل، والإنشاءات، وغيرها من القطاعات الحيوية.[11]
واليوم، تنشط نحو 750 شركة صينية في السوق السعودية، وتعمل في مجالات تشمل البناء والتشييد، والطاقة، والصناعات البتروكيماوية. وبالمقابل، تستثمر المملكة في مجالات عديدة في السوق الصينية، لا سيما في قطاعات الطاقة والبتروكيماويات.[12] وفي أغسطس 2024، وقّع صندوق الاستثمارات العامة السعودي مذكرة تفاهم مع ست مؤسسات مالية صينية، بقيمة 50 مليار دولار أمريكي، في خطوة تعكس التنامي الكبير في العلاقات الاستثمارية بين البلدين.[13]
كيف توسعت جميل للسيارات في الصين؟
مؤخراً، احتفلت عبد اللطيف جميل بمرور 25 عاماً على انطلاقتها في سوق السيارات الصيني. فقد بدأت مسيرتها هناك في عام 1998، من خلال تأسيس شركة تجارية في مدينة تشنغدو، تُعرف اليوم باسم جميل للسيارات – الصين، لتوزيع سيارات “تويوتا” و”لكزس”. ومنذ ذلك الحين، تطورت استراتيجيتها لتواكب النمو السريع في قطاع مركبات الطاقة الجديدة في الصين، مع خطط طموحة للتوسع المستقبلي. وفي عام 2024، وقّعت جميل للسيارات اتفاقية تعاون مع مجموعة تشجيانغ جيلي فاريزون للمركبات التجارية العاملة بالطاقة الجديدة (Zhejiang Geely Farizon New Energy Commercial Vehicle Group)، الشركة الرائدة في مجال المركبات التجارية العاملة بالطاقة النظيفة في الصين، لتمهيد الطريق أمام توزيع مركبات فاريزون أوتو الكهربائية الجديدة (Farizon Auto) في 11 دولة يبلغ عدد سكانها الإجمالي أكثر من 450 مليون نسمة.[14] كما تربط الشركة علاقات قوية ومتنامية مع عدة علامات صينية بارزة وسريعة النمو في قطاع السيارات، مثل “بي واي دي” (BYD) و “إم جي موتور” (MG Motor)، و” جي ايه سي موتور” (GAC Motor)، و”شانغان” (Changan)، و”جيلي أوتو” (Geely Auto) لسيارات الركاب. وفي أكتوبر 2024، افتتحت “جميل للسيارات” مكتبها الجديد في مدينة شينزن الصينية، في خطوة تُجسد التزامها بتعزيز التعاون مع شركائها الحاليين والمستقبليين في الصين.

تخوض المملكة العربية السعودية والصين، إلى جانب عدد من الدول العربية، مشاريع إنشائية واسعة النطاق ومتعددة الجوانب في مختلف أنحاء منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وتركيا، حيث تسهم هذه المشاريع في تأسيس بنية تحتية خدمية وتجارية وثقافية ذات قيمة استراتيجية، تمثل ركيزة أساسية لتعزيز التنمية الاقتصادية والتعاون الإقليمي.
فمن بناء سلسلة من السدود في السودان خلال العقود الماضية، إلى مشروع “مجمع جازان الصناعي” – وهو مشروع مشترك بين السعودية والصين في مدينة جازان الاقتصادية – وصولاً إلى افتتاح مسجد “جامع الجزائر الأعظم” في الجزائر، تتجلى ملامح صعود الشرق الأقصى على خطوط أفق المنطقة بشكل متزايد.
وفي خلفية هذا المشهد، تسهم البنية التحتية الرقمية في تحديث عالم الأعمال وقطاع الاتصالات، إذ تعزز شركات صينية كبرى مثل “هواوي” و”علي بابا” و”تينسنت” وجودها في الإمارات والسعودية ومصر ودول أخرى، لتلبية الطلب المتنامي في المنطقة على المدن الذكية، والحوسبة السحابية، ومنصات التجارة الإلكترونية، وشبكات الجيل الخامس.[15]
وتُعد الطاقة مجالاً محورياً للتعاون الاستراتيجي بين الصين ودول مجلس التعاون الخليجي، التي تملك نحو 45% من احتياطيات النفط المؤكدة في العالم، وتُصدر ما يقرب من 25% من إجمالي النفط الخام العالمي.[16] وليس من المستغرب أن تكون الصين أكبر شريك تجاري لدول الخليج، وأكبر سوق لصادراتها البتروكيميائية، حيث تستورد 40% من احتياجاتها النفطية من الدول العربية.
وتربط الصين والمملكة العربية السعودية مجموعة من الشراكات لضمان مستقبل آمن للطاقة، من أبرزها الشراكة طويلة الأمد بين شركة أرامكو السعودية وشركة “ساينوبك” الصينية في “شركة ينبع أرامكو سينوبك للتكرير” (YASREF)، فضلاً عن استحواذ أرامكو مؤخراً على حصة تبلغ 3.4 مليار دولار أمريكي في شركة “رونغشنغ للبتروكيماويات” في الصين.[17]
لكن الأمر لا يقتصر على النفط فقط. ففي إطار “رؤية المملكة 2030″، وضعت السعودية هدفاً طموحاً يتمثل في توليد 50% من احتياجاتها الكهربائية من مصادر الطاقة المتجددة بحلول عام 2030، وهنا يبرز دور الشرق الأقصى في تحويل هذا الهدف إلى واقع ملموس.
فخلال السنوات الأخيرة، أُطلقت العديد من المشاريع الخضراء ومبادرات التعاون، منها مجمع متكامل للطاقة الشمسية وإنتاج الكربون الأسود بقيمة ملياري دولار بالتعاون مع شركة كورية جنوبية، بالإضافة إلى مساهمة “صندوق طريق الحرير” الصيني في تطوير أكثر من 12 غيغاواط من مشروعات الطاقة الشمسية داخل المملكة، إلى جانب مشروعات مماثلة للطاقة الشمسية والرياح في الإمارات وجنوب أفريقيا والأردن ومصر والمغرب.[18]،[19]
وتُعد السياحة من أبرز مصادر توليد الثروة، وتمثّل الصين، بصفتها أكبر مصدر عالمي للسياح المغادرين، هدفاً محورياً لاستراتيجية المملكة السياحية. وقد حددت المملكة العربية السعودية هدفاً طموحاً يتمثل في استقطاب 5 ملايين سائح صيني سنوياً بحلول عام 2030، لتصبح الصين بذلك ثالث أكبر مصدر للسياح الوافدين إلى المملكة.[20]
ولتيسير هذا التوجه، سهّلت المملكة إجراءات الحصول على التأشيرات للمواطنين الصينيين، فيما أطلقت الخطوط الجوية السعودية رحلات مباشرة إلى الصين في عام 2023 لتعزيز الربط الجوي بين البلدين.
وفي العام نفسه، نظمت الهيئة السعودية للسياحة أول حملة ترويجية دولية لها في مدينة شنغهاي، وصلت من خلالها إلى نحو 500 مليون مواطن صيني، وجذبت أكثر من 80 ألف زائر.[21] وبالمقابل، منحت الحكومة الصينية المملكة العربية السعودية صفة “وجهة معتمدة” للرحلات السياحية الجماعية، وهو اعتراف رسمي يُسهم في تسهيل وتسريع تنظيم الرحلات. وأصبح بإمكان السائحين الصينيين اليوم الاختيار من بين عدد متزايد من الباقات السياحية التي تروّجها وكالات السفر الصينية، حيث زار المملكة أكثر من 100 ألف سائح صيني خلال النصف الأول من عام 2024 فقط، وهو ما يمثّل نمواً بنسبة 29% مقارنة بالفترة نفسها من العام السابق.[22]،[23] ويُجسّد هذا التدفّق المتزايد من السياح مصدراً مهماً للدخل، كما يُعزّز في الوقت ذاته الروابط الثقافية المتنامية بين الشعبين.
كيف تطورت العلاقات الثقافية بين السعودية والصين؟
تنطلق رؤية السعودية 2030 من رغبة راسخة في إبراز الإرث الحضاري والقيم الوطنية والقوة الناعمة للسعودية على الساحة الدولية، وقد أبدت الصين دعماً قوياً لهذه التطلعات الثقافية، باعتبارها مدخلاً لترسيخ التقارب وتعميق التفاهم الاستراتيجي طويل الأمد. وفي السنوات الأخيرة، أطلقت السعودية والصين عدداً من المبادرات الثقافية المشتركة التي شملت إنشاء مكتبات ومؤسسات ثقافية، وإقامة فعاليات في الفنون البصرية والأدائية، والمسرح، والعمارة، والتصميم، والحرف التقليدية.
ويحظى التعليم بمكانة مركزية في هذا التعاون، وقد شكّل افتتاح “مكتبة الملك عبد العزيز العامة” في جامعة بكين عام 2017 محطة بارزة في هذا المسار، حيث تُعد اليوم أكبر منصة ثقافية عربية في الصين.[24] وفي عام 2019، أعلنت المملكة العربية السعودية إدخال اللغة الصينية (الماندرين) إلى مناهج التعليم في المدارس على جميع المستويات، في خطوة تمثل تحولاً نوعياً عن السياسة التعليمية التقليدية التي اقتصرت لسنوات طويلة على تدريس لغة أجنبية واحدة.[25]
ومن جانبها، وسّعت الصين نطاق تعليم اللغة العربية داخل مؤسساتها التعليمية.[26] وفي الوقت نفسه، يشجع البلدان برامج التبادل الطلابي، حيث يتزايد عدد الطلبة السعوديين الذين يختارون متابعة دراساتهم الجامعية في الصين، كما يشهد عدد الطلبة الصينيين الراغبين في الدراسة في المملكة نمواً ملحوظاً.
فهؤلاء الطلبة هم رواد الأعمال، والمبتكرون، والمستثمرون في الغد – وكثير منهم بات ينظر إلى التعاون السعودي الصيني بوصفه معياراً طبيعياً للعلاقات الدولية المستقبلية.
ما هي الدول الأخرى في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وتركيا التي تعزز علاقاتها مع الشرق الأقصى؟
ليست المملكة العربية السعودية والصين وحدهما من يسعيان إلى تعميق علاقاتهما الثنائية؛ إذ تُبدي دول أخرى في المنطقتين اهتماماً متزايداً ببناء شراكات استراتيجية مماثلة. فعلى سبيل المثال، ترتبط السعودية واليابان بشراكة قوية في مجال الطاقة، لا سيّما في قطاعي النفط والغاز، حيث تعتمد اليابان على المملكة لتأمين نحو 40% من وارداتها من النفط الخام.[27] كما تضطلع الشركات اليابانية بدور محوري في مشاريع البتروكيماويات داخل المملكة، مثل مشروع “بترورابغ”، وهو مشروع مشترك بين شركة أرامكو السعودية وشركة “سوميتومو كيميكال” اليابانية.[28]
وتُعد اليابان شريكاً أساسياً في دعم رؤية المملكة 2030، من خلال مساهماتها في مجالات التكنولوجيا والابتكار، بما في ذلك الروبوتات، والذكاء الاصطناعي، والطاقة المتجددة.[29] وفي عام 2022، وقّع الجانبان اتفاقيات في مجال الطاقة النظيفة، شملت التعاون في مجالات الأمونيا وإعادة تدوير الكربون، بهدف الوصول إلى الحياد الكربوني بحلول عام 2050 في اليابان، و2060 في السعودية.[30]
وتشارك الشركات اليابانية أيضاً في تنفيذ مشاريع بنية تحتية كبرى داخل المملكة العربية السعودية، من أبرزها تطوير منظومة القطارات عالية السرعة، وعلى رأسها “قطار الحرمين السريع” الذي يربط بين مكة المكرمة والمدينة المنورة وجدة ومدينة الملك عبد الله الاقتصادية.
كما تلعب الاستثمارات اليابانية دوراً محورياً في تطوير البنية التحتية في جمهورية مصر العربية، لاسيّما في مشروعات كبرى مثل “مترو أنفاق القاهرة”، حيث قدمت اليابان مساهمات كبيرة في تطوير هذه الشبكة الحيوية. ففي عام 2022، وقّعت الوكالة اليابانية للتعاون الدولي (JICA) اتفاقية مع جمهورية مصر العربية لتنفيذ المرحلة الأولى من الخط الرابع لمترو أنفاق القاهرة، في خطوة تؤكد التزام اليابان المستمر بدعم تحديث قطاع النقل والبنية التحتية في مصر.[31] ويُعد حجم التبادل التجاري بين البلدين كبيراً، حيث تصدّر اليابان إلى مصر مركبات وآليات ومعدات إلكترونية، في حين تصدّر مصر إلى اليابان النفط والغاز الطبيعي والمنتجات الزراعية.[32]
أما عبد اللطيف جميل، فتربطها علاقات وطيدة واستثنائية مع اليابان منذ تأسيسها قبل 80 عاماً، ويأتي في مقدمة تلك العلاقات الشراكة طويلة الأمد مع شركة “تويوتا“، والتي تمتد لأكثر من 70 عاماً. وقد أسهمت هذه العلاقة في تمكيننا من الاضطلاع بدور ريادي في تطوير ونشر حلول تنقل مستدامة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وتركيا، من خلال طرح مجموعة شاملة من مركبات “تويوتا” و”لكزس” الهجينة، بالإضافة إلى المركبات العاملة بخلايا وقود الهيدروجين.
ولم يقتصر التعاون على المركبات المخصصة للركاب، بل امتد ليشمل قطاعات النقل الأخرى مثل المركبات التجارية، والمعدات، والخدمات اللوجستية، بالتعاون مع علامات تجارية يابانية وشرق آسيوية مرموقة مثل “هينو” للشاحنات، و”تويوتا لمناولة المواد”، و”كوماتسو” المتخصصة في حلول التعدين والبناء، إلى جانب مجموعة من حلول توليد الطاقة التي تخدم قطاع الإنشاءات.
وفي عام 2024، افتتحنا مكتباً جديداً في حي “يايسو” بمدينة طوكيو، إلى جانب مكتب آخر في مدينة “شينزن” الصينية، تأكيداً على التزامنا بتوسيع نطاق شراكاتنا مع شركائنا الحاليين والمحتملين في المستقبل.
كما تُعد كوريا الجنوبية، وهي من أسرع اقتصادات الشرق الأقصى نمواً، من الدول التي تعزز روابطها بشكل متسارع مع منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وتركيا. وتُعد دولة الإمارات العربية المتحدة ثاني أكبر شريك تجاري لكوريا الجنوبية في منطقة الخليج،[33] وقد لعبت كوريا الجنوبية دوراً محورياً في قطاع الطاقة الإماراتي، لا سيّما من خلال مساهمتها البارزة في تطوير محطة براكة للطاقة النووية، وهي الأولى من نوعها في العالم العربي، والتي تم بناؤها من قِبل شركة الطاقة الكهربائية الكورية (KEPCO).[34]
وتمتد علاقات التعاون الوثيق بين كوريا الجنوبية وتركيا لتشمل مشاريع بنية تحتية كبرى، من أبرزها “جسر جناق قلعة 1915″، أطول جسر معلّق في العالم، والذي أنجزته شركات كورية جنوبية.[35] وتعززت العلاقات بين البلدين أيضاً في المجال الدفاعي، حيث تزوّد كوريا الجنوبية تركيا بتقنيات متقدمة في الصناعات الدفاعية، في حين تُصدر تركيا إلى كوريا الجنوبية منتجات نسيجية وقطع غيار للسيارات.[36] وبالإضافة إلى التعاون التجاري، استكشف البلدان فرصاً للشراكة في مجال الطاقة المتجددة، خاصة في مشاريع طاقة الرياح والطاقة الشمسية. فعلى سبيل المثال، تم تطوير أكبر محطة للطاقة الشمسية في تركيا بالتعاون بين شركة “كالـيون القابضة” التركية وشركة “هانوا” الكورية الجنوبية.[37]
ماذا يحمل المستقبل لعلاقات منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وتركيا مع الشرق الأقصى؟
مع ترسّخ مكانة الصين كإحدى القوى الاقتصادية العظمى في العالم، وازدهار الشرق الأقصى كواحد من أكثر الأقاليم ديناميكية على الصعيد الاقتصادي، يبدو من الطبيعي أن تسعى دول منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وتركيا إلى تعميق تحالفاتها الاستراتيجية والاقتصادية مع هذه الدول. وإذا ما استندنا إلى ما شهدته السنوات الأخيرة من تعاون متنامٍ، فإن آفاق المستقبل تشير إلى مزيد من الازدهار والتأثير السياسي المشترك بين الجانبين، بما يرسّخ شراكة طويلة الأمد تقوم على التعاون المتبادل بين اثنتين من أكثر مناطق العالم حيوية وفعالية.
[1] The State Council, People’s Republic of China, “China’s Arab Policy Paper,” January 13, 2016.
[2] “Saudi Arabia, China Emerge as Comprehensive Strategic Partners as Chinese President Xi Jinping Wraps up State Visit,” Arab News, December 10, 2022
[3] https://www.chinadailyhk.com/hk/article/304514
[4] https://www.chinadaily.com.cn/a/202410/29/WS672016faa310f1265a1ca100.html
[5] https://www.chinadaily.com.cn/a/202410/29/WS672016faa310f1265a1ca100.html
[6] https://www.arabnews.com/node/2274256
[7] https://embassies.mofa.gov.sa/sites/China/EN/AboutHostingCountry/SaudiRelations/Pages/default.aspx
[8] World Bank, “China Product Exports and Imports to Saudi Arabia 2022.”
[9] https://www.aei.org/china-global-investment-tracker/
[10] https://www.reuters.com/article/business/saudi-china-sign-28-billion-worth-of-economic-accords-spa-idUSKCN1QB1EU/
[11] https://www.reuters.com/world/chinas-xi-starts-epoch-making-saudi-visit-deepen-economic-strategic-ties-2022-12-07/
[12] Hu Weijia, China-Saudi Arabia Investment Cooperation Strengthening Amid Global Uncertainties,” Global Times, November 26, 2024.
[13] Jack Dutton, “Saudi PIF Signs Deals Worth up to $50B with Six Chinese Institutions,” Al-Monitor, August 2, 2024
[14] https://alj.com/en/news/jameel-motors-international-announces-global-collaboration-in-11-countries-with-geely-farizon/
[15] https://www.middleeastmonitor.com/20240925-china-tech-giants-eye-middle-east-for-growth-amid-rising-demand-for-digital-infrastructure/
[16] https://www.imf.org/external/pubs/ft/med/2003/eng/fasano/
[17] Aramco, “Aramco Completes $3.4bn Purchase of Rongsheng Petrochemical Stake,” July 21, 2024.
[18] https://carnegieendowment.org/posts/2025/01/how-china-aligned-itself-with-saudi-arabias-vision-2030?lang=en
[19] https://carnegieendowment.org/posts/2025/01/how-china-aligned-itself-with-saudi-arabias-vision-2030?lang=en
[20] https://www.chinausfocus.com/foreign-policy/china-saudi-cultural-ties-enter-a-new-era
[21] https://www.spa.gov.sa/en/N2004123
[22] https://www.arabnews.com/node/2536566/business-economy
[23] https://www.chinadaily.com.cn/a/202410/29/WS672016faa310f1265a1ca100.html
[24] https://kapl.pku.edu.cn/en/NewsandAnnouncements/News/0b3b88c9b5a6443d80d81926c1d48e0e.htm
[25] https://www.arabnews.com/node/1456466/saudi-arabia
[26] https://www.tandfonline.com/doi/full/10.1080/14664208.2021.2005369
[27] https://fuelcellsworks.com/2024/12/27/electrolyzer/riyadh-tokyo-seek-to-expand-cooperation-in-clean-energy-technology-and-green-hydrogen
[28] https://japan.aramco.com/en/creating-value/services/projects/petro-rabigh
[29] https://theciotimes.com/japan-with-saudi-vision-2030-ministerial-roundtable-highlights-cooperation/
[30] https://fuelcellsworks.com/2024/12/27/electrolyzer/riyadh-tokyo-seek-to-expand-cooperation-in-clean-energy-technology-and-green-hydrogen
[31] https://www.railwaypro.com/wp/jica-signs-agreement-for-cairo-metro-line-4
[32] https://oec.world/en/profile/bilateral-country/jpn/partner/egy
[33] https://www.moec.gov.ae/en/-/uae-and-south-korea-discuss-strengthening-of-economic-investment-cooperation-unveiling-novel-frameworks-to-drive-startup-growth-in-both-markets
[34] https://www.world-nuclear-news.org/Articles/Korea-and-UAE-agree-to-expand-nuclear-cooperation
[35] https://www.enr.com/articles/57761-global-project-of-the-year-1915canakkale-bridge
[36] https://www.investkorea.org/ik-en/bbs/i-5073/detail.do?ntt_sn=491671
[37] https://dailyjus.com/world/2025/02/the-super-permit-turkiyes-renewable-energy-agenda