تتعرض المجتمعات والاقتصادات حول العالم  لإضطرابات ومشكلات متعاقبة نتيجة لما يشهده العالم من مستويات قياسية من الجفاف. وللتصدي لهذه الكارثة، لا بد من التحرك الفوري. فبينما تتصدرالأحداث الجوية المتطرفة والمأساوية كالأعاصير وأمواج تسونامي عناوين الصحف في جميع أرجاء العالم، تظل كارثة  الجفاف بعيدة عن دائرة الاهتمام، على الرغم من تأكيد  تقرير للأمم المتحدة صدر العام الماضي على أن الجفاف يمثل مشكلة خطيرة وملحة.

ويسلط التقرير المعنون “لمحة عالمية عن الجفاف” والصادر عن اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة التصحر في  2023 الضوء على “الدمار الصامت” الذي يمكن أن يُسببه الجفاف[1].

ويؤكد التقرير، الذي يعتمد على بيانات جُمعت من 101 دولة، أن 1.84 مليار شخص على مستوى العالم يعانون من الجفاف – ويواجه 4.7٪ منهم الجفاف الشديد والمتطرف. وشملت الدول التي أعلنت حالات طوارئ بسبب الجفاف خلال عامي 2022 و 2023 الولايات المتحدة والهند والصين وإندونيسيا. و تتفاقم المشكلة في أرجاء كثيرة من العالم. ففي عام 2022، شهدت أوروبا أعلى درجات حرارة لفصل الصيف على الإطلاق. وبلغت مساحة المناطق المتأثرة بالجفاف في القارة أكثر من 630 ألف كيلومتر مربع  مقارنةً بالمتوسط ​​السنوي الذي تم تسجيله بين عامي 2000 و2022 [2]و البالغ 167 ألف كيلومتر مربع . ومن المتوقع أن تتضاعف فترات الجفاف المعتدل والشديد والاستثنائي في بعض مناطق الصين بحلول نهاية هذا القرن، وأن تزداد شدة الجفاف بأكثر من 80%.[3]

ويشير التقرير إلى أن تأثيرات الجفاف لا تقف عند حد ما يحدث من تراجع فوري في امدادات المياه، إذ يدفع الجفاف المجتمعات والنظم البيئية للوقوع في “شرك كبير به أشكال كثيرة ومترابطة من  الكوارث”. فمن نقص الغذاء إلى ارتفاع الأسعار وتعطل الشحنات، تتفاقم الخسائرالاقتصادية الناجمة عن الجفاف لتبلغ قيمتها السنوية عالميا مليارات الدولارات[4]. و قد يفاقم الجفاف أيضًا بعض المشكلات الأخرى كالصراعات والهجرة القسرية، وهو ما يؤدي إلى مزيد من الاضطرابات ومعاناة الأفراد. يقول الأمين التنفيذي لاتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة التصحر، إبراهيم ثياو، يسبب  الجفاف ” دمارًا  للكوكب الوحيد الصالح لعيش الإنسان من خلال العواقب بعيدة المدى التي تطول النظم البيئية والاقتصادات والأرواح البشرية”[5]. ولعل  فهم هذه المشكلة ومعالجتها بات يمثل أولوية عالمية ملحة.

مستويات قياسية

شهدت أرجاء عدة من العالم مستويات قياسية من الجفاف، لاسيما مؤخرا. ففي فبراير 2024، واجهت كاتالونيا “أسوأ موجة جفاف تم تسجيلها على الإطلاق”[6] طالت تأثيراتها أكثر من ستة ملايين كاتالوني في 200 بلدة ومدينة، إذ مُنع السكان من غسل سياراتهم وملء حمامات السباحة الفارغة[7]. كما أثرت موجات الجفاف التي حدثت في وقت سابق من العام نفسه على العديد من المناطق الأخرى من إقليم البحر الأبيض المتوسط، وفرضت قيود على استخدام المياه في بعض الأماكن مثل جنوب إسبانيا وصقلية للتصدى لتراجع الإمدادات. وبالمثل، حظرت المغرب استخدام المياه لتنظيف الطرق وري الحدائق وبعض المناطق الزراعية. وقد أوضحت إحدى الدراسات الصادرة عن المفوضية الأوروبية أن مستويات المياه في خزانات البلاد قد تراجعت بشكل ملحوظ، حيث امتلأ السد المتوسط ​​بأقل من ربع سعته[8].

وفي الوقت نفسه، تشهد شمال كينيا وإثيوبيا والصومال حاليًا أشد موجات الجفاف ضراوة، مما أدى إلى نفوق تسعة ملايين رأس من الماشية ومواجهة أربعة ملايين شخص للانعدام الحاد للأمن الغذائي. ومن جانبه، أكد ممثل لجنة الإنقاذ الدولية لصحيفة التايمز إن تأثير موجة الجفاف وضع شرق إفريقيا “على شفا كارثة إنسانية”، حيث يواجه ملايين الأشخاص تبعات الكارثة التي شملت سوء التغذية والنزوح ونقص المياه.[9]

على صعيد آخر، تواجه غابات الأمازون المطيرة أسوأ موجة جفاف تم تسجيلها على الإطلاق. وقد أشار تقريرٌ للمفوضية الأوروبية صدر العام الماضي إلى التبعات المترتبة على قلة الأمطار وتعاقب موجات الحر وارتفاع درجات الحرارة عن المعدلات الطبيعية، والتي شملت تراجع تدفق الأنهار وإجهاد الغطاء النباتي، وهو ما يُلحق الضرر بسبل العيش المحلية ويُعرّض التنوع البيولوجي للخطر[10]. وإلى جانب تلف المحاصيل، يُعيق انخفاض منسوب المياه الملاحةَ البحرية، وهو ما قد يترتب عليه عزل المجتمعات عن السلع والخدمات الأساسية وتعطيل الاقتصادات المحلية.[11]

تبعات تغير المناخ

في كل هذه المناطق وغيرها، يتضح جليا أن تغير المناخ يعد من المسببات الرئيسة لموجات الجفاف الضارية التي لم نشهدها من قبل. فقد أوضحت دراسة أجرتها مجموعة علماء تابعين لمبادرة تحليل تأثير المناخ على الظواهر الجوية في عام 2022 أن تغير المناخ الناجم عن الأنشطة البشرية كان وراء موجات الجفاف التي شهدتها مناطق عدة من نصف الكرة الشمالي – بما في ذلك الصيف الأكثر حرارة في أوروبا[12]. وفي عام 2023، خلصت دراستان إلى استنتاجات مماثلة تتعلق بمناطق أخرى من العالم. وقد أكد علماء مبادرة تحليل تأثير المناخ على الظواهر الجوية أن تغير المناخ زاد من احتماليات حدوث  الجفاف الذي تشهده منطقة شرق إفريقيا في الوقت الحالي بحوالي 100 مرة، معتبرين هذا الرقم” لا يصف الصورة كاملة”. وفي هذا العام، قالت المجموعة نفسها إن تغير المناخ كان “المحرك الرئيس” للجفاف الاستثنائي الذي حدث في حوض الأمازون. وبينما تُساهم ظاهرة النينيو الجوية أيضًا في تفاقم الجفاف في المنطقة، قال الباحثون إن الظروف الحالية “تحدث بسبب تغير المناخ”.

وفي نقاش تناول علاقة تغير المناخ بالجفاف، أوضح علماء مبادرة تحليل تأثير المناخ على

مؤشر SPEI لستة أشهر عبر حوض نهر الأمازون (بالأزرق)، يونيو-نوفمبر 2023، مُصنَّف ضمن نظام مراقبة الجفاف الأمريكي، محسوب من MSWEP وMSWX. حقوق الصورة: © مبادرة تحليل تأثير المناخ على الظواهر الجوية worldweatherattribution.org

الظواهر الجوية أنه بينما يحدث الجفاف – كما يعرف في الظواهر الطبيعية –  بسبب تراجع معدلات هطول الأمطار، يدخل ضمن مسببات الجفاف الزراعي  تأثير زيادة التبخر والنتح – أي تبخر الماء والنتح من النباتات بسبب ارتفاع درجات الحرارة.

فزيادة معدلات التبخر والنتح الناتج عن الاحتباس الحراري  يمكن أن يلعبا دورا رئيسا في تفاقم آثار الجفاف.

وبالنسبة للأمازون، خلص علماء مبادرة تحليل تأثير المناخ على الظواهر الجوية  إلى أن تغير المناخ الناتج عن الأنشطة البشرية زاد من احتمالية حدوث جفاف جوي بالمنطقة بحوالي 10 مرات، ومن احتمالية  حدوث جفاف زراعي بحوالي 30 مرة[13].

وقد حذر علماء مبادرة تحليل تأثير المناخ على الظواهر الجوية أيضا من أن مثل هذه الأحداث ستصبح أكثر شيوعًا ما لم يتحرك العالم بسرعة ويتصدى لظاهرة تغير المناخ، مؤكدين أنه في عالم ترتفع فيه درجات الحرارة بمعدل درجتين مئويتين مقارنة بعصور ما قبل الثورة الصناعية، تزداد احتمالية حدوث جفاف زراعي بمقدار أربعة أضعاف، واحتمالية حدوث جفاف جوي بثلاثة أضعاف.

وتتوافق استنتاجات  علماء المبادرة مع أبحاث ودراسات أخرى، مما يشير إلى إجماع متزايد على أن تغير المناخ يسهم في زيادة مشكلات الجفاف. فقد وجدت دراسة أجريت في الولايات المتحدة العام الماضي، تحت إشراف وكالة ناسا، أن  موجات الجفاف الكبرى وفترات هطول الأمطار الغزيرة قد زادت مع ارتفاع درجات الحرارة عالميا[14]. فعلى سبيل المثال، خلال الفترة التي امتدت بين عامي 2015 و2021، شهدنا موجات الجفاف المتطرفة و الارتفاعات الشديدة في معدلات الرطوبة أربع مرات سنويًا، مقارنةً بثلاث مرات سنويًا في السنوات الـ 13 السابقة. وقد خلصت الدراسة إلى أن “زيادة الظواهر الجوية المتطرفة وضراوتها ترتبط ارتباطًا وثيقًا بمتوسط ​​درجة الحرارة العالمية… مما يشير إلى أن استمرار ارتفاع درجة حرارة الكوكب سيؤدي إلى زيادة موجات الجفاف وهطول الأمطار وجعلهما أكثر تواترًا و أكثر شدةً وأطول زمنا”. وتوضح ناسا أن هذه النتائج جد منطقية لأن الهواء الدافئ يتسبب في تبخر المزيد من الرطوبة من سطح الأرض خلال فترات الجفاف؛ كما يمكن للهواء الدافئ أن يحتفظ بمزيد من الرطوبة مما يؤدي إلى تساقط الثلوج وهطول الأمطار بغزارة.

وتجدر الإشارة إلى أن آثار الجفاف نفسها قد تزيد الوضع سوءا بشكل أو بآخر.فمكتب الأرصاد الجوية في المملكة المتحدة يؤكد أن جفاف التربة الناتج عن زيادة التبخر قد يجعل الهواء أكثرحرارة، وهو ما  يؤدي بدوره  إلى المزيد من التبخر[15]. من ناحية أخرى، يشير مركز الأبحاث C2ES والذي يتخذ من الولايات المتحدة مقرا له إلى أن تغير المناخ يغير أيضًا توقيت توافر المياه. إذ يتسبب ارتفاع درجات الحرارة  خلال فصل الشتاء في تراجع معدلات هطول الثلوج في نصف الكرة الشمالي، وهو ما قد يمثل مشكلة، حتى ولو قابل ذلك زيادة في معدلات هطول الأمطار. فالعديد من أنظمة المياه تعتمد على ذوبان الثلوج خلال فصل الربيع. ويعني ذلك أن ارتفاع درجات الحرارة قد يؤثر سلبا على التوازن الطبيعي. و يؤكد مركز C2ES أيضا أن الثلج يعمل كسطح عاكس – لذا فإن قلة وجوده على الأرض يؤدي حتما إلى ارتفاع درجات حرارة السطح، مما يزيد من مشكلات الجفاف.

إن علاقة تغير المناخ بمشكلة الجفاف جد معقد، وما من شك أنه يزيد المشكلة سوءًا. فوفقا لتقرير التقييم السادس الصادر عن الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ، هناك تأكيد   بأن  القرن الحادي والعشرين سيشهد “زيادة في إجمالي مساحة الأراضي المعرضة للجفاف، وستصبح نوبات الجفاف أكثر تواترًا وأكثر شدةً”[16]. وفي ظل سيناريوهات ارتفاع معدلات الانبعاثات الحالية، اعلنت ناسا أن “المناطق التي تتعرض الآن للجفاف قد تشهد المزيد من موجات الجفاف المستمر”. وأضافت  أن خطر جفاف التربة قد يزداد في أقاليم متفرقة، وقد تشهد بعض المناطق “حرائق غابات أكثر تواترًا وأكثر ضراوة”.[17]

ماذا بعد موجات الجفاف المدمرة؟

في بعض الأحيان، يُخلّف الجفاف آثارًا مدمرة وواسعة النطاق. فمع تراجع إمدادات المياه، تصبح  قدرة الأسر على تلبية احتياجاتها من مياه الشرب والطهي والاعتناء بالنباتات والتنظيف محدودة. كما أن الجفاف قد ينطوي على تأثيرات سلبية عدة بالنسبة لقطاعات مختلفة مثل الزراعة والطاقة والنقل، ناهيك عن مشكلات الصحة العامة[18]. ويُشبّه المركز الوطني للتخفيف من آثار الجفاف في جامعة نبراسكا سلسلة الآثار المباشرة وغير المباشرة لموجات الجفاف بأحجار الدومينو. فعلى سبيل المثال، إذا فسد محصول الذرة لدى أحد المزارعين، فإنه يصبح غير قادر على توفير المال الكافي لشراء جرار جديد من التاجر، الذي بدوره سيخسر المال. وماذا إذا فقد عدد كبير من المزارعين محاصيلهم من الذرة؟ قد لا يتمكن التاجر في هذه الحالة من توظيف الأفراد، بل وقد يضطر إلى الإغلاق، وهو ما سيترتب عليه المزيد من الآثار بالنسبة للمجتمع.[19]

التبعات الاقتصادية

تخلف موجات الجفاف آثارا اقتصادية ضخمة أيضا. فوفقًا لوكالة ناسا، تعد الفيضانات و موجات الجفاف مسئولة عن أكثر من 20% من الخسائر الاقتصادية الناجمة عن الظواهر الجوية المتطرفة في الولايات المتحدة سنويًا[20]. وتعتبر الزراعة واحدة من أكثر القطاعات تضررًا. فوفقًا للإدارة الوطنية للمحيطات والغلاف الجوي  التابعة للحكومة الأمريكية، يعد تراجع المحاصيل وفقدان المراعي من أبرز التأثيرات السلبية لموجات الجفاف. وتجدر الإشارة إلى أنه منذ عام 1980، شهدت الولايات المتحدة 26 موجة جفاف، مما كلف البلاد ما لا يقل عن 249 مليار دولار أمريكي (بأسعار عام 2020)[21]. وفي ولاية كاليفورنيا وحدها، كلفت موجات الجفاف القطاع الزراعي وحده حوالي 1.1 مليار دولار أمريكي وما يقرب من 8750 وظيفة بدوام كامل وجزئي، وذلك وفقًا للتحليل الذي أجراه باحثون في جامعة كاليفورنيا[22]. وفي عام 2023، اوضحت إحدى الدراسات أن الخسائر الناجمة عن موجات الجفاف التي ضربت عدد من ولايات الجنوب والغرب الأوسط الأمريكية قد بلغت 14.5 مليار دولار أمريكي.[23]

وتجدر الإشارة إلى أن التأثيرات المباشرة للجفاف على الزراعة قد يتمخض عنها مجموعة من الآثار غير المباشرة التي تشمل على سبيل المثال لا الحصر: تراجع الإمدادات الموجهة لشركات تصنيع الأغذية، وانخفاض الطلب على المدخلات مثل الأسمدة والعمالة الزراعية. وفي بعض الأحيان، قد تنتقل تكلفة الخسائر إلى المستهلكين أنفسهم من خلال زيادة الأسعار، وهنا قد تتولى الحكومات تخفيف آثار ذلك من خلال برامج المساعدات الحكومية.

وتؤكد الإدارة الوطنية للمحيطات والغلاف الجوي أن العديد من القطاعات الصناعية الأخرى تتأثر سلبا بسبب الجفاف. فالمُصنِّعون يستخدمون المياه في العديد من الأغراض كالتصنيع والمعالجة والغسيل والتبريد[24]. كما أن المياه تٌستخدم في إنتاج جميع أنواع الطاقة. فعلى سبيل المثال، تزداد كفاءة إنتاج الطاقة الكهرومائية مع ارتفاع مستويات المياه، كما يحتاج توليد الطاقة الحرارية (بما في ذلك محطات توليد الطاقة التي تعمل بالفحم والغاز) إلى كميات كبيرة من المياه لتوليد البخار وللتبريد.

ويعني ذلك أن الجفاف ينطوي على تبعات سلبية بالنسبة للاقتصادات الوطنية. فوفقا للمفوضية الأوروبية، يكلف الجفاف الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة سنويًا حوالي 9 مليارات يورو، وبالنسبة لكل من إسبانيا وإيطاليا وفرنسا يتجاوز الرقم المليار يورو[25]. وتجدر الإشارة إلى أن تأثيرات الجفاف تكون أسوأ بشكل عام في البلدان الأكثر فقرًا. فقد أوضحت إحدى الدراسات التحليلية التي أجراها البنك الدولي أن الآثار السلبية لموجات الجفاف “تتركز في الدول النامية”[26].

ففي الدول منخفضة ومتوسطة الدخل، يتسبب الجفاف الشديد في تراجع النمو بحوالي 0.85 نقطة مئوية، بينما في الدول مرتفعة الدخل، يكون معدل انخفاض النمو “أقل من نصف ما تشهده الدول النامية”[27]. ويُعدّ انخفاض قيمة عملة الكواشا الزامبية إلى مستوى قياسي  هذا العام على خلفية موجة الجفاف الشديدة التي ضربت البلاد  مؤشرًا واضحًا على احتمال أن يُسبب الجفاف عواقب اقتصادية وخيمة[28].

التبعات الصحية والاجتماعية والبيئية

وفي شرق أفريقيا، أدى الدمار الاقتصادي المستمر الناجم عن سنوات الجفاف إلى مشكلات صحية واجتماعية متعددة. إذ تُشير منظمة الصحة العالمية إلى أن تبعات الكوارث التي تتعلق بالمناخ، و كذا الصراعات، قد تؤدي إلى ارتفاع حاد في معدلات الجوع، فضلا عن نزوح أعداد كبيرة من الأفراد بحثًا عن الطعام والماء. وتجدر الإشارة إلى أن أكثر من 45 مليون شخص يواجهون انعدام الأمن الغذائي في المنطقة، إذ تتفاقم  مشكلة الجوع في السودان وشمال إثيوبيا وجنوب السودان. وتتوقع منظمة الصحة العالمية أن يقع 10.8 مليون طفل دون سن الخامسة فريسة لسوء التغذية الحاد بحلول يونيو/حزيران 2024، وتؤكد أن “الزيادة” في تفشي الأمراض، بما في ذلك الكوليرا والملاريا والحصبة، قد يكون مرتبطا ارتباطًا مباشرًا بالظواهر المناخية المتطرفة والصراعات.

تناولت منظمة الصحة العالمية التبعات الصحية لظاهرة الجفاف، مؤكدة أن النزوح المتزايد للأفراد غالبًا ما يصاحبه تدهور النظافة و خدمات الصرف الصحي. ومع تراجع إمدادات الطعام و انتشار سوء التغذية، يصبح الإنسان أكثر عرضة للإصابة بالأمراض – ولاسيما الأطفال[29].

وقد تشكل التبعات الصحية للجفاف مشكلات أيضًا في البلدان الأكثر ثراءً. ففي الولايات المتحدة، على سبيل المثال، أعلنت مراكز السيطرة على الأمراض والوقاية منها أن للجفاف آثارًا صحية عديدة تستمر على المدى الطويل. ويشمل ذلك:  تلوث المياه، والإضرار بصحة الماشية وخدمات الصرف الصحي[30] .

وبعيدا عن صحة الإنسان، ينطوي الجفاف على تبعات مقلقة بالنسبة للبيئة والتنوع البيولوجي حيث يؤدي إلى تدمير الموائل، والتسبب في الهجرة و تفشي الأمراض[31][32]

التصدي لمخاطر الجفاف وعواقبه

تسهم جهود التصدي لتغير المناخ في مواجهة مشكلة الجفاف. كما يسهم العمل المُركّز في مساعدة الدول على الاستعداد لموجات الجفاف والتصدي لها بفعالية أكبر عند حدوثها. وتدعو اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة التصحر  كافة الدول إلى تبني نُهج “استباقية ومنسقة وشاملة” لإدارة مخاطر الجفاف. وبينما تعتمد العديد من الدول على إدارة الأزمات وحدها لمواجهة الجفاف، تُؤكد الاتفاقية على أهمية العمل المُبكر للتخفيف من حدة آثاره والتصدي لها. وثمة 70 دولة تعمل في ضوء الاتفاقية  لتطبيق نُهج “ذكية في مواجهة الجفاف”، بما في ذلك أنظمة الرصد والإنذار المُبكر، وتقييم مواطن الضعف، وتطبيق تدابير التخفيف من حدة الأزمة[33].

وتوفر اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة التصحر مجموعة أدوات تضع الموارد تحت كل فئة  لتستخدمها الدول. فبالنسبة  ​​للرصد والإنذار المُبكر، على سبيل المثال، تُوفر منصة “Digital Earth Africa”  بيانات مناخية مُفصلة لمساعدة صانعي القرارات في تناول بعض القضايا كاستخدام الأراضي والزراعة وتآكل السواحل، بالإضافة إلى الفيضانات والجفاف[34]. ويشمل ذلك مبادرة “رصد المياه من الفضاء” على مستوى القارة، والتي تستخدم صور الأقمار الصناعية الملتقطة على مدى عقود لرصد التغيرات في توافر المياه مع مرور الوقت. وتجدر الإشارة إلى أن المسؤولين في تنزانيا قد استخدموا هذه البيانات، بالإضافة إلى بيانات أخرى توفرها المنصة لمراقبة مستويات المياه في بحيرة سولونجا، من أجل المساعدة في وضع سياسات لحماية البحيرة والمجتمعات التي تعتمد عليها.[35]

صورة من WOfS تُظهر المياه في دلتا النيجر. المصدر: منصة Digital Earth Africa

وتستخدم البلدان مجموعة واسعة من الأساليب والطرائق العملية لغرض التخفيف من تأثيرات الجفاف. ووفقا لاتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة التصحر، تشمل هذه الأساليب استكشاف محاصيل مقاومة للجفاف، وتطوير خطط الري المستدامة، ووضع مبادرات لحصاد المياه. ففي بعض البلدان مثل كينيا[36] وسوازيلاند[37]، على سبيل المثال، تقوم بعض المجتمعات الريفية ببناء سدود رملية. وتعتمد هذه التقنية من بناء جدار خرساني عبر الأنهار الرملية التي تتدفق في مواسم الأمطار. فتتراكم الرواسب خلف الجدار، مما يخزن المياه التي يمكن الحصول عليها خلال موسم الجفاف من خلال الآبار الضحلة أو حفر الثقوب.  ويرفع السد الرملي منسوب المياه في المنطقة المحيطة، فتتكون تربة أفضل للمحاصيل ورعي الماشية.[38]

وثمة أساليب أخرى تعتمد على الابتكارات التكنولوجية، ويشمل ذلك تلقيح السحب، والذي تقوم فيه الطائرات بحقن مادة مثل يوديد الفضة في السحب  لتحفيز تكثف الماء وزيادة هطول الأمطار[39]. وعلى الرغم من أن هذه التقنية  قد تمت تجربتها لأول مرة في أربعينيات القرن العشرين، إلا أنها تلقى حاليًا اهتمامًا متزايدًا من جانب صانعي السياسات[40]. فتُنفّذ دولة الإمارات العربية المتحدة مئات من عمليات تلقيح السحب سنويًا[41]، مؤكدة أن هذه التقنية يُمكن أن تزيد من هطول الأمطار بنسبة تصل إلى 25%. ومن جانبها، عكفت بعض الولايات الأمريكية على زيادة برامجها المماثلة و توسعة نطاقها في السنوات الأخيرة[42]. من ناحية أخرى،  يُجري العديد من العلماء أبحاثًا حول كيفية تطبيق الهندسة الوراثية للحصول على محاصيل مقاومة للجفاف، مثل أبحاث جامعة شيفيلد البريطانية، والتي قامت بتعديل الأرز وراثيًا كي يتحمل المياه المالحة مما يتيح زراعته في أماكن أكثر[43]. كما تمت الموافقة بالفعل على تسويق وزراعة الاتش بي 4 ، هو نوع من القمح أكثر تحمّلًا للجفاف، في كل من الأرجنتين والبرازيل، وثمة خطط للتوسع في انتاجه[44] .

تحركات شاملة

يسلط التقرير المعنون “لمحة عالمية عن الجفاف” والصادر عن اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة التصحر الضوء على عدد من المناحي كإستعادة المناظر الطبيعية، والممارسات الزراعية المستدامة، وإدارة المياه بشكل فعال، باعتبارها عناصر أساسية لتحركات فعالة[45]. لا شك أن هناك جوانب عدة ومختلفة للتصدي لمشكلة الجفاف – والإجراءات التي تُتخذ من قبل الأفراد والمجتمعات والمؤسسات والحكومات تلعب دورًا مهما في هذا الصدد. ولأن الأمر معقدا على هذا النحو، باتت القيادة على المستويات المحلية والوطنية والدولية جد ضرورية لدمج كافة العناصر معًا. فالتعاون والتنسيق ضروريان لتعزيز الدعم المتبادل وبناء الزخم.

في هذا الصدد، كان تأسيس التحالف الدولي للمرونة في مواجهة الجفاف في عام 2022 بشارة خير. أطلق المبادرة رئيس وزراء إسبانيا ورئيس السنغال. واليوم يضم التحالف  ٣٦ دولة ذات ظروف متباينة، بالإضافة إلى ٢٨ مؤسسة داعمة. وفي عام ٢٠٢٣، أشاد بيدرو سانشيز، رئيس وزراء إسبانيا والرئيس المشارك للتحالف، بإنجازات التحالف في عامه الأول، والتي شملت: تعزيز الدعم السياسي، ووضع إطار عمل مشترك خاص بالمشروعات الجديدة، وتسريع عمليات تبادل المعرفة، وتطوير آليات تمويل جديدة[46].

وتُعد  ألمار لحلول المياه، والتابعة  لجميل للخدمات البيئية، في طليعة المبادرات العالمية الرامية إلى تعزيز قدرات المجتمعات المحلية على مواجهة الجفاف. تُدير الشركة منذ تأسيسها في عام 2016 محفظةً من مشروعات البنية التحتية المستدامة للمياه في أوروبا والشرق الأوسط وأمريكا اللاتينية وأفريقيا وآسيا والمحيط الهادئ، وهو الأمر الذي من شأنه أن يؤمن الحصول على المياه في القطاعين المحلي والصناعي.

وقد حصلت محطة ألمار “الشقيق 3 ” لتحلية مياه البحر باستخدام تقنية التناضح العكسي (SWRO) في المملكة العربية السعودية على لقب “محطة تحلية المياه للعام” في حفل توزيع جوائز صناعة المياه العالمية لعام 2023. وتجدر الإشارة إلى أنه قد تم الانتهاء من أعمال البناء في الشقيق 3 في يناير 2023، في وقت قياسي، على الرغم من التحديات الكبيرة التي تسببت فيها جائحة كوفيد-19.

داخل مبنى التناضح العكسي في محطة الشقيق 3 المستقلة لتحلية المياه. حقوق الصورة: © ألمار لحلول المياه.

وتُعد هذه المحطة من أكبر محطات تحلية المياه التي تعمل بتقنية التناضح العكسي في المملكة العربية السعودية، وهي تُلبي احتياجات حوالي مليوني شخص في منطقتي عسير وجازان. وتنتج المحطة، التي تعمل حاليًا بكامل طاقتها الإنتاجية، 450 ألف متر مكعب من مياه الشرب يوميًا، وهو ما يجعلها إنجازاً في مجال تحلية المياه المستدامة والمبتكرة.

وفي البحرين المجاورة، تُدير شركة ألمار لحلول المياه محطة معالجة مياه الصرف الصحي المتطورة في المحرق، بقدرة إنتاجية تبلغ 100,000 متر مكعب يوميًا، حيث تُعيد تدوير المياه المُعالجة لتكون مياه يعاد استخدامها عالية الجودة. وتضم البنية التحتية للمحرق أول خط أنابيب صرف صحي رئيس يعمل بالجاذبية بعمق 16.5 كيلومتر في منطقة الخليج، بالإضافة إلى شبكة لتجميع مياه الصرف الصحي.

غرفة التحكم في محطة معالجة مياه الصرف الصحي بالمحرق، البحرين. حقوق الصورة: © ألمار لحلول المياه.

وفي أوروبا، تُعد شركة داتاكوروم الإسبانية للتكنولوجيا شريكًا آخر لعبد اللطيف جميل. تقوم الشركة بتحويل المياه إلى بيانات ذكية، وهو ما يُسهم في نهاية المطاف في زيادة الكفاءة والحفاظ على الموارد الطبيعية الحيوية. وفي أبوظبي، تُسهم داتاكوروم في دفع عجلة التحول الرقمي للبنية التحتية للمياه في الإمارة. وبموجب عقد مدته خمس سنوات، من المنتظر أن توفر داتاكوروم بوابات الجيل الخامس لضمان اتصال مستمر بين المستخدمين النهائيين وعدادات التوزيع والبنية التحتية المتقدمة لقياس المياه.

ومؤخرًا، أعلنت شركة أنتوفاجاستا للمعادن  وتحالف شركات مملوك جزئيا من قبل ألمار لحلول المياه، وشركة ترانسيليك، عن اتفاقية خاصة بمنظومة نقل مياه لعمليات التعدين في سينتينيلا. ومن المنتظر أن تسهم هذه المبادرة، والتي تبلغ قيمتها حوالي 1.5 مليار دولار أمريكي،  في مضاعفة إمدادات مياه البحر الحالية من خلال تحسين خط الأنابيب القائم فضلا عن إنشاء خط أنابيب ثانٍ لتوفير مياه البحر غير المحلاة وتوسعة نطاق العمليات في سينتينيلا، بشمال تشيلي.

يقول فادي جميل، نائب رئيس مجلس إدارة عبد اللطيف جميل:

فادي جميل، نائب رئيس مجلس إدارة عبد اللطيف جميل، متحدثًا أمام مؤتمر الأطراف الثامن والعشرين. حقوق الصورة © مجتمع جميل

“مثل هذه المبادرات وغيرها، التي تجمع بين الرؤية والتطبيق العملي، تعطينا الأمل بأن العالم سيكون قادرا على مواجهة التحديات التي يفرضها الجفاف في العقود القادمة”.

“ستطول تأثيرات ندرة المياه الجميع سواءً بشكل مباشر أو من خلال الآثار التي تترتب عليها بالنسبة للمجتمعات والاقتصاد. فالجفاف في حد ذاته لا يعرف حدودًا، لذا من الضروري أن تتعاون الحكومات والشركات والمبتكرون والمجتمعات لمواجهة مخاطر الجفاف والحد من عواقبه على كوكبنا وسكانه”.

 

 

 

 

[1] https://www.unccd.int/sites/default/files/2023-12/Global%20drought%20snapshot%202023.pdf

[2] https://www.eea.europa.eu/data-and-maps/data/data-viewers/drought-impact-on-ecosystems-in

[3] https://www.unccd.int/sites/default/files/2023-12/Global%20drought%20snapshot%202023.pdf

[4] https://www.unccd.int/sites/default/files/2023-12/Global%20drought%20snapshot%202023.pdf

[5] https://www.unccd.int/sites/default/files/2023-12/Global%20drought%20snapshot%202023.pdf

[6] https://www.aljazeera.com/news/2024/2/6/worst-drought-recorded-hits-spains-catalonia-sparking-fears-and-ingenuity

[7] https://www.bbc.co.uk/news/world-europe-68167942

[8] https://joint-research-centre.ec.europa.eu/jrc-news-and-updates/prolonged-drought-and-record-temperatures-have-critical-impact-mediterranean-2024-02-20_en

[9] https://www.thetimes.co.uk/article/kenyan-herders-on-the-edge-after-record-drought-tpchqwtvr

[10] https://joint-research-centre.ec.europa.eu/jrc-news-and-updates/record-temperatures-and-heatwaves-bring-unprecedented-drought-amazon-basin-2023-12-20_en

[11] https://www.bbc.co.uk/news/world-latin-america-67751685

[12] https://www.imperial.ac.uk/news/240391/droughts-northern-hemisphere-made-20-times/

[13] https://www.worldweatherattribution.org/climate-change-not-el-nino-main-driver-of-exceptional-drought-in-highly-vulnerable-amazon-river-basin/

[14] https://www.nasa.gov/centers-and-facilities/goddard/warming-makes-droughts-extreme-wet-events-more-frequent-intense/

[15] https://www.metoffice.gov.uk/research/climate/understanding-climate/uk-and-global-extreme-events-drought

[16] https://report.ipcc.ch/ar6/wg1/IPCC_AR6_WGI_FullReport.pdf

[17] https://climate.nasa.gov/news/3117/drought-makes-its-home-on-the-range/

[18] https://www.c2es.org/content/drought-and-climate-change/

[19] https://drought.unl.edu/Education/DroughtforKids/DroughtEffects.aspx

[20] https://www.nasa.gov/centers-and-facilities/goddard/warming-makes-droughts-extreme-wet-events-more-frequent-intense/

[21] https://www.drought.gov/news/high-cost-drought

[22] https://news.ucmerced.edu/news/2022/last-year’s-drought-cost-ag-industry-more-1-billion-thousands-jobs-new-analysis-shows

[23] https://www.climate.gov/news-features/blogs/beyond-data/2023-historic-year-us-billion-dollar-weather-and-climate-disasters

[24] https://www.drought.gov/sectors/manufacturing

[25] https://joint-research-centre.ec.europa.eu/system/files/2020-09/07_pesetaiv_droughts_sc_august2020_en.pdf

[26] https://documents.worldbank.org/en/publication/documents-reports/documentdetail/099640306142317412/idu03b9849a60d86404b600bc480bef6082a760a

[27] https://www.worldbank.org/en/news/immersive-story/2023/09/12/droughts-and-deficits-the-global-impacts

[28] https://www.reuters.com/markets/currencies/zambias-kwacha-hits-record-low-against-us-dollar-2024-05-08/

[29] https://www.who.int/emergencies/situations/drought-food-insecurity-greater-horn-of-africa

[30] https://www.cdc.gov/nceh/drought/implications.htm

[31] https://drought.unl.edu/Education/DroughtforKids/DroughtEffects.aspx

[32] https://www.ceh.ac.uk/news-and-media/blogs/impacts-drought-water-quality-and-wildlife

[33] https://www.unccd.int/land-and-life/drought/overview

[34] https://www.digitalearthafrica.org

[35] https://www.digitalearthafrica.org/why-digital-earth-africa/impact-stories/using-satellite-data-combat-drought-monitoring-lake-sulunga

[36] https://www.voanews.com/a/to-make-water-last-kenyans-build-sand-dams-/7541535.html

[37] https://unfccc.int/climate-action/momentum-for-change/activity-database/momentum-for-change-sand-dams-a-sustainable-solution-for-water-scarce-regions

[38] https://www.sanddamsworldwide.org.uk/what-is-a-sand-dam

[39] https://www.bbc.co.uk/news/science-environment-68839043

[40] https://thebulletin.org/2022/08/dodging-silver-bullets-how-cloud-seeding-could-go-wrong/

[41] https://english.alarabiya.net/News/gulf/2024/01/18/UAE-to-carry-out-hundreds-of-cloud-seeding-missions-in-2024-to-tackle-water-scarcity

[42] https://e360.yale.edu/features/can-cloud-seeding-help-quench-the-thirst-of-the-u.s.-west

[43] https://www.sheffield.ac.uk/news/genetically-modified-rice-could-be-key-tackling-food-shortages-caused-climate-change

[44] https://www.reuters.com/markets/commodities/argentinas-bioceres-expand-gmo-wheat-sales-via-seed-marketers-2023-05-11/

[45] https://www.unccd.int/sites/default/files/2023-12/Global%20drought%20snapshot%202023.pdf

[46] https://enb.iisd.org/events/awareness-action-united-drought-resilience-changing-climate-unccd-1dec2023