على الرغم من بعض التراجع الذي لوحظ في الآونة الأخيرة، شهد مضمار الاستثمار في الممارسات البيئية والاجتماعية وحوكمة الشركات مستويات قياسية. والآن قد حان الوقت لإنشاء البنية العالمية اللازمة لدعم المرحلة التالية من تطوره.

إذا كنت على صلة بعالم الأعمال والشركات، فمن المؤكد أنك قد سمعت بمصطلح “الممارسات البيئية والاجتماعية وحوكمة الشركات”، والمعروف اختصاراً في اللغة الإنجليزية بـ “ESG”.  أبرزت إحدى الدراسات الاستقصائية السوقية، التي ركزت على الممارسات البيئية والاجتماعية وحوكمة الشركات، والصادرة في العام 2023 عن وكالة بلومبرج إنتليجنس، أبرزت الأهمية المتزايدة لهذا المصطلح. إذ أظهرت  أن 85٪ من المستثمرين والشركات يعتزمون تعزيز الاستثمار في مضمار الممارسات البيئية والاجتماعية وحوكمة الشركات على مدار السنوات الخمس المقبلة[1].

وكما أوضحت في إحدى مقالات سبوتلايت التي تناولت فيها الممارسات البيئية والاجتماعية وحوكمة الشركات، تعد الفكرة في حد ذاتها جد بسيطة: فبدلاً من التركيز على العوائد المالية وحسب، يتعين على المستثمرين دراسة تبعات اختياراتهم من منظور البيئة والمجتمع وحوكمة الشركات. فالاهتمام بهذه المحاور الثلاثة المهمة يجنبنا العواقب المدمرة بل ويجعلها في نهاية المطاف تتحول إلى إيجابيات.

ولعل نتائج دراسة بلومبرج إنتليجنس الاستقصائية تتوافق إلى حد كبير مع مخرجات العديد من البحوث الأخرى المماثلة. فقد سلط أحد التقارير المعنية بإدارة الأصول والثروات، والصادر[2] عام 2022 عن شركة برايس ووترهاوس كوبرز، سلط الضوء على ارتفاع الطلب على الاستثمار في مجال الممارسات البيئية والاجتماعية وحوكمة الشركات، مشيراً إلى أنه من المنتظر أن تنمو الأصول ذات الصلة بالممارسات البيئية والاجتماعية وحوكمة الشركات، والمدارة بشكل جيد، عالمياً بوتيرة متسارعة مقارنة بالسوق الكلي لإدارة الأصول والثروات لتسجل 33.9 تريليون دولار أمريكي بحلول عام 2026 مقارنة ب 18.4 تريليون دولار أمريكي في عام 2021.

نشأة الممارسات البيئية والاجتماعية وحوكمة الشركات وتطورها

يبدو من الواضح أن الاستثمار في مضمار الممارسات البيئية والاجتماعية وحوكمة الشركات بات يمثل أهمية متزايدة في الاقتصاد العالمي. ولكن ماذا يعني ذلك في الواقع العملي؟

إن النظر إلى تأثيرات الاستثمارات بعيداً عن المعايير المالية الضيقة لا يمثل فكراً مستحدثاً. إذ يعود تاريخ أخذ المعايير البيئية والاجتماعية والحوكمة بعين الاعتبار إلى ستينيات القرن الماضي على الأقل، عندما سعى بعض المستثمرين، في خضم الاحتجاجات والحملات السياسية الموسعة، إلى اتخاذ قرارات انطوت على المزيد من الاعتبارات الاجتماعية. وقد شمل ذلك تجنب الاستثمار في صناعات بعينها (كإنتاج التبغ)، أو مقاطعة أنظمة سياسية بعينها (كنظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا).

وبالطبع، سبق ذلك العديد من المساعي التي هدفت إلى التأكد من أن الاستثمارات كانت ملائمة من منظور الأخلاق والدين. لكن الممارسات البيئية والاجتماعية وحوكمة الشركات اتخذت الطابع الرسمي لأول مرة في أوائل القرن الحادي والعشرين، بدعم من الأمم المتحدة. فقد ذكر تقرير الاتفاق العالمي للأمم المتحدة الصادر عام 2005 أن عالمنا قد أصبح أكثر تعقيداً وأكثر ترابطاً، وهو ما أدى إلى ظهور العديد من التحديات الجديدة فيما يتعلق بـ “الإدارة الفعالة للمخاطر والفرص المرتبطة بالتوجهات البيئية والاجتماعية الحديثة، بالإضافة إلى التوقعات العامة المتزايدة لتحسين المساءلة وحوكمة الشركات” [3] .

وتسلط الوثيقة، والتي تم إعدادها بالتشاور مع 18 مؤسسة مالية من تسعة بلدان، تسلط الضوء على أهمية هذه الموضوعات بالنسبة  لكل من الشركات والمحافظ الاستثمارية. وهي أيضا تقدم توصيات للقطاع المالي لإيلاء مزيد من الاهتمام بمبادئ البيئة والمجتمع  وحوكمة الشركات. وقد شمل ذلك دعوة المستثمرين إلى “طلب ومكافأة الأبحاث التي تتناول الجوانب البيئية والاجتماعية والحوكمة بشكل صريح”، و كذا مكافأة الشركات المدارة بشكل جيد.

ومنذ ذلك الحين، نمت الاستثمارات في مضمار الممارسات البيئية والاجتماعية وحوكمة الشركات بشكل كبير، حتى باتت تشكل حصة كبيرة من إجمالي حجم السوق. فقد أوضح تقرير صادر عن التحالف العالمي للاستثمار المستدام أنه في عام 2022، استثمر العالم حوالي 30.3 تريليون دولار أمريكي في الأصول المراعية لمبادئ الممارسات البيئية والاجتماعية وحوكمة الشركات. وفي جميع أنحاء أوروبا وكندا وأستراليا ونيوزيلندا واليابان، بلغ إجمالي أصول الاستثمار المستدام 21.9 مليار دولار أمريكي، وهو ما يمثل 38% من إجمالي الأصول المدارة[4].

 

إن مثل هذه الاتجاهات المتبعة في قطاع الاستثمار تدعم إيلاء المزيد من الاهتمام بمبادىء البيئة والمجتمع وحوكمة الشركات  في عالم الأعمال و الشركات بشكل عام. وقد أكد أحد التقارير  الصادر عن شركة ماكينزي للاستشارات في عام[5]2022 أن المؤسسات عبر مختلف القطاعات والمناطق الجغرافية وعلى اختلاف أحجام الشركات قد خصصت المزيد من الموارد لتحسين الممارسات البيئية والاجتماعية وحوكمة الشركات. ويشير التقرير إلى أن أكثر من 90% من الشركات المدرجة في مؤشر ستاندرد آند بورز 500، وحوالي 70% من الشركات المدرجة في مؤشر راسل 1000تنشر الآن تقارير عن الممارسات البيئية والاجتماعية وحوكمة الشركات بشكل ما. ومن المرجح أن تكون هذه الأرقام قد شهدت المزيد من الارتفاع  منذ إصدار التقرير.

وإذا أردنا تناول الممارسات البيئية والاجتماعية والحوكمة كل على حدة، تقول ماكينزي إن العنصر البيئي قد يشمل أخذ تغير المناخ وتلوث الهواء وإدارة النفايات بعين الاعتبار. وقد يتناول البعد الاجتماعي عوامل مثل: ممارسات العمل أو الصحة والسلامة. أما ممارسات حوكمة الشركات، فقد تتضمن موضوعات مثل: أخلاقيات العمل وإدارة سلسلة التوريد، فضلاً عن الهياكل التنظيمية المعنية باتخاذ القرار.

أسباب التغيير

ولكن لماذا كل هذا التركيز على  المعايير البيئية والاجتماعية والحوكمة؟ تسلط مؤسسة جيه بي مورجان لإدارة الأصول الضوء على سياسات الحكومات باعتبارها أحد المحركات المهمة [6] والمؤثرة. فهي تشير – على سبيل المثال – إلى تأثير اتفاق باريس لعام 2015 وما ينطوي عليه من أهداف تتعلق بالاحتفاظ بمعدل الاحترار العالمي ضمن حدود درجتين مئويتين مقارنة بمستويات ما قبل الصناعة –وإن كان من الأفضل أن يبقى ضمن حدود الـ 1.5 درجة مئوية. وتماشياً مع ذلك، بادرت أكثر من 70 دولة بوضع أهدافا طموحة للحد من الانبعاثات. وتجدر الإشارة إلى أن تحقيق هذه الأهداف يتطلب تبني مجموعة من التدابير السياسية مثل المبادرات الجديدة للتمويل واللوائح والضرائب. ومن جانبها، تعكف الحكومات على فرض متطلبات إلزامية لإعداد التقارير الخاصة بالممارسات البيئية والاجتماعية وحوكمة الشركات، وتعكس استراتيجيات الشركات ردود فعل لسياق السياسات الذي يشهد مثل هذه التطورات المتسارعة.

ووفقا للدراسة التحليلية التي أجرتها جيه بي مورجان، تؤثر مواقف العامة المتغيرة أيضاً على كل ما تقوم به الشركات أو تتخذه من إجراءات. فاتجاه المستهلكين إلى “التصويت بمحافظهم”، بما يتماشى مع القيم التي يرغبون في رؤيتها، يخلق حافزاً للشركات لاتخاذ الإجراءات اللازمة يتجه من الأسفل إلى الأعلى. ومن ناحية أخرى، تفرض مراجعة الحكومات فيما يخص المسائل البيئية والاجتماعية وحوكمة الشركات تفرض ضغوطاً عليها لتطبيق تدابير تتجه من الأعلى إلى الأسفل. ويقول المحللون إن هذا الوضع يخلق فرصاً للمستثمرين لدعم تلك الشركات التي تأخذ المخاوف البيئية والاجتماعية والمتعلقة بحوكمة الشركات بعين الاعتبار.

ويشمل ذلك الاعتبارات الاجتماعية والحوكمة بالإضافة إلى الاستدامة البيئية. وتجدر الإشارة إلى أن الحركات الاجتماعية قد سلطت الضوء على العدالة الاجتماعية وأبرزت أهميتها، كما رأينا في بعض الاتجاهات الاقتصادية العالمية. وتؤكد جيه بي مورجان أن السنوات العديدة التي شهدت تراجع الأجور، بالإضافة إلى جائحة كوفيد-19، جعلتنا نركز على  قضايا القوى العاملة. وكما تشير شركة اي دي اييه سي اينوفشنز المتخصصة في الاستثمار في الممارسات البيئية والاجتماعية وحوكمة الشركات، كلما ازدادت سلاسل التوريد تعقيداً، تنامى الوعي بالمخاطر الاجتماعية ومخاطر العمل وكذا حقوق الإنسان التي تتمخض عن هذه المخاطر بالنسبة للشركات[7]. وتعد زيادة تركيز الشركات على التنوع والشمول من أبرز سمات هذا المشهد الجديد، كما يتضح من فرط استخدام هذه المصطلحات في حديث الشركات الكبيرة والمستثمرين والمحللين الذي يتناول الأرباح ربع السنوية.

لقد أصبحت القضايا البيئية والاجتماعية وحوكمة الشركات مسألة تشريعية وتنظيمية أيضاً. فعلى سبيل المثال، تتطلب قوانين العبودية المعاصرة أو الحديثة في المملكة المتحدة والولايات المتحدة وكندا وأستراليا بالإضافة إلى دول أخرى، تتطلب من بعض الشركات، التي يتجاوز حجمها حدا ما، كتابة تقارير عما تقوم به  لضمان عدم وقوع حالات العبودية الحديثة والاتجار بالبشر ضمن أعمالها – والأهم ضمن سلاسل التوريد الخاصة بهم. ويقع ذلك تحت معيار المجتمع في الممارسات البيئية والاجتماعية وحوكمة الشركات.

وتجدر الإشارة إلى أن “الرغبة في فعل الخير” لا تعتبر المحرك الوحيد للممارسات البيئية والاجتماعية والحوكمة. إذ أن ثمة أسباب أخرى قوية تتعلق بالاعتبارات المالية. فهناك أدلة تؤكد أن  أداء الاستثمارات البيئية والاجتماعية والحوكمة يماثل أداء الاستثمارات الأخرى – إن لم يكن أفضل منها. فقد أظهرت دراسة أجرتها شركة كرول[8], في عام 2023، قامت من خلالها بتحليل بيانات مستقاة من أكثر من 13000 شركة، أظهرت أن الشركات التي تولي اهتماماً ملحوظاً بالمعايير البيئية والاجتماعية وتلك المتعلقة بحوكمة الشركات قد حققت عوائد مالية أفضل. فقد شهدت الشركات المصنفة على أنها “رائدة” في مضمار المعايير البيئية والاجتماعية وتلك المتعلقة بحوكمة الشركات عوائد سنوية بلغت 12.9%، مقارنة بحوالي 8.6% للشركات “التي تخلفت عن الركب” ــ وهو ما يعكس زيادة تبلغ حوالي 50%. ويأتي ذلك بعد دراسة أجريت عام 2021، تم خلالها مراجعة أكثر من 1000 ورقة بحثية كانت قد نشرت خلال خمس سنوات قبل 2021. ووجد الباحثون أن 59% من الدراسات ذات الصلة أظهرت أداءً مشابهاً أو أفضل للممارسات البيئية والاجتماعية وحوكمة الشركات مقارنة بالاتجاهات التقليدية المعيارية، بينما اقتصرت النتائج السلبية على 14% فقط.

لذلك، يمكن القول بأن إيلاء الاهتمام بالاعتبارات البيئية والاجتماعية وحوكمة الشركات قد ينطوي على تأثيرات إيجابية على أرباح الشركات وسمعتها وقدرتها على الصمود ومواجهة الازمات، فضلاً عن كونها ذات جدوى للكوكب والمجتمع.

في ضوء ذلك، اجتمعت الآراء على ضرورة دمج الاعتبارات البيئية والاجتماعية وحوكمة الشركات في الفكر والممارسات السائدة، بدلاً من النظر إليها باعتبارها معرقلا للأعمال المجدية. وقد تم إقرار هذا النهج في رسالة أرسلها لاري فينك، رئيس شركة الاستثمار الأمريكية بلاك روك، إلى الرؤساء التنفيذيين في يناير/كانون الثاني 2020. ركز فينك بشكل خاص على الاستدامة البيئية، مؤكداً أن ما نشهده من اهتمام متزايد بضرورة التصدي لمخاطر تغير المناخ يعني “أننا قاب قوسين أو أدنى من إعادة ترسيم ملامح العملية التمويلية”.[9]

وفي تأكيد منه على أن “مخاطر المناخ تعتبر مخاطر استثمارية”، قام فينك صراحة بربط الاعتبارات البيئية والاجتماعية وتلك المرتبطة بحوكمة الشركات بأفضل الممارسات التجارية. وأعرب مرة أخرى عن وجهة نظره القائلة بأن “تحديد الهدف هو ما يجعلنا نحقق الربحية على المدى الطويل”. وحذر فينك من أن شركة بلاكروك لن ترغب في دعم إدارة الشركات التي لم تحرز تقدماً كافياً في مجال الاستدامة.

التراجع

ولكن يبدو أنه كلما أصبحت الممارسات البيئية والاجتماعية وحوكمة الشركات جزءاً من الوعي العام، كلما خضعت للمزيد من المراجعة والتدقيق. ويذهب بعض الخبراء إلى أن الزخم وراء الفكرة قد تباطأ بشكل ملحوظ ليحل محله الشك. فعلى سبيل المثال، يقول ريتشارد ستون، الرئيس التنفيذي لجمعية الشركات الاستثمارية التي تتخذ من المملكة المتحدة مقراً لها، يقول إن الأبحاث التي أجرتها الجمعية “تشير إلى أن عام 2021 كان قد مثل ذروة التحمس للاستثمار في مضمار الممارسات البيئية والاجتماعية وحوكمة الشركات”، ثم أظهرت الأبحاث أن نسبة المستثمرين الذين يأخذون العوامل البيئية والاجتماعية وحوكمة الشركات بعين الاعتبار قد تراجعت خلال العامين الماضيين[10].

ففي عام 2021، أكد ما يقرب من ثلثي الذين شملتهم الدراسة (65٪؜) أنهم وضعوا العوامل البيئية والاجتماعية والحوكمة في الحسبان عند إقدامهم على الاستثمار. وفي العام التالي، تراجعت هذه النسبة لتصل إلى 56%، ثم شهدت المزيد من الانخفاض خلال عام 2023 مسجلة 53%.

وفيما يتعلق بالـ 47٪ الذين لم يضعوا المعايير البيئية والاجتماعية وحوكمة الشركات نصب أعينهم، كان السبب الرئيسي وراء ذلك هو إعطاء الأولوية للأداء على حساب هذا المعايير، فضلاً عن «عدم اقتناع المسؤولين عن إدارة الأصول بجدوى الممارسات البيئية والاجتماعية وحوكمة الشركات».

من ناحية أخرى، سلطت الدراسة الضوء على بعض المخاوف فيما يتعلق بالـ «الغسل الأخضر» – والذي يعني محاولات المبالغة أو التضليل بشأن بعض الممارسات التي يفترض أنها مستدامة. وفي الدراسة التي أجرتها جمعية الشركات الاستثمارية، أكد 63٪ ممن شملتهم الدراسة أنهم قلقون بشأن الغسل الأخضر. أما المستثمرون الذين يتفقون مع عبارة «لست مقتنعاً بالمتطلبات المادية التي تنطوي عليها الممارسات البيئية والاجتماعية وحوكمة الشركات» – فقد ارتفعت نسبتهم من أقل من النصف (48٪) في عام 2021 لتسجل ما يقرب من الثلثين (63٪) في عام 2023.

ولعل الاتهامات الصارخة التي وجهت مؤخراً لبعض الشركات لقيامها بالغسل الأخضر جعلت القضية تتصدراهتمامات المستثمرين. ففي عام 2023، على سبيل المثال، قدمت مجموعة جلوبال ويتنس شكوى ضد شركة شل – وهي من الشركات العملاقة في مجال النفط –  لدى لجنة الأوراق المالية والبورصة بالولايات المتحدة، مدعية أن الشركة ضللت المستثمرين. في هذا السياق، أوضحت جلوبال ويتنس أن شركة شل ادعت أنها توجه 12% من نفقاتها السنوية لمصادر الطاقة المتجددة وحلول الطاقة، إلا أن ما قامت به من دراسة تحليلية قد أوضحت  أن الشركة لم تخصص سوى 1.5% من إجمالي إنفاقها لتوليد الطاقة الشمسية وطاقة الرياح.

وفي المملكة المتحدة، وجهت الجهات التنظيمية لعدد من شركات الطاقة الاتهام بالغسل الأخضر. وكانت شل واحدة من ثلاث شركات تعمل في مجال الوقود الحفري تم حظر حملاتها في يونيو 2023 من قبل هيئة معايير الإعلان،  وذلك لتقديم معلومات غير صحيحة ومضللة للجمهور عن  الفوائد البيئية لبعض المنتجات[11]. ولم تقتصر الانتقادات والاتهامات على شركات النفط والغاز وحسب. ففي ديسمبر 2023، أعلنت هيئة المنافسة والأسواق البريطانية  التحقيق مع شركة يونيليفر – والتي تقوم بتصنيع العديد من السلع الاستهلاكية – بشأن تقديم معلومات مضللة حول الاستدامة. ويأتي هذا التحقيق كجزء من جهود أوسع نطاقاً لرصد ظاهرة الغسل الأخضر. ومن جانبها، سلطت سارة كارديل، الرئيس التنفيذي لجمعية الشركات الاستثمارية، سلطت الضوء على “قلق الجهات الرقابية البالغ إزاء تضليل الكثيرين بمنتجات تُسوق على أنها ‘صديقة للبيئة’ ولكنها ليست كذلك”.

تغطية خضراء

وثمة مخاوف تشير إلى أن بعض صناديق الاستثمار تقوم ببعض الممارسات التي تشبه في أسلوبها الغسل الأخضر. ففي مدونة صدرت مؤخراً عن مركز أبحاث السياسات الاقتصادية[12]، ذهب بعض الأكاديميون من أحدى كُلّيات إدارة الأعمال في فرنسا إلى أن هناك أدلة دامغة على أن ” ثمة تلاعب ملحوظ من قبل مديري الصناديق فيما يتعلق  بالإفصاح عن أداء الأعمال للجهات التنظيمية لغرض إدعاء الاستدامة، وإدراجهم لأصول الأداء المرتفع المثيرة للجدل في محافظهم الاستثمارية”.

ويشير الباحثون إلى أنه على الرغم من أن تقييمات الاستدامة التي يقوم بها القائمون على دراسة القطاع  تعني المزيد من الشفافية، إلا أن تلك التقييمات تتم  بناء على ما تفصح عنه الصناديق من معلومات،  وهو ما لا يحدث سوى مرات قليلة خلال العام وليس دوماً، فيترك ذلك المجال مفتوحاً أمام المدراء منعدمي الضمير لشراء الأسهم المراعية للمعايير البيئية والاجتماعية والحوكمة بدهاء قبيل الإفصاح عنها مباشرة، وذلك لرفع معدلات الاستدامة لديهم، ثم يعودون مرة أخرى إلى الأصول ذات العائد الأعلى، والأقل مراعاة لتلك المعايير في الأوقات التي يتراجع فيها احتمالات طلب الإفصاح عن المعلومات.

ومما يدعو للقلق، أن بعض الباحثين قد وجدوا أدلة تشير إلى أن ذلك كان يحدث بالفعل في بعض الحالات. وقد توصلوا إلى تلك الأدلة من خلال مقارنة أداء صناديق المعايير البيئية والاجتماعية والحوكمة مع مؤشرات الأسهم الرئيسة لهذه المعايير. فقد وجد الباحثون من خلال الدراسة والتحليل أن العلاقة بين الإثنين تتراجع  بشكل ملحوظ بعد الإفصاح الإلزامي مباشرة، بل وتكون هناك زيادة مفاجئة في أداء الأسهم التي تصدر الانبعاثات. وبناء على هذه النتائج، خلص الأكاديميون إلى أن “بعض الصناديق تشارك في التغطية الخضراء”.

وتأتي هذه النتائج وسط ارتباك محموم حول كيفية تصنيف صناديق الممارسات البيئية والاجتماعية وحوكمة الشركات – وهي قضية ظلت تحتل مكانة بارزة لا سيما في أوروبا.

وفي يوليو 2022، أصدرت المفوضية الأوروبية عددا من الإرشادات الجديدة بشأن صناديق الاستثمار المستدامة، مما أدى إلى خفض تصنيف الاستدامة الخاص بمئات الصناديق من “9” وهي الفئة الأعلى (والتي تستوجب أن يكون هناك هدف واضح للاستثمار المستدام) إلى “8” وهي الفئة الأقل. ووفقاً لبعض البيانات الصادرة عن مورنينجستار في الربع الأخير من عام 2022، تم خفض تصنيف الصناديق التي تبلغ قيمتها الإجمالية 193 مليار دولار أمريكي من الفئة ” 9″ بعد تدخل المفوضية الأوروبية [13] . وبعد ما قامت به المفوضية الأوروبية من توضيح في أبريل 2023، تم رفع تصنيف 35 صندوقاً إلى الفئة 9، وإن كانت الأعداد ظلت أقل بكثير مما مضى.

الجانب السياسي

وإلى جانب كل ذلك التخبط، واجهت فكرة الممارسات البيئية والاجتماعية وحوكمة الشركات هجوماً سياسياً عنيفاً، لاسيما في الولايات المتحدة الأمريكية. ففي فلوريدا، تم إقرار مجموعة من القوانين تحظر أخذ العوامل البيئية والاجتماعية والحوكمة بعين الاعتبار في قرارات الاستثمار الخاصة بحكومات الولايات والحكومات المحلية، مع النص على أن ذلك يجب أن يكون فقط على أساس “معايير وعوامل مالية”.[14] جاء ذلك في أعقاب سن القوانين التي تحد من استخدام المعايير البيئية والاجتماعية والحوكمة في عدد من الولايات الأخرى، حيث أثارت الفكرة نزاعات ثقافية. ومن جانبه، اتهم حاكم ولاية فلوريدا رون ديسانتيس الشركات بمحاولة إدخال “أجندة أيديولوجية عبر الاقتصاد دون اللجوء إلى صناديق الاقتراع”، وقال إن القوانين الجديدة للولاية “تؤيد عدم قبول الممارسات  البيئية والاجتماعية وحوكمة الشركات هنا في فلوريدا”. جاء ذلك في أعقاب انتقادات مماثلة من مايك بنس، نائب الرئيس الأمريكي السابق، وجهت للمعايير البيئية والاجتماعية والحوكمة . فقد كتب بنس أن الفكرة “تمكّن جماعة غير منتخبة من البيروقراطيين، والمنظمين، والمستثمرين الناشطين” من فرض قيمهم السياسية الخاصة [15].

وبغض النظر عن اختلاف الرؤى، فمن الواضح أن المعايير البيئية والاجتماعية وتلك المتعلقة بالحوكمة قد أصبحت مصطلحات مسيسة بشكل ملحوظ ــ وأن ذلك جعل بعض المستثمرين أكثر حذرا في استخدامها. فعلى سبيل المثال، أعلن لاري فينك من شركة بلاك روك، والذي كان فيما سبق مؤيداً قويا لنهج الممارسات البيئية والاجتماعية وحوكمة الشركات، أعلن أنه قد توقف تماماً عن استخدام هذه المصطلحات، والتي يعتقد إنها قد باتت “مفخخة”، وذلك على الرغم من تأكيده أن شركته لم تغير موقفها بشأن القضايا البيئية والاجتماعية والحوكمة، وستواصل دعم الأهداف التي تشمل إزالة الكربون في الشركات التي تستثمر فيها.

بين الواقع والخيال

وبالنظر إلى ما تواجهه الممارسات البيئية والاجتماعية وحوكمة الشركات من انتقادات في عالم السياسة والتشريع، فليس من المستغرب أن تكون هناك أسئلة متزايدة تٌطرح حول هذه الفكرة. ومن وجهة نظري، ما الانتقادات المتزايدة التي تواجهها المعايير البيئية والاجتماعية والحوكمة إلا رد فعل حتمي لبلوغها مرحلة النضج، و لذا فهي في نهاية المطاف تحمل في طياتها دلالات إيجابية.

وفي التحليل الأخير، وإن صحت الفكرة، فلابد أن تكون قادرة على الصمود في وجه المراجعة والتدقيق. ومن المنتظر أن يسهم هذا التدقيق في الكشف عن بعض الأوجه غير المجدية للممارسات البيئية والاجتماعية والحوكمة، ناهيك عن تسليط الضوء الكثيف على حالات الغسل الأخضر التي تدعو للخزي والأسف. ولكني لدي اعتقاداً راسخاً أن هذا يعني أيضاً أن بالإمكان أن نبني ثقة أكبر في الاستثمارات والمبادرات التي تستحق الاهتمام.

ومن أجل المضي قدماً في مضمار الاستثمار في الممارسات البيئية والاجتماعية وحوكمة الشركات، لا مناص من تحقيق المزيد من الشفافية والصرامة.  ومما يدعو للتفاؤل أن يعلن المجلس الدولي لمعايير التدقيق والضمان هذا العام عن مقترحات لتطوير مجموعة من معايير الضمان العالمية لإعداد تقارير الاستدامة[16]. وتجدر الإشارة إلى أن أنصار هذا التوجه يشملون صندوق الثروة السيادية في النرويج. وتشكل هذه الخطوة جزءاً من الجهود المبذولة حول العالم لغرض فرض اللوائح المتعلقة بالاستثمارات البيئية والاجتماعية والحوكمة[17]. لا شك أن ذلك قد يتمخض عنه بعض الصعوبات على المدى القصير، ولكن في النهاية لابد وأن يؤدي بنا إلى المزيد من الوضوح والثقة.

لقد رأينا في السنوات الأخيرة كيف كانت الاستثمارات البيئية والاجتماعية والحوكمة في بعض الأحيان موضوعاً لادعاءات اتسمت غالبها بالمغالاة والمبالغة، وينطبق ذلك على الايجابيات والسلبيات على حد سواء. وأنا – من خلال تجربتي – أومن أن المستثمر الحاذق هو من يستطيع الولوج إلى الحقيقة الكامنة خلف السطور دون الانخداع بالجماليات أو المحسنات. والدارس للوضع الحالي بموضوعية وأمانة يستطيع أن يرى أن التحديات البيئية والاجتماعية و تلك المتعلقة بالحوكمة التي يواجهها الاقتصاد العالمي حقيقية إلى حد كبير. ولذا يمكن القول بأن الاستثمار في الممارسات البيئية والاجتماعية وحوكمة الشركات سيشكل بلا شك جزءاً لا يتجزأ من مستقبلنا المالي. والأمر متروك لنا جميعاً كي نضمن أن يتحقق ذلك بنجاح منقطع النظير.

[1] https://www.esginvesting.co.uk/2023/11/bloomberg-survey-shows-rising-esg-interest/

[2] https://www.pwc.com/gx/en/news-room/press-releases/2022/awm-revolution-2022-report.html

[3] https://www.unepfi.org/fileadmin/events/2004/stocks/who_cares_wins_global_compact_2004.pdf

[4] https://www.gsi-alliance.org/wp-content/uploads/2023/12/GSIA-Report-2022.pdf

[5] https://www.mckinsey.com/capabilities/sustainability/our-insights/does-esg-really-matter-and-why#/

[6] https://am.jpmorgan.com/gb/en/asset-management/institutional/investment-strategies/sustainable-investing/esg-investment-landscape/

[7] https://www.adecesg.com/resources/faq/what-is-esg-investing/

[8] https://www.kroll.com/en/insights/publications/cost-of-capital/esg-global-investor-returns-study

[9] https://www.blackrock.com/americas-offshore/en/larry-fink-ceo-letter

[10] https://www.theaic.co.uk/aic/news/press-releases/esg-investing-declining-in-popularity-as-fears-of-greenwashing-grow

[11] https://www.ft.com/content/fec9e504-7006-495a-964a-ba2ded4df5ad

[12] https://cepr.org/voxeu/columns/smoke-and-mirrors-look-inside-esg-fund-portfolios

[13] https://www.reuters.com/business/sustainable-business/more-eu-green-funds-re-badged-amid-regulatory-drive-morningstar-2023-01-26/

[14] https://www.hklaw.com/en/insights/publications/2023/06/new-florida-law-prohibits-use-of-esg-factors-in

[15] https://www.wsj.com/articles/only-republicans-can-stop-the-esg-madness-woke-musk-consumer-demand-free-speech-corporate-america-11653574189

[16] https://www.bloomberg.com/news/articles/2023-08-02/company-esg-claims-to-soon-face-audits-amid-greenwashing-fears

[17] https://www.nortonrosefulbright.com/en/knowledge/publications/8c48a4f6/financial-services-regulation-and-esg-regulation-around-the-world