الذكاء الاصطناعي في مجال الرعاية الصحية: ثورة هادئة على وشك الانطلاق
مرحبًا بكم في مقالتي الثانية التي أسلط فيها الضوء على واحدة من أكبر التحديات التي تواجهنا جميعًا، وتشغلني على المستوى الشخصي.
بقلم فادي جميل، نائب الرئيس ونائب رئيس مجلس إدارة عبد اللطيف جميل
تواجه الصناعات والمهن في جميع أنحاء العالم تحولات جذرية على نطاق غير عادي. ويبدو أن التقدم الذي شهدته تقنية الذكاء الاصطناعي (AI) قد وصل إلى صميم حياة الناس في مجتمع القرن الحادي والعشرين، فها هي موازين القوى العاملة وفرص العمل وأنماط العمل تنقلب رأسًا على عقب في عالمنا اليوم.
لكن ما هو بالضبط الذكاء الاصطناعي؟ ربما يكون من الصعب وضع تعريف محدد لهذا المصطلح، لكن التفسير الشائع له هو “قدرة أجهزة الكمبيوتر وبرامج الكمبيوتر على القيام بسلوك ذكي، مثل التحليل والتعلم”، [1] بيد أن التعريف الدقيق قد لا يتأتى إلا بمناقشة عميقة في أوساط المتخصصين، ولكن يبقى أن هناك نوع من التوافق العالمي على شيء واحد، وهو أن الذكاء الاصطناعي سيكون له تأثير تحويلي حقيقي على الرعاية الصحية. وفي هذا الصدد، تقول مؤسسة “سي بي انسايتس” لاستشارات التكنولوجيا والبيانات الضخمة، “أن التطور سيشمل معظم قطاعات الرعاية الصحية بفعل صعود التكنولوجيا”.[2] وتشير البيانات إلى أن العام 2016 شهد دخول حوالي 106 شركة ناشئة إلى هذا الفضاء التحويلي.
تتمثل الميزة الأساسية للذكاء الاصطناعي في القدرة على تحليل كميات هائلة من البيانات بسرعة وبدقة تفوق بكثير ما يمكن لأي شخص عادي القيام به. وهذه القدرة الهائلة على “فرز البيانات” وتحليلها بدقة فائقة هي التي ستؤدي حتماً إلى تغييرات غير عادية في القطاع، سواء في مقاربات الصحة العامة أو الخاصة.
وقد تمكنت الشركات الناشئة في قطاع الرعاية الصحية من جمع تمويل يقدر بحوالي 4.3 مليار دولار أمريكي [3] بين عامي 2013 و 2018، وهذا الرقم يفوق استثمارات كل الصناعات الأخرى في الصفقات المتعلقة بالذكاء الاصطناعي. وتقدّر مؤسسة مورجان ستانلي أن السوق العالمية للذكاء الاصطناعي في مجال الرعاية الصحية قد تصل إلى 10 مليارات دولار أمريكي بحلول عام 2024. [4]
تغييرات على الطريق
اليوم، أصبحت العلامات الأولى لتأثير الذكاء الاصطناعي في الرعاية الصحية بادية للعيان بالفعل، مع توقعات بأن يكون التقدم المحتمل أكبر بكثير من كل ما تم إنجازه في العقود الأخيرة. وفي هذا الصدد، تقول أكاديمية كليات الطب الملكية البريطانية: “نحن فقط في بداية معرفة كيف سيؤثر الذكاء الاصطناعي على رعاية المرضى” [5].
وتقدر شركة أكسنتشر (Accenture) في تقرير حديث لها أن التطبيقات الـ 10 الأولى للذكاء الاصطناعي في مجال الرعاية الصحية والتي يمكن أن تقدم “أكبر تأثير على المدى القريب” ستوفر لنظام الرعاية الصحية الأمريكي وحده 150 مليار دولار أمريكي سنويًا بحلول عام 2026. [6]
وتشمل هذه التطبيقات جراحة العظام بمساعدة الروبوت (وفورات قدرها 40 مليار دولار أمريكي)، ومساعدي التمريض الافتراضيين (20 مليار دولار أمريكي) وأنظمة تخفيض أخطاء الجرعات (16 مليار دولار أمريكي). وهذه الأرقام مجتمعة تشير إلى أن الإمكانات التحويلية للذكاء الاصطناعي في مجال الرعاية الصحية على مدار العشرين أو الثلاثين عامًا القادمة ستكون مذهلة بكل المقاييس.
تقييم الأثر المبكر للذكاء الاصطناعي
هناك بالفعل دلائل مبكرة لا حصر لها على ما يمكن أن ينجزه الذكاء الاصطناعي، لا سيما في ظل المساعي التي تبذلها جوجل وشركتها الأم “ألفابيت” لدفع عجلة النمو والتطور في هذا المجال الواعد. وفي مستهل هذه الجهود، قامت الشركة بإجراء سلسلة من التعيينات المهمة، كان أبرزها تعيين ديفيد فاينبيرغ الرئيس التنفيذي السابق لمؤسسة جيسينجر هيلث (Geisinger Health) بصفته رئيسًا لمبادرة جوجل للصحة (Google Health). [7] كما تعمل الشركة أيضًا على تطوير مجموعة من التقنيات الجديدة، مثل استخدام التعلم الآلي للتنبؤ بطول إقامة المريض بالمشفى، واحتمالات الوفاة. [8] وفي أماكن أخرى، ابتكرت شركة ديب مايند (DeepMind) التابعة لجوجل أداة لتدريب الآلات على قراءة فحوصات شبكية العين بدقة لا تقل عن الدقة التي يتمتع بها طبيب متمرس. [9]
وتشمل التدخلات الأخرى المدعومة فعليًا بتقنية الذكاء الاصطناعي الجراحة الروبوتية، التي باتت بالفعل جزءًا من مجال الرعاية الصحية القائمة على الذكاء الاصطناعي بعد أن كانت مجرد ضربًا من ضروب الخيال العلمي للمستقبل. كما أدى الاستعانة بتقنية الذكاء الاصطناعي إلى تخفيض مدة إقامة المرضى بالمستشفيات إلى 21٪ [10]، وتقليل مضاعفات الجراحة بنحو خمسة أضعاف مقارنة بالجراحات التي يجريها الجراحون بأنفسهم. [11]
وفي لندن، تقوم أداة “ديب مايند” بتحليل البيانات الصحية الآنية لتحديد المرضى المعرضين لخطر تدهور وظائف الكلى. [12] وفي وقت مبكر من العام 2017، ذكرت الجمعية الأمريكية للسرطان أن مراجعة وترجمة أشعة الثدي باستخدام الذكاء الاصطناعي تصل دقتها اليوم إلى 99٪ وبسرعة تتفوق سرعة البشر بثلاثين مرة، وهذا يقضي إلى حد كبير على معدل النتائج الخاطئة التي كانت سائدة لفترة طويلة عندما كان يجري تشخيص واحدة من كل اثنتين من السيدات على أنها مصابة بالسرطان. [13]
وقد دخل التعلم الآلي أيضًا في تقييم إمكانات الجنين أثناء الحقن المجهري (IVF)، [14] في حين ذكر الباحثين في مستشفى الجامعة في لندن أنهم قد وجدوا طريقة لتوفير ما يصل إلى 3 ملايين جنيه إسترليني سنويًا بعد أن نجحت خوارزمية استخدمت في تقييم 22,000 من سجلات مواعيد المرضى في تحديد 90٪ من المرضى الذين لن يحضروا موعدهم التالي. [15]
يمكن أن يُساعد الذكاء الاصطناعي أيضًا في إدارة مشكلات التوظيف. فعلى عكس الموظفين البشريين، يتمتع مساعدي التمريض الافتراضيين بميزة عدم التعب أبداً، حتى عند العمل على مدار الساعة، بل ويمكنهم بالفعل الإجابة عن الأسئلة، ومراقبة المرضى وتقديم إجابات سريعة. [16]
ويُعد تحليل الصور مجالًا آخر يُظهر مساحة غير عادية للتحسينات التي يمكن لنظام الذكاء الاصطناعي إضافتها إلى قطاع الرعاية الصحية.
فلقد كان الباحثون في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا جزءًا من فريق قام بتطوير خوارزمية قادرة على تحليل عمليات المسح ثلاثي الأبعاد أسرع من البشر بألف مرة [17]، وهذا لا شك يمثل تقدمًا غير مسبوق بالنظر إلى الوقت المستهلك في هذا العمل.
وهناك أيضًا إمكانية لترجمة المقاطع الصوتية إلى نصوص لتقليل العبء الإداري الذي يواجه الأطباء، وذلك من خلال أتمتة ترتيب الاختبارات وكتابة الملاحظات ووصف الأدوية.
وماذا بعد؟
من الصعب تقييم وتيرة التقدم الحالي. فبالنسبة للكثيرين، يبدو أن تأثير الذكاء الاصطناعي في الرعاية الصحية آخذًا في التزايد بسرعة مذهلة. ومع ذلك، يشير المراقبون المتمرسون إلى أن التغيير الحقيقي – وما يصاحبه من فوائد – لم يتحقق بعد.
تقول أكاديمية كليات الطب الملكية، وهي الهيئة التنسيقية لكليات ومنشآت الطب الملكية في المملكة المتحدة وإيرلندا البالغ عددها 24 كلية ومنشأة، أن “أنظمة الذكاء الاصطناعي قد تظهر مزيدًا من القدرة على التحكم الذاتي والاستقلال”.
ومن المتوقع كذلك أن يسهم الذكاء الاصطناعي في تغطية النقص في اليد العاملة خلال العقد القادم، حيث تشير التقديرات في تقرير حديث لشركة أكسنتشر (Accenture) إلى أن الذكاء الاصطناعي سوف يلبي 20% من الطلب على الوظائف في القطاع الصحي بحلول عام 2026. [18] كما سيكون بإمكان الأطباء في المستقبل الاستعانة بتقنية الذكاء الاصطناعي في اتخاذ القرارات من خلال تقييم الصور التشخيصية ووضع خطط العلاج، وذلك قبل الانتقال إلى المرحلة الأكثر طموحًا التي لا تزال بعيدة المنال، والمتمثلة في القيام بمهام أكثر دقة مثل التشخيص دون تدخل من المستخدم. [19]
أيًا كانت الرؤية التي يحملها المستقبل، هناك شيء واحد واضح للغاية.
“الذكاء الاصطناعي ليس ابتكاراً خفيًا، فنحن نراه كل يوم في مراكز الاتصال بل وفي بيوتنا أيضًا، وفي أنظمة الرعاية الصحية كذلك. أولئك الذين يستغلون الفرص التي يوفرها الذكاء الاصطناعي ويقومون ببناء تطبيقات لتقديم رعاية عالية الجودة وميسورة التكلفة سيكونون هم الأقدر على خوض المنافسة والفوز بها.” [20]
لكننا نحتاج أيضًا إلى التفكير في المريض الذي يمثل “المستهلك” في حالتنا هذه. وهنا لا بد من الإشارة إلى أن إحدى الدراسات التي أجرتها شركة أكسنتشر (Accenture) في عام 2018 أظهرت أن التغيير والتصورات التي تؤثر على سرعة تبني المريض لخيار العلاج بمساعدة الذكاء الاصطناعي لا تزال غير مؤكدة، خاصة وأن التركيز ما زال منصبًا على قضايا الرعاية الشخصية وأمن البيانات.
عيادة عبد اللطيف جميل لتقنيات التعلم الآلي في مجال الرعاية الصحية (J-Clinic) ونطاق عملها
تأسست عيادة عبد اللطيف جميل لتقنيات التعلم الآلي في مجال الرعاية الصحية (J-Clinic) في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا (MIT) في أواخر عام 2018، بهدف تسخير إمكانات الذكاء الاصطناعي في إحداث تحول في مجال الرعاية الصحية كما نعرفه اليوم.
من اليسار إلى اليمين: فيليب أ. شارب، رئيس المجلس الاستشاري لعيادة عبد اللطيف جميل لتقنيات التعلم الآلي في مجال الرعاية الصحية؛ حسن جميل، رئيس مجتمع جميل في المملكة العربية السعودية؛ رافائيل ريف، رئيس معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا وفادي جميل، رئيس مجتمع جميل الدولية، في حفل إطلاق عيادة عبد اللطيف جميل لتقنيات التعلم الآلي في مجال الرعاية الصحية في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا في بوسطن، سبتمبر 2018.
يأتي الجهد التعاوني الرئيسي الرابع بين معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا ومجتمع جميل في سياق مبادرة «السعي نحو الذكاء» من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، والتي تهدف إلى تسخير الذكاء الاصطناعي وتقنيات التعلم الآلي لإحداث ثورة في مجال الوقاية من الأمراض والكشف عنها وعلاجها. ويشمل نطاق اختصاص هذه المبادرة المحاور التالية:
- طرق وتقنيات الطب الوقائي التي تعد بإمكانية تغيير مجرى الأمراض غير المعدية عن طريق إيقافها في مسارها.
- اختبارات تشخيصية ميسورة التكلفة تهدف إلى الكشف عن المشاكل الصحية وتخفيف آثارها.
- اكتشاف الدواء وتطويره عن طريق إيجاد أدوية جديدة وتطويرها وتصنيعها بشكل أسرع وأقل تكلفة، وخاصة الأدوية المستخدمة في علاج حالات فردية.
تخضع العمليات اليومية لعيادة عبد اللطيف جميل لتقنيات التعلم الآلي في مجال الرعاية الصحية، لإشراف اثنين من أعضاء هيئة التدريس المشاركين، وهما ريجينا برزيلاي وجيمس كولينز، وقد نجحت العيادة بالفعل في تطوير نظام تشفير يمكن أن يساعد الشبكات العصبية في تحديد الأدوية الواعدة ضمن مجموعات البيانات الدوائية المساعدة؛ [21] وهذا النظام هو عبارة عن نموذج تنبؤي يتمتع بإمكانية توجيه الأطباء عند تحديد مواعيد تناول الأدوية للمرضى الذين يعالجون من تسمم الدم في غرفة الطوارئ؛ [22] وهو أيضًا أحد الأساليب الجديدة في مجال التعلم الآلي ويعمل على اكتشاف آلية إضافية تعزز من فعالية بعض المضادات الحيوية في قتل البكتيريا. [23]
وفي هذا يرى أنانثان ب. تشاندراكاسان، رئيس عيادة عبد اللطيف جميل لتقنيات التعلم الآلي في مجال الرعاية الصحية، أن ظهور الذكاء الاصطناعي في الرعاية الصحية يوفر فوائد قصيرة الأجل وطويلة الأجل.
حيث يقول: “لا شك في أن الذكاء الاصطناعي سيسهم في تبسيط الرعاية الصحية وجعلها أكثر فعالية في علاج الحالات ذات الطبيعة الخاصة، كما سيمكننا من تتبع بيانات الفرد وفهمها في ضوء معطيات الشريحة السكانية الأوسع، وتصنيع علاجات تلائم حالات فردية أكثر من غيرها، وهذا يوفر لنا فرصًا غير مسبوقة.
“لكن الأهم من كل ذلك هو أن نرى لهذه التكنولوجيا دورًا في الوقاية من الأمراض، وهذا ما نعمل على تحقيقه في المستقبل… بحيث يكون مسعانا الأولي منصبًا على الكشف عن الأمراض باستخدام الذكاء الاصطناعي ومن ثم علاجها بأفضل الطرق المتاحة، ليأتي بعد ذلك علاج الحالات ذات الطبيعة الخاصة، وأخيرًا الوقاية من الأمراض باعتبارها الهدف الأسمى لنا”.
وفي مايو 2019، أعلنت عيادة عبد اللطيف جميل لتقنيات التعلم الآلي في مجال الرعاية الصحية عن تمويل مشاريع بأكثر من 2.3 مليون دولار أمريكي في مجال الرعاية الصحية، وتم بالفعل اختيار 18 مشروعًا لتلقي المنح من بين 43 مقترح تلقته العيادة في مجالات متنوعة أبرزها السرطان والصرع والصحة العقلية وضعف الإدراك وفشل القلب الاحتقاني، وجميعها يقوم على تسخير الإمكانات للمتطورة الذكاء الاصطناعي. [24]
وعلى الرغم من أن ممارسات العمل ستتغير بلا شك مع تقدم الذكاء الاصطناعي، لكن التأثير التحويلي الحقيقي والمرتقب له يكمن في علاج المرض والوقاية منه، وهذا ما ستعمل عيادة عبد اللطيف جميل لتقنيات التعلم الآلي في مجال الرعاية الصحية بلا كلل على تحقيقه.
يسعدني شخصيًا أن أرى هذه الجهود البحثية الرائعة التي يبذلها مجتمع جميل وعيادة عبد اللطيف جميل لتقنيات التعلم الآلي في مجال الرعاية الصحية في سبيل تسخير قوة التعلم الآلي في مكافحة السرطان والزهايمر وغيرها من الأمراض غير المعدية التي تؤثر على حياة الناس في جميع أنحاء العالم.
أدرك تمامًا أن علينا أن نعمل بجد لتحقيق هذا الهدف، وأن نبذل المزيد من الجهد في المستقبل، لا سيما في مجال الصحة العامة ومكافحة الأمراض المعدية التي تعصف ببعض المناطق في العالم، وهذا بطبيعة الحال يتطلب أن تتضافر البشرية معًا على كل الأصعدة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، كي يتسنى لنا مواصلة مسيرتنا في هذا المضمار.
[1] Artificial Intelligence Will Change Healthcare as We Know It, Business News Daily, 9 June 2019
[2] The AI Industry Series: Top Healthcare AI Trends To Watch, CB Insights, accessed July 2019
[3] The AI Industry Series: Top Healthcare AI Trends To Watch, CBInsights, accessed July 2019
[4] Could Artificial Intelligence Transform Healthcare? Morgan Stanley, 26 February 2019
[5] Artificial Intelligence in Healthcare, Academy of Medical Royal Colleges, January 2019
[6] Artificial Intelligence (AI): Healthcare’s New Nervous System, Accenture, 2017
[7] 3 Ways Google Is Taking Healthcare Tech to New Heights, Health Tech Magazine, 15 July 2019
[8] 3 Ways Google Is Taking Healthcare Tech to New Heights, Health Tech Magazine, 15 July 2019
[9] Artificial Intelligence in Healthcare, Academy of Medical Royal Colleges, January 2019
[10] %