يعود جزء كبير من انبعاثات غازات الدفيئة إلى استهلاك الأفراد والأسر — فهل يمكننا حقاً إحداث التغييرات المطلوبة للحد من هذه الانبعاثات؟

عند التطرق إلى التحديات المرتبطة بتحقيق الحياد الكربوني (Net Zero) ، غالباً ما تتجه الأنظار نحو السياسات الحكومية والتحولات الصناعية الكبرى. لكنّ الدراسات الحديثة تُظهر أنّ الأفراد والأسر يسهمون بشكل كبير في الانبعاثات. فهل يمكننا نحن أن نؤدّي دوراً أكبر في مسيرة خفض الكربون؟

إذ تشير الأبحاث الأمريكية إلى أن نحو 20% من انبعاثات غازات الدفيئة تنجم مباشرة عن الأنشطة المنزلية — وعلى رأسها استخدام الوقود في السيارات الخاصة، والتدفئة، والتبريد، والطهي [1]. وتُظهر البيانات الحديثة أن 59% من المنازل الأمريكية لا تزال تعتمد على الوقود الأحفوري كمصدر رئيسي للتدفئة، حيث يستخدم 51% منها الغاز الطبيعي [2]. أما في أوروبا، فلا يختلف المشهد كثيراً، إذ شكّل الغاز الطبيعي نحو ثلث استهلاك الطاقة في المنازل الأوروبية عام 2022 (30.9%)، تليه مشتقات النفط بنسبة 10.9%. ويُقدّر أن قرابة ثلثي استهلاك الطاقة المنزلية في الاتحاد الأوروبي (63.5%) يُخصَّص لتدفئة المباني، فيما يُستخدم 14.9% لتسخين المياه.

إن تحمّل الأسر لمسؤولية خُمس انبعاثات الغازات الدفيئة يُعد أمراً جوهرياً بحد ذاته. غير أنّ تأثيرها يصبح أكبر بكثير عندما نأخذ في الحسبان الانبعاثات غير المباشرة: تلك الناتجة عن استهلاك السلع والخدمات على طول سلسلة التوريد. فعلى سبيل المثال، لا يؤدي ارتداء الملابس بحد ذاته إلى إطلاق أي انبعاثات كربونية مباشرة، إلا أن تصنيعها ونقلها وتوفيرها للمستهلكين يخلّف انبعاثات كبيرة. وينطبق المبدأ ذاته على معظم فئات «الاستهلاك المنزلي» الأخرى، مثل الغذاء والترفيه والنقل العام. لذلك، فلا عجب أن الأثر الإجمالي المباشر وغير المباشر لاستهلاك الأسر يشكّل نحو 60% من الانبعاثات العالمية للغازات الدفيئة [3] — وغالباً ما تنبع هذه الانبعاثات من دول بعيدة عن أماكن استهلاك المنتجات النهائية.

وهكذا، تتجاوز البصمة الكربونية للأسر حدود الدول التي تعيش فيها، لتصبح ظاهرة عالمية مترابطة. ففي الولايات المتحدة مثلاً، يتولّد أكثر من ربع الانبعاثات الكربونية غير المباشرة للأسر (27%) في الصين، بينما تسهم دول أخرى مثل كندا والهند وروسيا والمكسيك بنسب معتبرة كذلك. وعند النظر إلى أنماط الاستهلاك المختلفة، نجد أن ما بين 70% و85% من البصمة الكربونية للملابس التي يشتريها المستهلك الأمريكي تُنتَج في الخارج، إلى جانب نحو ثلثي الانبعاثات (65%) الناتجة عن شراء الأجهزة الإلكترونية.

وتؤكد البيانات أيضاً أن الثروة تلعب دوراً حاسماً في حجم الانبعاثات؛ فالأسر التي يتجاوز دخلها السنوي 100 ألف دولار أمريكي لا تمثل سوى 22.3% من إجمالي السكان، لكنها مسؤولة عن قرابة ثلث إجمالي البصمة الكربونية للأسر الأمريكية.

كيف يمكن للأسر والأفراد أن يكونوا جزءاً من الحل

بما أن الحياة المنزلية تُسهم بشكل مباشر وغير مباشر في نسبة كبيرة من الانبعاثات، فإن تعديل السلوكيات اليومية يمكن أن يحقق أثراً ملموساً في جهود تحقيق الحياد الكربوني. وتشير منظمة “بروجكت دروداون” (Project Drawdown) غير الحكومية إلى أن أغلب الانبعاثات ترتبط بقرارات كبرى تتخذها الحكومات والشركات، إلا أن خياراتنا كأفراد — كمستهلكين ومستخدمين للطاقة ومستأجرين وناخبين — تحمل وزناً حقيقياً في التأثير على النظام ككل، إذ تُرسل إشارات واضحة إلى صانعي القرار حول الاتجاهات الاجتماعية الجديدة.

ووفقاً لتحليل صادر عن المنظمة ذاتها، فإن سلوكيات الأفراد والأسر يمكن أن تسهم بما يزيد عن ربع التخفيضات المطلوبة عالمياً للحد من ارتفاع درجات الحرارة إلى مستويات خطيرة. [4]

وتشمل التدابير الأكثر تأثيراً اعتماد الأنظمة الغذائية النباتية وتقليل هدر الطعام، إلى جانب توصيات رئيسية أخرى تشمل تركيب الألواح الشمسية، وتحسين العزل الحراري، واستخدام الإضاءة بتقنية LED الموفرة للطاقة في المنازل.

وبالإضافة إلى الأثر المباشر لهذه التدابير، تؤكد منظمة “بروجكت دروداون” أنها تسهم كذلك في خلق زخم مجتمعي عبر جعل هذه الممارسات أكثر جاذبية وسهولة للآخرين. فعلى سبيل المثال: «إذا تمكنتَ من تركيب ألواح شمسية في منزلك، فستُلهم جيرانك لفعل الأمر نفسه، كما ستُوجّه رسالة واضحة لمزوّد الكهرباء المحلي بأن السكان يريدون الحصول على طاقتهم من مصادر متجددة بدلاً من الوقود الأحفوري».

تحديات التنفيذ: بين الطموح والواقع

من الناحية النظرية، تبدو إمكانية إسهام الأفراد والأسر في خفض الانبعاثات الكربونية واسعة ومبشّرة. غير أن الانتقال من الفكرة إلى التطبيق العملي ليس بالسهولة التي يبدو عليها. ويمكن النظر إلى قطاع الإسكان بوصفه مثالاً واضحاً على التوازن الدقيق بين الإمكانات والتحديات.

فهناك العديد من السبل لجعل المنازل أكثر كفاءة في استهلاك الطاقة؛ بدءاً من استخدام مواد بناء صديقة للبيئة، إلى تحسين العزل الحراري، وصولاً إلى التحول نحو أنظمة تدفئة منخفضة الانبعاثات. ويعتمد بعض هذه الحلول على تقنيات مبتكرة لا تزال في مراحل التطوير، مثل غلايات الهيدروجين التي توفر وسيلة أكثر استدامة لتدفئة المنازل. لكن استخدام الهيدروجين كوقود ما زال في مرحلة التجريب والنماذج الأولية، رغم نجاح بعض التجارب المحدودة حول العالم. وفي المقابل، تبرز مضخات الحرارة بوصفها تقنية واعدة وجاهزة للاستخدام، إذ تعمل بمبدأ “الثلاجة العكسية” [5]عبر سحب الحرارة من الهواء أو باطن الأرض لتدفئة المنازل. وكما هو الحال في نموذج العزل الحراري، تكمن التحديات في تطبيق تقنية مضخات الحرارة ليس في الجانب التقني، بل في الجوانب العملية وتكاليف التنفيذ.

فعلى سبيل المثال، تصف الوكالة الدولية للطاقة مضخّات الحرارة بأنها «التقنية الأساسية لجعل التدفئة أكثر أماناً واستدامة»، مؤكدةً أنها تمتلك القدرة على خفض انبعاثات ثاني أكسيد الكربون عالمياً بما لا يقل عن 500 مليون طن بحلول عام 2030[6]. ومع ذلك، فقد واجهت بعض الجهود الرامية إلى تشجيع اعتمادها مقاومة واضحة. ففي ألمانيا عام 2023، أقرّت الحكومة قانوناً يجعل مضخّات الحرارة المصدر الافتراضي لتدفئة المباني في السنوات المقبلة، من خلال حظر فعلي على تركيب أنظمة التدفئة الجديدة المعتمدة على النفط والغاز. لكن هذه الإجراءات قوبلت باعتراضات حادّة من وسائل الإعلام  [7]ومعارضي الحكومة، الذين جادلوا بأنها ستلحق الضرر بالرخاء الاقتصادي. وأدّت تلك الإجراءات أيضاً إلى توترات كبيرة داخل الائتلاف الحاكم في ألمانيا، إذ عبّر أحد الأحزاب المشاركة في الحكومة عن معارضة شديدة للخطة[8]. وقد أسهم هذا الجدل في دفع البلاد نحو الإخفاق في بلوغ أهدافها لمبيعات مضخّات الحرارة في عام 2024. [9]

 تعقيدات تغيير السلوك

تثير التجربة الألمانية قلقاً متزايداً لدى دول أوروبية أخرى؛ إذ تُظهر أن توفّر حلول أكثر استدامة لا يعني بالضرورة تبنّيها بسهولة، فدفع الناس إلى تغيير عاداتهم يظلّ تحدياً كبيراً. وقد كشف بحث دولي نُشر عام 2019 أن ظروف المعيشة قد تحدّ من قدرة الأفراد على خفض بصمتهم الكربونية — فالمستأجرون، على سبيل المثال، ليسوا قادرين على تنفيذ تحسينات تعزّز كفاءة الطاقة في منازلهم. كما بيّنت الدراسة أن البصمة الكربونية [10] للفرد تتغيّر تبعاً لظروف حياته؛ كإنجاب الأطفال أو المعاناة من ظروف صحية معيّنة، وهي عوامل قد تؤثّر بشكل ملحوظ. والأمر الأكثر إثارة للقلق أن الباحثين وجدوا أنّه «كلما ازدادت قدرة الإجراء على خفض الانبعاثات، تراجعت رغبة الأسر في تطبيقه». فقد ذكر حوالي ثلث المشاركين أنهم مستعدون لشراء سيارة أكثر صديقة للبيئة لتقليل انبعاثاتهم، لكن 4% فقط أعربوا عن استعدادهم للتخلي تماماً عن سيارتهم التقليدية الحالية.

ويمكن لاتجاهات سلوك المستهلكين أن تُقوّض في بعض الأحيان من تأثير التحسينات التكنولوجية والتنظيمية. فقد أظهر بحث نُشر عام 2019 حول الانبعاثات الناتجة عن الأسر الأمريكية، على سبيل المثال، أنه رغم تحسّن كفاءة السيارات، فقد ارتفعت انبعاثات النقل خلال العقدين الماضيين — على الرغم من “الانخفاض الكبير في انبعاثات العادم” وتحسّن اقتصاد الوقود في السيارات بنحو الثلث تقريباً [11]. وقد عُزيَت هذه التحسينات البيئية إلى تغيّرات تنظيمية على المستويين الفيدرالي ومستوى الولايات. لكن الباحثين أكدوا أن الانبعاثات استمرت في الارتفاع رغم ذلك، نتيجة عوامل تشمل زيادة تملّك المركبات الخاصة، ورغبة الناس المتزايدة في السفر.

 عوائق تغيير السلوك

من الواضح أن هناك العديد من العوائق التي تمنع المستهلكين من إجراء التغييرات السلوكية المطلوبة — ولعلّ أبرزها ضعف الوعي بحجم التحديات.

فقد أظهر بحث أجرته هيئة تنظيم سوق الطاقة في المملكة المتحدة – «أوفجيم» (Ofgem) أن مستوى الوعي لدى المستهلكين “منخفض” بوجه عام. وفي مناقشات مع الجمهور، “نادراً ما ربط الأفراد من تلقاء أنفسهم بين الاستدامة واستهلاك الطاقة في منازلهم”، كما أنهم “لم يكونوا على دراية كافية بتأثير أنظمة التدفئة الحالية على البيئة” [12]. وبينما رأى الناس أن وصول المملكة المتحدة إلى هدف الحياد الكربوني بحلول عام 2050 فكرة جيدة، فإنهم شعروا بـ “القلق إزاء ما قد يعنيه ذلك بالنسبة إلى أسلوب حياتهم الحالي”. وخلص تقرير «أوفجيم» إلى أنه: “رغم أن غالبية الناس يؤيّدون الأهداف المناخية ويدركون ضرورة التحوّل لتجنّب المزيد من التغيّر المناخي، إلا أنهم ينفرون من التأثير المحتمل لإزالة الكربون على حياتهم في المدى القصير”.

وعندما قُدّمت لهم بدائل لتدفئة منازلهم، أبدى المشاركون مجموعة من المخاوف؛ منها أن عملية التركيب ستكون مزعجة، أو أن الأنظمة الجديدة قد لا تلائم جميع أنواع العقارات. كما أعربوا عن مخاوف تتعلق بالجانب الجمالي وموثوقية تقنيات التدفئة الجديدة. لكن أكبر مخاوفهم تمثّلت في “التكلفة المالية لأي تغييرات محتملة”. وحذرت «أوفجيم» من أن “الكثيرين يشعرون بأنه من غير المرجّح أن يُدخلوا تغييرات على مصادر أو أنظمة الطاقة الحالية دون الحصول على دعم أو إرشاد”.

وتتوافق هذه النتائج مع تقرير نشره فريق الرؤى السلوكية البريطاني (BIT) العام الماضي، حيث أشار إلى أن تسعة من كل عشرة مستهلكين يرغبون في اتخاذ خيارات مستدامة، لكن “العديد من السلوكيات اللازمة لتحقيق ذلك لا تزال باهظة التكلفة، وغير عملية، وغير جاذبة، أو ببساطة ليست الخيار الافتراضي أو المألوف”. ويضيف التقرير أن مضخّات الحرارة ما تزال مرتفعة التكلفة، وأن امتلاك مركبات كهربائية لا يزال غير عملي بالنسبة لكثيرين. كما يلفت التقرير إلى أن المأكولات الأكثر رواجاً في البلاد تعتمد على اللحوم، إضافةً إلى عدم توفر بدائل رخيصة وسريعة للرحلات الجوية الطويلة. [13]

 اتخاذ تدابير لدفع التغيير

مع أنّ المستهلكين يدعمون عموماً الأهداف الرامية إلى خفض الانبعاثات، إلا أنهم يترددون عندما تتطلّب الإجراءات اللازمة تأثيراً كبيراً على أنماط حياتهم. وفي الوقت نفسه، عندما تفرض الحكومات حلولاً تنظيمية — مثل قانون مضخّات الحرارة في ألمانيا — فقد تواجه هذه الحلول مقاومة سياسية كبيرة. وغالباً ما تؤدي المعارضة الشديدة للتدابير الرامية إلى خفض الانبعاثات إلى قيام الحكومات بتأجيلها أو تخفيفها، كما حدث عندما أجّلت الحكومة البريطانية حظر بيع السيارات الجديدة العاملة بالبنزين أو الديزل من عام 2030 إلى عام 2035. [14]

وبالتالي، إذا كان الاعتماد على الإجراءات الطوعية أو المفروضة يميل إلى عدم الفعالية، فهل هناك وسيلة أخرى؟

يشير باحثو «فريق الرؤى السلوكية» في المملكة المتحدة (BIT) إلى وجود بديل. وبحسب تقرير المنظمة الصادر عام 2023، فإنّ نهج الاستدامة الذي يستهدف تغيير السلوكيات على عدة مستويات هو الأجدى لتحقيق النتائج. ويؤكد الباحثون أنّ الأفراد، على الرغم من قدرتهم على اتخاذ قراراتهم الشخصية، فإنهم يفعلون ذلك ضمن «بيئات اختيار» تُشكّل سلوكهم بدرجة كبيرة عبر عوامل مثل الأسعار والسهولة والأعراف الاجتماعية.

وتتشكل هذه البيئات بدورها بفعل مجموعة من العوامل الكلية مثل الحوافز التجارية، والتشريعات، والقيادة المؤسسية. وبناءً على هذا النموذج، يقارن «فريق الرؤى السلوكية» الفرد الذي يواجه قرارات سلوكية بسبّاح في مجرى نهر: «حر في السباحة باتجاه مختلف لكنّه مقيّد ومتأثر بتيار الماء».

وبدلاً من التركيز على التدخلات المباشرة الموجّهة للأفراد، يؤكّد «فريق الرؤى السلوكية» على أهمية العمل على بيئات اتخاذ القرار والسياقات التي يتحرك ضمنها المستهلكون، إضافةً إلى العوامل البنيوية والسياسات التي تشكّل تلك البيئات من الأساس. ويرى الفريق أن استهداف البيئة المحيطة بالخيارات على هذا النحو يسمح للسلوكيات الصديقة للبيئة بالازدهار بشكل طبيعي.

وفيما يتعلّق باستخدام الطاقة داخل المنازل، تتضمّن توصيات «فريق الرؤى السلوكية» خفض أسعار الكهرباء مقارنة بالغاز — من خلال اتخاذ إجراءات مثل إعادة توجيه الرسوم البيئية أو وضع حدود سعرية. كما يدعو التقرير الحكومة إلى تحفيز أعمال تحسين كفاءة الطاقة لدى المالكين والمستأجرين، وذلك عبر تقديم قروض لدعم هذه التحسينات، وربط مستوى الضرائب على شراء العقارات بتصنيفاتها البيئية. كما أوصى التقرير بإنشاء منصة وطنية موحّدة (“نافذة واحدة”) لدعم المنازل الخضراء، بما يتيح للمستهلكين الوصول إلى شبكة من المورّدين المعتمدين، وضمانات بالتسعير العادل، وحماية للمستهلك. وتهدف مثل هذه التدابير إلى «بناء بيئة تصبح فيها الخيارات الصديقة للبيئة هي الأكثر جاذبية وسهولة واعتيادية».

وقد توصلت أبحاث أُجريت العام الماضي من قبل مرصد السياسات العامة الدولي (IPPO) إلى استنتاجات مماثلة؛ إذ خلصت إلى أن المستهلكين يصبحون أكثر ميلاً لاتخاذ قرارات شراء صديقة للبيئة إذا قامت الحكومات بتدخلات تركز على «العوامل السلوكية والبشرية»، إلى جانب الأنظمة والسياقات التي تُشكّل تلك السلوكيات. وقد استخدم المرصد نموذجاً لتغيير السلوك يفترض أن قرارات الأفراد تتأثر بالعديد من العوامل والسياقات، بما في ذلك العلاقات الشخصية، والمجتمعات المحلية، والشركات، والمؤسسات، بالإضافة إلى السياسات الحكومية [15]. وشملت توصيات المرصد إنشاء هياكل حوافز متسقة — من بينها قروض خضراء منخفضة الفائدة، ورهون عقارية مخصصة لأعمال العزل — إضافة إلى تأسيس مؤسسات لتحديث المنازل تستخدم تقنيات التقسيم القائمة على البيانات لتقديم نصائح مالية وفنية مخصّصة للمستهلكين.

ووفقاً لما تشير إليه هذه التقارير، نادراً ما يُمكن تفسير جهود إزالة الكربون الناجحة بعامل واحد فقط.

ويظهر ذلك بوضوح في الدول الإسكندنافية مثل فنلندا والسويد والنرويج — التي تحقق أعلى معدلات في تركيب مضخّات الحرارة في العالم، رغم برودة مناخها. فعلى مدار الثلاثين عاماً الماضية، ساهمت مضخّات الحرارة المُباعة في انخفاض انبعاثات ثاني أكسيد الكربون بشكل ملحوظ في كل من هذه الدول (72%-، 83%- و95%- على التوالي) [16]. وكانت هذه الدول تعتمد سابقاً وبشكل واسع على النفط في التدفئة، لكنها شرعت في جهود حثيثة للابتعاد عن الوقود الأحفوري عقب أزمة النفط في سبعينيات القرن الماضي.

ويقول الدكتور يان روزينو، مدير البرامج الأوروبية في منظمة «مشروع المساعدة التنظيمية» (RAP)، إن هذا الهدف ظلّ «محوراً ثابتاً في سياسات الطاقة الوطنية» في كل من تلك الدول، ما أدى إلى تقليص الاعتماد على الوقود الأحفوري في التدفئة إلى مستويات ضئيلة[17]. وقد خلق ذلك دافعاً مهماً للبحث والتطوير في تقنيات مضخّات الحرارة، إلى جانب تدخلات حكومية مثل الحملات التوعوية والمنح المالية. وخلصت المنظمة إلى أن نجاح هذه الدول يعود إلى مزيج من أدوات السياسات التي تعمل بتناغم، بما في ذلك ضريبة الكربون، والحوافز الحكومية، واللوائح التنظيمية، ومعايير الجودة، وحماية المستهلك. ويؤكد روزينو أنه لا توجد سياسة واحدة قادرة على خلق سوق واسعة لمضخّات الحرارة؛ بل يوصي بـ «مزيج سياساتي مُحكم التصميم يجمع بين الأدوات الاقتصادية، والدعم المالي، والتنظيم — مدعوماً بالتنسيق والتواصل الفعّال».

 ما الذي يحمله المستقبل؟

إن نجاح هذه الدول في تطبيق تقنية مضخّات الحرارة يُثبت أن التحوّل ممكن. لكن لكي يحقق العالم أهدافه في إزالة الكربون، ستكون هناك حاجة إلى تغييرات مماثلة في الحجم عبر مجموعة واسعة من القطاعات. وقد أشار موقع “بوليتيكو” في وقت سابق من هذا العام إلى أن تحقيق هدف الاتحاد الأوروبي بخفض انبعاثات غازات الدفيئة بنسبة 90% بحلول عام 2040 سيتطلّب من أوروبا «إعادة تشكيل اقتصادها، وتغيير معالم أراضيها، وتحويل أنماط حياتها» [18]. وفي تقييم لما يعنيه هذا السيناريو من حيث التطبيق العملي، تخيل تقرير “بوليتيكو” «قارة متحوّلة» — مع ما قد يصاحب ذلك من «تفكّك في الائتلافات الحاكمة، وإغلاق الشركات»، واحتجاجات من المزارعين يحاصرون بروكسل.

وستشمل التغييرات اللازمة دفع المستهلكين نحو اعتماد أنظمة غذائية أكثر اعتماداً على النباتات، مع تقليل المزارعين لأعداد الماشية وتقليص استخدام الأسمدة القائمة على النيتروجين بشكل كبير. وإلى جانب زيادة الاعتماد على مضخّات الحرارة، ستكون هناك حاجة إلى خفضٍ عام في الاستهلاك، واعتماد تدابير تحفّز الناس على تقليل المساحات التي يعيشون فيها. كما ستصبح غالبية السيارات كهربائية، مع زيادة الاعتماد على التنقّل المشترك ووسائل النقل النشط — في حين سترتفع أسعار الرحلات الجوية بفعل الضرائب وتسعير الكربون. أمّا إزالة الكربون على نطاق واسع من قطاع الطاقة فستعني المزيد من أبراج وخطوط نقل الكهرباء، ومزيداً من المنشآت الممتلئة بتوربينات الرياح والألواح الشمسية، وتوسعاً أكبر في استخدام أنظمة تخزين الطاقة بالبطاريات (BESS) لتوفير طاقة متجددة حقيقية — وهو مجال تُعد فيه شركة فوتواتيو لمشاريع الطاقة المتجددة (FRV)، التابعة لجميل للطاقة، قوة صاعدة.

تعمل فوتواتيو عبر خمس قارات، وتطوّر وتدير محفظة متنامية من منشآت تخزين الطاقة بالبطاريات، مع تركيز خاص على المملكة المتحدة، حيث أنشأت «مركز تميّز لتخزين الطاقة بالبطاريات» بقيادة ديفيد مينينديز.

وفي عام 2023، حققت فوتواتيو الإغلاق المالي لاثنين من أبرز مشاريعها لتخزين البطاريات في المملكة المتحدة — هما «كونتيغو» في ويست ساسكس و«كلاي تاي» في إسكس — ويُعدّ الأخير واحداً من أكبر مشاريع تخزين الطاقة بالبطاريات في المملكة المتحدة، كما كان عند تدشينه الأكبر من حيث السعة التشغيلية في أوروبا.

Contego BESS Visit
ساسكس، المملكة المتحدة — في منشأة كونتيغو لتخزين طاقة البطاريات، التُقطت صورة تجمع كلاً من (من اليسار إلى اليمين): بيتر كافاناه، الرئيس التنفيذي لشركة هارموني إنرجي؛ وفادي جميل، نائب رئيس مجلس إدارة العمليات الدولية في عبد اللطيف جميل؛ وفيليبي هيرنانديز، المدير العام لشركة FRV-X والهندسة في فوتواتيو لمشاريع الطاقة المتجددة (FRV).

وقد دخل مشروع «كلاي تاي» حيز الخدمة في نهاية مارس 2024، ويستخدم 52 بطارية من طراز Tesla Megapack بتقنية الليثيوم-أيون، ممّا يوفر قدرة إنتاجية تبلغ 99 ميغاواط وسعة تخزين تصل إلى 198 ميغاواط/ساعة. وبالمثل، يستفيد مشروع «كونتيغو» من قدرة تبلغ 34 ميغاواط وسعة 68 ميغاواط/ساعة من خلال مصفوفة تضم 28 بطارية. كما بدأت فوتواتيو إنشاء مشروعين إضافيين لنظم تخزين البطاريات في منطقة «ميدلاندز» بالمملكة المتحدة. يغطي كل مشروع مساحة 1.01 هكتار، وسينتجان معاً نحو 100 ميغاواط من الطاقة. وستُتيح أنظمة تخزين الطاقة المعتمدة على الليثيوم-أيون استيراد وتصدير الطاقة المتصلة بشبكة التوزيع.

Aerial view of Clay Tye Battery Energy Storage Systems, Essex, UK.
منظر جوي لمشروع «كلاي تاي»  لتخزين طاقة البطاريات في مقاطعة إسكس، المملكة المتحدة.

وتأتي هذه المشاريع في أعقاب نجاح مشروع «هولز باي» في دورست بالمملكة المتحدة، الذي دخل الخدمة منذ عام 2020، بسعة 15 ميغاواط/ساعة، وكان أول موقع يعمل ضمن واجهة برمجة التطبيقات (API) الموسّعة الجديدة للشبكة الوطنية — الخاصة بآلية موازنة الأحمال.

وتمتلك فوتواتيو اليوم أكثر من 5 جيجاواط من مشروعات أنظمة تخزين الطاقة بالبطاريات (BESS) في مراحل متعددة من التشغيل أو التطوير في المملكة المتحدة. ويأتي ذلك بالتوازي مع مشروعات مماثلة في أستراليا، حيث تطوّر الشركة منشآت لتخزين الطاقة بالبطاريات في «غناروار» بولاية فيكتوريا، إضافةً إلى محطة هجينة للطاقة الشمسية وتخزين الطاقة بالبطاريات في «دالبي» بولاية كوينزلاند — وقد دخل هذا المشروع الأخير، الذي يدمج بين الطاقة الشمسية الكهروضوئية (PV) وتقنية تخزين الطاقة بالبطاريات، حيّز التشغيل في يوليو 2024.

كما تستحوذ الشركة على حصة أغلبية في مشروع لتخزين الطاقة بالبطاريات في اليونان. وفي فبراير 2024، دخلت فوتواتيو في شراكة استراتيجية مع شركة «ايه ام بي تانك فلندا» (AMP Tank Finland Oy) لتنفيذ مشروع لتخزين الطاقة بالبطاريات على نطاق المرافق في «سيمو» بفنلندا .

 عواقب عدم التحرّك

حذّر ووبكه هوكسترا، مفوض الاتحاد الأوروبي للعمل المناخي، في وقت سابق من هذا العام من المخاطر المرتبطة بالفشل في تحدي إزالة الكربون. وأثناء إعلانه أهداف الاتحاد المناخي، شدّد على أن: «مبررات العمل المناخي لا جدال فيها، وتتطلّب التخطيط من الآن».  وأضاف: «إن مواجهة هذه الأزمة تُشبه سباق ماراثون، لا سباق سرعة. علينا أن نضمن وصول الجميع إلى خط النهاية، وألّا يتخلّف أحد عن الركب». [19]

فادي جميل، نائب رئيس مجلس إدارة العمليات الدولية في عبد اللطيف جميل، خلال كلمته في مؤتمر COP28.  حقوق الصورة © مجتمع جميل

وتحمل كلمات هوكسترا تحذيراً جديراً بالاهتمام. فالتحديات المناخية تختلف من بلدٍ إلى آخر، غير أنّ تغييرات واسعة النطاق ستكون مطلوبة في العديد من الأماكن — بما في ذلك منازلنا — إذا أراد العالم مواجهة هذه التحديات. إن إيجاد الرؤية والقيادة القادرتين على تحقيق هذا التحوّل يمثّل مهمة جسيمة أمام المجتمعات وصنّاع القرار فيها. أما تحقيق هذا التحوّل مع الحفاظ على العدالة والانسجام المجتمعي فسيكون اختباراً أكبر بكثير.

ويقول فادي جميل، نائب رئيس مجلس إدارة العمليات الدولية في عبد اللطيف جميل:

«إن الخيارات التي نتخذها اليوم لجعل منازلنا وحياتنا أكثر استدامة وأقل اعتماداً على الكربون يمكن أن تسهم مساهمة حقيقية في تحقيق أهداف الحياد الكربوني. ومع الالتزام والإصرار اللازمين، ووجود حكومات تمتلك الجرأة لتطبيق السياسات الصحيحة، يمكننا أن نعمل معاً على إزالة الكربون من منازلنا، وحماية البيئة، وصون مجتمعاتنا في المستقبل».

 

 

 

 

 

[1] https://www.sciencedirect.com/science/article/pii/S0160412019315752?via%3Dihub

[2] https://atlasbuildingshub.com/2023/04/03/fuel-oil-and-propane-space-heating-across-the-united-states/

[3] https://www.sciencedirect.com/science/article/pii/S0160412019315752?via%3Dihub#bb0075

[4] https://drawdown.org/news/insights/the-powerful-role-of-household-actions-in-solving-climate-change

[5] https://www.cleanenergywire.org/news/europe-struggles-heat-homes-without-cooking-planet

[6] https://iea.blob.core.windows.net/assets/4713780d-c0ae-4686-8c9b-29e782452695/TheFutureofHeatPumps.pdf

[7] https://www.cleanenergywire.org/news/europe-struggles-heat-homes-without-cooking-planet

[8] https://www.politico.eu/article/heat-pumps-exploded-germany-ruling-coalition-green-law/

[9] https://www.euractiv.com/section/energy-environment/news/germany-to-miss-2024-heat-pump-target-by-half/

[10] https://www.sciencedirect.com/science/article/pii/S2214629618310314

[11] https://theconversation.com/5-charts-show-how-your-household-drives-up-global-greenhouse-gas-emissions-119968

[12] https://www.ofgem.gov.uk/sites/default/files/docs/2020/10/consumer_attitudes_towards_decarbonisation_and_net_zero_1.pdf

[13] https://www.bi.team/wp-content/uploads/2023/01/How-to-build-a-Net-Zero-society_Jan-2023-1.pdf

[14] https://www.trade.gov/market-intelligence/update-uk-government-announces-delay-zev-mandate

[15] https://theippo.co.uk/home-energy-behaviour-change-barriers-green-purchases-evidence-review/

[16] https://www.carbonbrief.org/guest-post-how-heat-pumps-became-a-nordic-success-story/

[17] https://www.carbonbrief.org/guest-post-how-heat-pumps-became-a-nordic-success-story/

[18] https://www.politico.eu/article/your-life-2040-if-eu-climate-plan-work/

[19] https://ec.europa.eu/commission/presscorner/detail/en/ip_24_588