تعزيز استدامة رأس المال الطبيعي

تتطلب الإدارة الفعّالة للأصول والموارد الطبيعية الحيوية، مثل المحيطات، والغابات، والغلاف الجوي، تحولاً جذرياً في نطاق الأنشطة المؤسسية، وهو ما يشكل تحدياً مرهقاً في الوقت الراهن. ومع ذلك، تشير الأبحاث إلى وجود إمكانيات حقيقية لتحقيق تقدم ملموس في هذا المجال.
يُعد رأس المال النقدي أو المالي مفهوماً راسخاً منذ زمن طويل، وهو مورد اقتصادي أساسي تعتمد عليه الشركات في تحقيق النمو وتوليد الثروة. ورغم أن مفهوم “رأس المال الطبيعي” قد لا يحظى بنفس القدر من الشهرة الذي يتمتع به رأس المال النقدي، إلا أنه يمثل عنصراً حيوياً بأهمية تتجاوز التصور التقليدي. يشير هذا المفهوم إلى الموارد التي توفرها الطبيعة، مثل الهواء النقي والمياه العذبة والتربة الخصبة والمحيطات الصحية، والتي تعد مقومات أساسية للعديد من الصناعات، بما فيها الزراعة والتصنيع والنقل. وإلى جانب دورها في تعزيز الإنتاجية الاقتصادية، تعد هذه الأصول ركائز أساسية لأولويات عالمية أوسع مثل الصحة، والأمن الغذائي، والاستدامة البيئية.
غير أن هناك قلق متزايد من أن الأنشطة البشرية الجائرة باتت تهدد “رأس المال الطبيعي”.
فقد أشار تقرير صادر عن البنك الدولي إلى أن التوسع في النشاط الاقتصادي منذ الحرب العالمية الثانية قد أدى إلى تغيرات سريعة في الأنظمة البيئية، مما تسبب في تراجع ملحوظ في جميع أشكال رأس المال الطبيعي تقريباً. وحذر التقرير من أن استمرار هذا الاتجاه “قد يلقي بظلال سلبية على المستقبل.”[1]
وفي عام 2023، قام باحثون من جامعة ستوكهولم بتحليل “الحدود الكوكبية”، وهي المعايير الأساسية التي تضمن مساحة آمنة للبشرية. وقد كشفت هذه الدراسة التحليلية أن ستة من بين تسعة حدود طبيعية قد تم تجاوزها بالفعل، مما يشير إلى أن كوكب الأرض أصبح فعلياً خارج نطاق الأمان البيئي.[2]
وبالإضافة إلى تغيّر المناخ، شملت الحدود الكوكبية التي تم تجاوزها تلك المتعلقة باستخدام المياه العذبة، وفقدان التنوع البيولوجي، ومستويات التلوث الكيميائي والبلاستيكي، بما في ذلك المبيدات الحشرية، واللدائن الدقيقة، والنفايات النووية. [3]
وكشف تحليل آخر أجرته ماكنزي عام 2022 باستخدام النموذج ذاته، عن أن تجاوز الحدود المتعلقة بفقدان التنوع البيولوجي والتلوث الكيميائي تمثل واحدة من المشكلات الأكثر إثارة للقلق. وأشار التقرير إلى أن فقدان التنوع البيولوجي قد تجاوز المستويات المسجلة عام 1970 بمقدار 1.4 مرة، وهو أمر مقلق بشكل خاص بسبب التفاعلات المتشابكة بين التنوع البيولوجي والحدود الكوكبية الأخرى.
كما حذر التقرير من أن الاقتصاد العالمي يطلق اليوم 2.6 ضعف كمية البلاستيك في مصادر المياه مقارنة بعام 2010، مما يؤثر سلباً على الأنواع الحية والنظم البيئية والسلاسل الغذائية، ويقلل من قدرة المحيطات على امتصاص الكربون
كما تم تحديد الزراعة والمحاصيل والثروة الحيوانية باعتبارها الصناعات الأكثر تأثيراً على الكوكب، حيث ساهمت بشكل كبير في خمسة من بين تسعة متغيرات تم تقييمها. وأظهر التقرير أن إنتاج المحاصيل الزراعية مسؤول عن 72% من استهلاك المياه العذبة و61% من التلوث الناتج عن جريان النيتروجين، إضافةً إلى حوالي ثلث (32%) فقدان التنوع البيولوجي الأرضي. وفي المقابل، ساهم قطاع التجزئة والمبيعات والخدمات بنسبة 77% في التلوث الكيميائي والبلاستيكي. [4]
تُحدد الحدود الكوكبية النقاط الحاسمة التي قد تشهد تحوّلات مفاجئة وغير قابلة للتدارك في الأنظمة البيئية، خاصة إذا ما تجاوز الضرر عتبة الحدود المسموح بها، وأصبح من غير الممكن السيطرة عليه. على سبيل المثال، تتزايد المخاوف من أن يؤدي اضطراب أنماط تدفق المياه في المحيط الأطلسي نتيجة ذوبان الغطاء الجليدي في غرينلاند، إلى تأثيرات عميقة قد تشمل تغيرات كبيرة في معدلات هطول الأمطار في مناطق مثل الهند وأمريكا الجنوبية وغرب إفريقيا. كما قد يؤدي هذا التغير إلى حدوث عواصف قوية، بالإضافة إلى انخفاض درجات الحرارة في أوروبا، مما يعكس الحجم الكبير والمفاجئ للتأثيرات البيئية المحتملة.
وتشمل القضايا البيئية الأخرى التي قد تساهم في إحداث تحوّل مناخي كارثي كلاً من إزالة الغابات في الأمازون، ونفوق الشعاب المرجانية، وتحوّل أنماط الرياح الموسمية في غرب إفريقيا والهند. ويحذر تحليل ماكنزي من أن هذه الظواهر قد تؤدي إلى فقدان التنوع البيولوجي، وارتفاع مستويات سطح البحر، واضطراب الإنتاج الزراعي.
والأخطر من ذلك، أن هذه الظواهر قد تتسبب في حدوث تأثير متتابع (تأثير الدومينو)، حيث يؤدي تجاوز نقطة تحوّل واحدة إلى تحفيز نقاط تحوّل أخرى، مع احتمال تعرض المجتمعات الأكثر ضعفاً لأشد العواقب.
وكما أوضح البروفيسور يوهان روكستروم، أحد المشاركين في دراسة ستوكهولم لعام 2023، فإن الأبحاث
“تصور بوضوح حالة كوكبنا كمريض يعاني من اعتلال متزايد، حيث تتصاعد الضغوط البيئية ويستمر تجاوز الحدود الحيوية له.”
ويضيف: “لا نعرف إلى متى يمكننا الاستمرار في تجاوز هذه الحدود الأساسية قبل أن تؤدي الضغوط المتراكمة إلى تغييرات لا يمكن التراجع عنها وأضرار جسيمة.“
المكاسب الاقتصادية
لا يقتصر تحسين إدارة رأس المال الطبيعي على حماية كوكبنا وحسب، بل يتجاوز ذلك إلى مبررات اقتصادية قوية تدعمه. ففي تحليل أجراه البنك الدولي في عام 2021، تم التأكيد على أن النماذج الاقتصادية التقليدية تُهمل “الاتجاهات المتدهورة لخدمات الطبيعة”، مما يؤدي إلى تفاؤل مفرط في تقديرات النمو الاقتصادي.
ويشير التقرير كذلك إلى أنه في حال انهيار الخدمات البيئية الأساسية مثل التلقيح الطبيعي، وإنتاج الأخشاب من الغابات الأصلية، وتوفير الغذاء من مصايد الأسماك البحرية، فإن ذلك قد يؤدي إلى تراجع الناتج المحلي الإجمالي العالمي بمقدار 2.7 تريليون دولار أمريكي بحلول عام 2030.
ويُحذر التقرير من أن البلدان ذات الدخل المنخفض والمتوسط الأدنى ستتحمل الضرر الأكبر، حيث يُتوقع أن ينخفض الناتج المحلي الإجمالي فيها بأكثر من 10%. [5]ويخلص التقرير إلى أن الاقتصادات، وخصوصاً في الدول منخفضة الدخل، “لا يمكنها تحمل مخاطر انهيار الخدمات التي توفرها الطبيعة”.
ويعد الحفاظ على رأس المال الطبيعي ركيزة أساسية لتحقيق أهداف الأمم المتحدة للتنمية المستدامة (SDGs)، حيث تتكامل 17 هدفاً تتناول قضايا حيوية مثل الطاقة، والشراكات، والقضاء على الجوع، والصحة، والتعليم، والوصول إلى المياه، والإنتاج المسؤول، والعمل المناخي، لتشكل معاً خارطة طريق نحو السلام والرخاء الآن وفي المستقبل. ومع ذلك، يظل الهدف الأسمى وراء كل هذه الجهود هو حماية كوكبنا، إذ لا يمكن تحقيق أي تقدم مستدام من دون الحفاظ على الأرض التي نعيش عليها.
ما الذي يمكن أن تفعله الشركات؟
يمكن للشركات التي تعزز إدارة رأس المال الطبيعي أن تجني مكاسب مباشرة، بالإضافة إلى الفوائد التي تعود على المجتمع والبيئة. وقد كشفت ماكنزي في إحدى دراساتها البحثية[6]عن مجموعة متنوعة من الاستراتيجيات الواعدة لتحقيق ذلك. على وجه الخصوص، تشير الدراسة إلى أن دعم هذه الجهود بأنشطة مساندة شاملة، سيتيح للشركات التي تتبنى تطبيق الإجراءات المحددة باستخدام التقنيات الحالية ليس فقط وقف الاتجاهات البيئية السلبية، بل أيضاً تحقيق عائد إيجابي على الاستثمار (ROI) في العديد من الحالات.
وتؤكد دراسة ماكنزي أيضاً أن اتخاذ الشركات لإجراءات فاعلة من شأنه أن يضع العالم على مسار بيئي أكثر استدامة بحلول عام 2050. وتشير تحليلات الدراسة إلى أن 47 إجراءً محدداً يمكن أن يعيدنا إلى الحدود الكوكبية في مجالات مثل فقدان الغابات، واستهلاك المياه العذبة، والتلوث الغذائي بالمغذيات. وعلاوة على ذلك، قد تسهم هذه التدابير في تقليص التجاوزات المسجلة في عام 2022 بشكل كبير، وهو ما قد يسهم في الحد من الممارسات الجائرة على التنوع البيولوجي بنسبة 48%، فضلاً عن تقليل التلوث الكيميائي والبلاستيكي بنسبة 60%.
ويمكن لصناعة الزراعة أن تحقق تأثيراً كبيراً من خلال تبني ممارسات زراعية تجديدية، مثل زراعة محاصيل التغطية وتقليص استخدام الحرث التقليدي. ووفقاً للدراسة، فإن هذا النهج وحده يمكنه تحسين رأس المال الطبيعي عبر ثلاثة من الحدود الكوكبية: تقليل فقدان التنوع البيولوجي بنسبة 8%، وخفض استهلاك المياه العذبة بنسبة 5%، وتقليص التلوث الغذائي بالمغذيات بنسبة 16%. وعلاوة على ذلك، يشير التحليل إلى أن الزراعة التجديدية لا تساهم فقط في حماية البيئة، بل يمكنها أيضاً إضافة 65 مليار دولار أمريكي سنوياً من خلال تقليل التكاليف التشغيلية وتكاليف المدخلات الزراعية.
وثمة إجراء آخر موصى به يتمثل في استخدام تقنيات الري الفعالة وزراعة البذور المحسنة، حيث يُتوقع أن يؤدي ذلك إلى خفض استهلاك المياه العذبة بنسبة 19%، إلى جانب تحقيق قيمة إضافية عالمية تقدر بـ 40 مليار دولار أمريكي سنوياً من خلال تقليل استهلاك المياه.
أما بالنسبة للشركات غير الزراعية، فتُوصي الدراسة بالتحوّل إلى مصادر الطاقة المتجددة مثل الطاقة الشمسية وطاقة الرياح. وتشير الدراسة كذلك إلى أن هذا التحوّل يمكن أن يساهم في تقليص الفجوة في استهلاك المياه العذبة بنسبة 12%، وخفض التلوث الغذائي بالمغذيات بنسبة 4%، بالإضافة إلى إضافة 95 مليار دولار أمريكي سنوياً من خلال تقليل التكاليف التشغيلية.
من الواضح إذن أن هناك مجموعة واسعة من الأنشطة التي تحقق مكاسب مزدوجة، فهي من جهة تسهم في تحسين إدارة رأس المال الطبيعي، وفي الوقت ذاته تعزز أرباح الشركات. ووفقاً للتحليل، يمكن تحقيق 45% من إجمالي الإجراءات اللازمة للحد من الأضرار البيئية عبر 12 خطوة رئيسية، مما يحقق عائداً صافياً على الاستثمار يُقدر بحوالي 700 مليار دولار أمريكي. ومع ذلك، تتعقد الأمور حين يتعلق الأمر بالـ 55% المتبقية من جهود الحد من التدهور البيئي، التي يُتوقع أن تتطلب استثماراً قدره 1.5 تريليون دولار أمريكي.
يتجلى هذا التفاوت بوضوح عند النظر في التدابير الموصى بها للحد من التلوث البلاستيكي. فعلى سبيل المثال، يمكن لقطاع التجزئة والمبيعات والخدمات تقليل استخدام البلاستيك في التغليف وتطبيق نماذج تسليم مبتكرة مثل برامج الحاويات القابلة للإرجاع وإعادة الاستخدام، مما قد يؤدي إلى توفير نحو 35 مليار دولار سنوياً. بالمقابل، تتطلب الإجراءات الأخرى مثل توسيع عمليات إعادة التدوير واستخدام البلاستيك الحيوي القابل للتحلل استثمارات ضخمة، تصل إلى 40 مليار دولار سنوياً في تكاليف رأس المال والتشغيل. ورغم أن هذه التدابير مجتمعة يمكنها تقليص أكثر من نصف (52%) التجاوزات في حدود التلوث البلاستيكي، إلا أنها ستتطلب استثماراً مالياً كبيراً.
وفي حين أن بعض التدابير المقترحة يمكن تنفيذها مباشرة من قبل الصناعات المختلفة، فإن البعض الآخر يتسم بتعقيد أكبر. وفي هذا الصدد، تُحدد الدراسة أربعة محاور رئيسية يمكن للزراعة اتباعها لمعالجة جزء كبير من الفجوات البيئية، بما في ذلك سد 100% من فجوة فقدان الغابات، و55% من فجوة التلوث الغذائي بالمغذيات. وتشمل هذه المحاور بدائل نباتية للحوم ومنتجات الألبان، وتقنيات البذور المتقدمة (مثل البذور المعدلة وراثياً)، وتقليل فقدان الغذاء وهدره من خلال تحسين سلاسل التوريد. لكن هذه التدابير تتطلب شراكة وثيقة بين قطاع الزراعة والقطاعات المرتبطة به، مما يجعل تنفيذها أكثر تعقيداً. ولتحقيق الفوائد الكاملة، يشير التقرير إلى أن بعض الإجراءات الموصى بها، مثل التحوّل إلى خيارات غذائية نباتية، يجب أن تتم كجزء من جهد مجتمعي شامل يتجاوز نطاق عمل الشركات وحدها.
التقدم المُحرز حتى الآن
قد تكون التحديات الراهنة أحد الأسباب التي تفسر ضعف التزام الشركات حتى الآن بحماية رأس المال الطبيعي. فقد أشار تقرير منفصل صادر عن ماكنزي في عام 2023 إلى حقيقة أن نحو 79% من الشركات المدرجة في قائمة «فورتشن جلوبال 500» قد حددت أهدافاً لخفض بصمتها الكربونية، إلا أن الجهود المؤسسية الموجهة نحو حماية رأس المال الطبيعي تظل غير واضحة وذات انتشار محدود[7].
فقط نحو ربع الشركات (26%) حددت أهدافاً تتعلق بإدارة المياه، بينما وضعت 22% أهدافاً للحد من استخدام المواد الكيميائية والبلاستيك. أما النسب المرتبطة بالأهداف البيئية الأخرى، فقد كانت أقل بكثير، حيث تبنّت 13% من الشركات أهدافاً لحماية الغابات، و6% أهدافاً للحفاظ على التنوع البيولوجي، و5% أهدافاً تتعلق بالتحكم في المغذيات وأكاسيد النيتروجين. ومع ذلك، بدأت نسبة أكبر من الشركات في الاعتراف بتأثيرها على هذه المجالات، حيث أقر 46% من الشركات بتأثير عملياتها على موارد المياه. كما أظهر تقرير ماكنزي أن طبيعة ومدى صرامة الالتزامات المؤسسية تتفاوت بشكل كبير؛ ففي حين أن بعض الشركات وضعت أهدافاً واضحة، مثل تحقيق “صفر فقدان في التنوع البيولوجي” في جميع مواقعها مع معايير محددة لقياس التقدم، كانت أهداف أخرى أقل وضوحاً وأقل تحديداً من حيث نطاق التنفيذ.
وهناك بالفعل مؤشرات على تحسن تدريجي في الوضع، حيث أظهر التحليل أن حوالي شركة واحدة من كل خمس شركات بدأت بالفعل في تتبع تأثيرها على ثلاثة أبعاد أو أكثر من الطبيعة.
وقد التزمت بعض الشركات بالفعل بأهداف واضحة وطموحة. فعلى سبيل المثال، حددت شركة “لوريال” العالمية للتجميل في عام 2020 مجموعة من الأهداف المستدامة لعام 2030، مع التركيز على التنوع البيولوجي، وإدارة المياه، والاستخدام الدائري للموارد، بالإضافة إلى التصدي لتغير المناخ. [8] ومن بين هذه الأهداف، تسعى الشركة إلى أن تكون 95% من مكونات تركيبات منتجاتها مستمدة من مصادر حيوية، أو معادن وفيرة، أو عبر عمليات إنتاج دائرية. وقد قطعت الشركة بالفعل ثلثي الطريق نحو تحقيق هذا الهدف، حيث أحرزت تقدماً بنسبة 65%. ومع ذلك، فإن بعض الأهداف الأخرى، مثل سعيها لاستخدام 100% من البلاستيك المعاد تدويره أو المستمد من مصادر حيوية في التعبئة والتغليف، لم تحقق منها سوى 32% حتى الآن، مما يعني أن أمامها طريقاً طويلاً لتحقيق هذا الهدف الطموح[9].
وبالمثل، تسعى شركة التجزئة الأمريكية العملاقة “وولمارت” إلى التحوّل إلى شركة “تجديدية” تضع الإنسان والطبيعة في صميم ممارساتها التجارية.[10] وبالتعاون مع مؤسسة وولمارت، حددت الشركة هدفاً طموحاً يتمثل في المساعدة في حماية وإدارة الأراضي بشكل أكثر استدامة، أو استعادة ما لا يقل عن 50 مليون فدان من الأراضي بحلول عام 2030، بالإضافة إلى استعادة مليون ميل مربع من المحيطات. كما تسعى وولمارت إلى تشجيع مورديها على دعم المبادرات البيئية، وضمان الحصول على سلع مثل القطن ولحوم الأبقار وفول الصويا من مصادر مستدامة معتمدة. وفي هذا السياق، استثمرت وولمارت 120 مليون دولار بالشراكة مع “بيبسيكو” لمساعدة المزارعين في الولايات المتحدة وكندا على تحسين صحة التربة وجودة المياه.
الأطر الإرشادية والتوجيهية
لكي تكون الجهود المؤسسية نحو الاستدامة ذات مصداقية، فينبغي أن تستند إلى معايير واضحة وآليات قياس قوية، وهو ما يمثل تحدياً كبيراً في الوقت الراهن. وكما أشارت ماكنزي، “لا يوجد حتى الآن معيار موحد لقياس الطبيعة”[11]، ومع أن البيانات المتعلقة برأس المال الطبيعي متوفرة، فإنها غالباً ما تكون مُشتتة بين مصادر متعددة، مما يجعل تجميعها واستخدامها أمراً معقداً. وفي هذا السياق، أشار تقرير ماكنزي لعام 2022 إلى أن الحكومات يمكنها دعم جهود الشركات من خلال تقديم إرشادات واضحة بشأن التوقعات والأهداف المرجو تحقيقها. [12]
وتتمثل إحدى الآليات الواعدة في هذا المجال في إطار “المحاسبة على رأس المال الطبيعي” (NCA)، التي يرى البنك الدولي أنها قد تضع الموارد الطبيعية في صميم عملية صنع القرار الاقتصادي. [13] تقوم هذه الفكرة على تخصيص قيم مالية للمساهمات التي تقدمها الطبيعة للاقتصاد ورفاهية الإنسان، مما يساعد في إثبات الجدوى الاقتصادية لحماية البيئة واستعادتها.
على سبيل المثال، شرعت زامبيا منذ عام 2016 في بناء نظام متكامل لتقييم قيمة مواردها الطبيعية، التي تُعد ركيزة أساسية لتحقيق نمو اقتصادي مستدام على المدى الطويل. ومنذ عام 2019، بدأت البلاد في إصدار تقارير دورية تفصيلية عن حالة الغابات والمياه والأراضي، مما أتاح لها تسليط الضوء على مجموعة من التحديات الراهنة والفرص الواعدة في هذا المجال الحيوي.
كشفت الدراسات المتعلقة بالموارد الحرجية في زامبيا عن تراجع ملحوظ في مساحة الغابات، حيث يُعزى حوالي 64% من هذه الخسائر إلى التوسع الزراعي، بينما يُعزى الجزء المتبقي إلى الاستيطان العشوائي. ومن بين القضايا الأخرى، يُلاحَظ تزايد الطلب على تصدير الأخشاب، مما يساهم في الاستغلال غير المنضبط لأنواع معينة من الأشجار. لكن هناك أيضاً بوادر إيجابية؛ فقد أظهرت البيانات وجود سوق واعدة للعسل وشمع العسل في مناطق الغابات المدارة بشكل مستدام، مما يعزز الفوائد الاقتصادية بشكل كبير للمنتجين المحليين. وفيما يتعلق بالموارد المائية، ساهمت الدراسات في توجيه السياسات المتعلقة بإدارة الطلب على المياه، وتحسين اللوائح التنظيمية، وزيادة الإمدادات، مع التأكيد على أهمية الاستغلال الأمثل للمياه كعنصر حيوي للتنمية الاجتماعية والاقتصادية. [14]
وقد كان لحسابات رأس المال الطبيعي في زامبيا تأثير مباشر على خطة التنمية الوطنية الحالية، حيث تم دمج الاستدامة والإدارة الفعّالة للموارد الطبيعية ضمن أولوياتها الأساسية. وتؤكد وزارة المالية في زامبيا أن التركيز الضيق على الناتج المحلي الإجمالي وحده “لن يضمن التنمية المستدامة التي نطمح إليها كدولة”[15]، مما يعكس رؤية وطنية أوسع تدمج بين الاقتصاد والاستدامة البيئية.
وقد برز التوافق الدولي المتنامي بشأن ضرورة أخذ رأس المال الطبيعي في الحسبان وقياسه بطرق منهجية خلال مؤتمر الأمم المتحدة للتنوع البيولوجي (COP15) عام 2022 في مونتريال. وقد اتفق المشاركون على تبني هدف رئيسي يلزم الشركات الكبرى بالإفصاح عن المخاطر والتأثيرات المتعلقة بالتنوع البيولوجي بحلول عام 2030. [16] ومن المتوقع أن يتم الاستناد في تحقيق هذا الهدف على توصيات فرقة العمل للإفصاحات المالية المتعلقة بالطبيعة (TFND)، وهي مبادرة عالمية مدعومة من قبل برنامجين تابعين للأمم المتحدة، بالإضافة إلى عدد من المنظمات غير الحكومية الكبرى وحكومات دول مثل الولايات المتحدة، والمملكة المتحدة، والنرويج، وسويسرا.
وقد وصف برنامج الأمم المتحدة للبيئة التوصيات النهائية لفرقة العمل للإفصاحات المالية المتعلقة بالطبيعة، والتي نُشرت في عام 2023،[17] بأنها “إطار غير مسبوق” سيمكن الشركات من “تقييم وإدارة والإفصاح عن المخاطر والتأثيرات المتعلقة بالطبيعة”، مما يسهم في توحيد معايير إعداد التقارير المالية والبيئية على مستوى العالم. [18]
وقد دمج الاتحاد الأوروبي بعض جوانب هذه التوصيات ضمن متطلبات الإفصاح التنظيمي في دول الاتحاد، كما أعربت دول مثل المملكة المتحدة عن نيتها النظر في إدراجها ضمن التشريعات الوطنية.[19]
وتُؤكد أهمية هذه التوصيات حقيقة أن أكثر من 400 شركة[20]، بما فيها بنك أوف أمريكا، وجلاكسو سميث كلاين (GSK)، وأيكيا، وسوني[21]، قد اختارت بالفعل تبني هذه التوصيات طوعاً، مما يعكس تحوّلاً عالمياً نحو دمج الاعتبارات البيئية في القرارات المالية والاستثمارية.
الاتجاهات المستقبلية
يشير الزخم المتزايد وراء توصيات فرقة العمل للإفصاحات المالية المتعلقة بالطبيعة إلى أن الشركات ستواجه مطالب متزايدة في السنوات القادمة لتضمين قضايا رأس المال الطبيعي في استراتيجياتها، مع ضرورة قياسها والإفصاح عنها بشكل دوري. وفي الاتحاد الأوروبي، يتجسد هذا التحوّل من خلال مجموعة من المبادرات التنظيمية الحديثة، مثل لائحة حظر إزالة الغابات، التي ستدخل حيز التنفيذ في ديسمبر 2024. وستُلزم هذه اللائحة الشركات التي تتاجر بسلع مثل الماشية، البن، زيت النخيل، والأخشاب، بضمان أن منتجاتها لم تُنتج عبر عمليات إزالة حديثة للغابات أو أي انتهاكات بيئية ذات صلة. [22] وعلاوة على ذلك، أقر الاتحاد الأوروبي في عام 2024 قانون استعادة الطبيعة الذي يحدد أهدافاً قانونية ملزمة لاستعادة 20% من النظم البيئية المتدهورة بحلول عام 2030، مع استعادة جميع النظم البيئية المتدهورة بحلول عام 2050. [23]
ووفقاً للبنك الدولي، فإن الاهتمام المتزايد برأس المال الطبيعي لا يقتصر فقط على الوفاء بالالتزامات التنظيمية، بل يفتح أمام الشركات فرصاً اقتصادية واعدة. وفي تقريره لعام 2023، أشار البنك إلى أن معظم دول العالم لا تزال تعاني من أوجه قصور كبيرة في إدارة التنوع البيولوجي، وتخزين الكربون، والزراعة. [24] وخلص التقرير إلى أن معالجة هذه القضايا يمكن أن توفر حلولاً شاملة للعديد من التحديات الاقتصادية والبيئية العالمية. على سبيل المثال، أظهر التقرير أن تحسين إدارة الأراضي والمياه والموارد الطبيعية يمكن أن يعزز دخل القطاعات الزراعية والرعوية والحراجية عالمياً بمقدار 329 مليار دولار أمريكي سنوياً. كما أشار إلى أن تبني سياسات أكثر كفاءة لمكافحة تلوث الهواء كان يمكن أن يسهم في إنقاذ عدد أكبر من الأرواح بنفس مستوى الإنفاق الحالي[25].
وفي ذات السياق، ألقى تقرير ديلويت لعام 2024 الضوء على المخاطر والفرص التي يطرحها رأس المال الطبيعي بشكل أكثر وضوحاً. [26] فقد قدر التقرير أن البنوك الأمريكية معرضة لما لا يقل عن 1.7 تريليون دولار أمريكي من القروض المكشوفة أمام قطاعات قد تتعرض لخسائر بسبب تدهور رأس المال الطبيعي، مما قد يؤدي إلى تداعيات مالية تهدد استقرار النظام المصرفي العالمي. لكن في الوقت نفسه، يسلط التقرير الضوء على فرصة كبيرة للبنوك للمساهمة في تحقيق نتائج إيجابية للطبيعة، وذلك من خلال تطوير أسواق ومنتجات مالية جديدة تدعم الاستدامة البيئية.
ورُغم التعقيدات المحيطة بهذه القضايا، تظل الرسالة الأساسية المستقاة من هذه الدراسات واضحة، وهي أن هناك حاجة ملحّة لاتخاذ إجراءات حاسمة على مستوى عالمي. ولا شك أن الإصلاحات المطلوبة ستتطلب استثمارات ضخمة وجهوداً مضنية، لكن تكلفة عدم اتخاذ أي إجراء ستكون بلا شك أعلى بكثير، مما يهدد المستقبل الاقتصادي والبيئي على حد سواء.
[1] https://openknowledge.worldbank.org/entities/publication/855c2e15-c88b-4c04-a2e5-2d98c25b8eca
[2] https://www.science.org/doi/10.1126/sciadv.adh2458
[3] https://www.stockholmresilience.org/research/research-news/2023-09-13-all-planetary-boundaries-mapped-out-for-the-first-time-six-of-nine-crossed.html
[4] https://www.mckinsey.com/capabilities/sustainability/our-insights/nature-in-the-balance-what-companies-can-do-to-restore-natural-capital
[5] https://openknowledge.worldbank.org/server/api/core/bitstreams/9f0d9a3a-83ca-5c96-bd59-9b16f4e936d8/content
[6] https://www.mckinsey.com/capabilities/sustainability/our-insights/nature-in-the-balance-what-companies-can-do-to-restore-natural-capital
[7] https://www.mckinsey.com/industries/agriculture/how-we-help-clients/natural-capital-and-nature/our-insights/companies-are-broadening-their-commitments-to-nature-beyond-carbon
[8] https://www.loreal.com/-/media/project/loreal/brand-sites/corp/master/lcorp/documents-media/publications/l4f/loreal-for-the-future–booklet.pdf?rev=265bdbc0ded24a95b3aae0aba278b8bd&hash=81C863AF659C16D7C5550B0F4976B910
[9] https://www.loreal-finance.com/en/annual-report-2023/social-environmental-performance/
[10] https://corporate.walmart.com/purpose/esgreport/environmental/regeneration-of-natural-resources-forests-land-oceans
[11] https://www.mckinsey.com/industries/agriculture/how-we-help-clients/natural-capital-and-nature/our-insights/companies-are-broadening-their-commitments-to-nature-beyond-carbon
[12] https://www.mckinsey.com/capabilities/sustainability/our-insights/nature-in-the-balance-what-companies-can-do-to-restore-natural-capital
[13] https://www.worldbank.org/en/topic/natural-capital
[14] https://thedocs.worldbank.org/en/doc/715311a974bb3e6d778110c8cfbdce0d-0320052023/original/zambia.pdf
[15] https://www.worldbank.org/en/news/feature/2022/11/18/in-zambia-natural-capital-accounts-ensure-future-prosperity-for-all
[16] https://www.cbd.int/article/cop15-final-text-kunming-montreal-gbf-221222
[17] https://tnfd.global/recommendations-of-the-tnfd/
[18] https://www.unepfi.org/themes/ecosystems/tnfd-final-recommendations/
[19] https://www.whitecase.com/insight-alert/eight-things-know-about-taskforce-nature-related-financial-disclosures
[20] https://www.edie.net/more-than-400-firms-adopt-tnfd-recommendations-for-nature-disclosure
[21] https://www.edie.net/hundreds-of-businesses-to-adopt-taskforce-on-nature-related-financial-disclosures-recommendations/
[22] https://www.whitecase.com/insight-alert/10-key-things-know-about-new-eu-deforestation-regulation
[23] https://www.iucn.org/news/202406/eu-adopts-its-new-nature-restoration-law
[24] https://openknowledge.worldbank.org/entities/publication/855c2e15-c88b-4c04-a2e5-2d98c25b8eca
[25] https://openknowledge.worldbank.org/entities/publication/855c2e15-c88b-4c04-a2e5-2d98c25b8eca
[26] https://www2.deloitte.com/us/en/insights/industry/financial-services/sustainable-banking-for-nature-positive-outcomes.html