ثمة الكثير من المعلومات والأرقام المعلنة، وغيرها الكثير من السياسات والبرامج المعقدة والرؤى والمبادئ حول تغيّر المناخ، وكلها مفيدة دون شك، و ضرورية بكل تأكيد. لكن المشكلة تكمن في أننا، وفي خضم هذا التعقيد الأكاديمي البحت، قد نتناسى أو نتغافل عن أبسط الحقائق حول ظاهرة الاحتباس الحراري، وهي أن كوكبنا، كما نعرفه، بات عرضة لخطر محدق ووشيك يضع المجتمع بأكمله على حافة عواقب وخيمة لا تحمد عقباها، ليس أقلها زوال نظامنا الاقتصادي العالمي.

ولقد كتبت سابقاً وتناولت ما تحدثه  أزمة  المناخ من تغييرات في النظام البيولوجي لبيئتنا الطبيعية، وفي أنماط الطقس، وكيف أنها تتسبب في رفع درجات الحرارة وتهدد أنظمتنا الغذائية والمائية. في الحقيقة، ليست سبل عيشنا ومنازلنا ومجتمعاتنا هي الوحيدة التي تواجه هذا التهديد الوجودي. ولا أبالغ بقولي أن بلدان بأكملها يمكن أن تختفي من الخريطة، بعد أن تغمرها البحار الآخذة في الارتفاع باستمرار على كوكبنا المنكوب.

قد تبدو الصورة قاتمة كما لو كانت جزءاً من فيلم خيال علمي بائس، لكن ما ذكرتُه يحدث حرفياً. ولنأخذ مثالاً جزر المالديف، وهي أرخبيل في المحيط الهندي تشتهر بأنها وجهة فاخرة لقضاء العطلات. لكنها، وقبل نحو 14 عاماً، وجدت نفسها منخرطة في قلب النقاش الدائر حول تغيّر المناخ.

جمهورية المالديف، الدولة الجزرية المرجانية المنخفضة المعرضة للاختفاء،  كما تُرى من الفضاء. مصدر الصورة:  وكالة ناسا

في ذلك الوقت، عقد رئيسها، محمد نشيد، بالإضافة إلى 11 وزيراً ونائب الرئيس وسكرتير مجلس الوزراء، اجتماعاً وزارياً لمدة 30 دقيقة في قاع بحيرة عمقها أربعة أمتار. وكانت المشاهد التي بُثَت لجميع أنحاء العالم يومها تُظهر لافتة مكتوبة عليها “نداء استغاثة”. وكان أبرز ما أثير  بقوة في هذا الاجتماع هو أن جزءاً كبيراً من جزر المالديف سيختفي تحت الأمواج إذا ما استمر تغيّر المناخ وارتفاع منسوب مياه البحر بنفس الوتيرة دون تدخل منّا لكبح جماحه.

ربما بدا هذا العمل السياسي المسرحي أكثر انسجاماً مع المتظاهرين الشباب من السياسيين الجادين، لكنه لفت الانتباه ليس فقط إلى جزر المالديف ولكن أيضاً إلى محنة البلدان والمناطق المنخفضة في جميع أنحاء العالم، مما أسفر عن وضع جدول أعمال أصبح أكثر أهمية في السنوات التي تلت ذلك. جاء تنظيم ذلك الحدث قبل قمة الأمم المتحدة لتغير المناخ في كوبنهاجن، وأتاح وقتها للرئيس نشيد منبراَ ليعلن أمام الجميع أنه “إذا غرقت جزر المالديف، فإن الكثير من مناطق العالم ستلقى المصير نفسه.[1]

في الولايات المتحدة، يعيش ما يقرب من 30% من السكان في المناطق الساحلية، حيث يتسبب ارتفاع مستوى سطح البحر في حدوث الفيضانات، وتآكل الشواطئ، وتفاقم المخاطر الناجمة عن العواصف.

وعلى الصعيد العالمي، تقع 8 من أكبر 10 مدن في العالم بالقرب من الساحل، وفقاً لأطلس الأمم المتحدة[2] للمحيطات. لكن الدول الجزرية المنخفضة، مثل جزر المالديف، هي التي تقف الآن على خط المواجهة في هذه المعركة.

الحضارات المفقودة في عصور ما قبل التاريخ

صحيح أن هذه ليست المرة الأولى التي يواجه فيها العالم خطر ارتفاع منسوب سطح البحر بصورة تؤدي فعلياً إلى غرق الأراضي المأهولة بالسكان – لكن هذه الكارثة لم تحدث منذ آلاف السنين، وربما منذ أكثر من 8000 سنة في الواقع[3]. مثلاً، كانت دوجرلاند منطقة شاسعة تمتد على مساحة  تعادل 46,620 كيلومتراً مربعاً بين بريطانيا والبر الرئيسي الأوروبي، قبل أن تغمرها المياه نتيجة ذوبان الأنهار الجليدية في العصر الجليدي وتغرقها تماماً ليتشكل بذلك ما يُعرف اليوم باسم بحر الشمال[4].

لطالما كانت هناك أساطير عن المدن الغارقة، مثل أتلانتس، وعوالم تحت الماء، لكن هذه الأساطير اليوم في طريقها إلى أن تصبح حقيقة واقعة، لا سيما في ظل ارتفاع مستويات سطح البحر بوتيرة أسرع من أي وقت مضى على مدى الستة آلاف سنة الماضية، حيث ارتفع مستوى سطح البحر العالمي من 5 إلى 8 بوصات (13-20 سم) في المتوسط عما كان عليه في عام[5] 1900.

ربما يكون من حسن حظنا أن أدوات قياس مستوى سطح البحر العالمي أصبحت  أكثر دقة بكثير مما كانت عليه قبل 25 عاماً. فبعدما كنّا نعتمد في الماضي على مقاييس المد والجزر المثبتة على هياكل صلبة مثل الأرصفة، أصبحنا الآن نستخدم الأقمار الصناعية التي تُرسل إشارات رادارية باتجاه الساحل وتستقبل الإشارات المنعكسة من السطح البحري والساحل[6]. وعلى أية حال، فإن مقاييس المد والجزر والأقمار الصناعية، كلاهما يُظهر أن منسوب البحر لا يرتفع وحسب، بل وبوتيرة أسرع. ولنا أن نعرف مثلا أنه بين عامي 1900 و 2000، ارتفع مستوى سطح البحر العالمي بين 0.05 بوصة (1.2 ملليمتر) و 0.07 بوصة (1.7 ملليمتر) سنوياً في المتوسط. وفي التسعينيات، قفز هذا المعدل إلى حوالي 3.2 ملليمتر في السنة[7].

وإن كان هذا يعني شيئاً فهو أن البلدان المتمركزة حول الجزر المرجانية والأرخبيلات كلها معرضة لخطر الزوال. وتقع معظم هذه المناطق، المنخفضة والمهددة بشكل مباشر، في المحيط الهادئ والمحيط الهندي وتشمل كيريباتي وجزر المالديف وفيجي وبالاو وميكرونيزيا وجزر سليمان وسيشيل وجزر مضيق توريس وتوفالو وجزر مارشال وجزر كارتيريت.

ولعل جزر كارتيريت في بابوا غينيا الجديدة تضع بين أيدينا مثالاً واضحاً لما يخبئه المستقبل لبقية المناطق. تتألف هذه الجزيرة المرجانية حالياً من خمس جزر منخفضة متناثرة على شكل حدوة حصان بطول 19 ميلاً. وتشير التقديرات بالفعل إلى أن مساحة اليابسة في الجزر قد تقلصت إلى أقل من 40% مما كانت عليه في الأصل ــ عندما كانت هناك سبع جزر. وبالنتيجة، أُجبر العديد من السكان إما على مغادرة منازلهم إلى أراضٍ مرتفعة أو النزوح إلى مكان آخر. ولهذا السبب تحديداً، حضرت أورسولا راكوفا من «منظمة إعادة التوطين في الجزر»، الدورة السابعة والعشرين لمؤتمر الأطراف «كوب 27» في مصر عام 2022 لجمع مساعدات قدرها مليوني دولار أمريكي لنقل 350 أسرة إلى البر الرئيسي.

استراتيجيات المستقبل

بالنسبة لمعظم البلدان المتضررة، يكمن الحل طويل المدى في خفض انبعاثات غازات الدفيئة ووقف ارتفاع مستويات سطح البحر، ولكن ربما أن يكون الوقت متأخراً جداً للقيام بذلك في بعض البلدان. بدايةً، ينجم ارتفاع منسوب البحار عن مزيج من العوامل المختلفة، بما فيها ارتفاع درجة حرارة المحيطات، وذوبان الأنهار الجليدية – خاصة من الصفائح الجليدية الضخمة في غرينلاند وأنتاركتيكا. وقد تستمر هذه الآثار والتهديدات لفترة طويلة بعد توقف انبعاثات غازات الدفيئة التي يسببها الإنسان. وهذا لأن وقف ذوبان الصفائح الجليدية، على وجه الخصوص،  قد يكون مستحيلاً بعد أن تدور عجلة الذوبان. وحتى بعد استقرار درجات الحرارة العالمية وانخفاضها إلى عتبة درجتين مئويتيّن حسب اتفاق باريس للمناخ، فإن الانحباس الحراري المستمر حتى هذه اللحظة قد يُزعزع استقرار الأنهار الجليدية إلى حد أن وقف استمرار فقدان الجليد قد يصبح متعذراً في المستقبل البعيد.

وعلى أية حال، فالجزر المعرضة للخطر  لا بُد  وأن تشرع الآن في التخطيط لمستقبلها المرتقب.

فعلى المدى القصير، تحتاج هذه الجزر إلى إيجاد طريقة للتكيف مع ارتفاع منسوب مياه البحر والحد من تعرضها للمخاطر. وعلى المدى الطويل، تبحث الجزر عن حلول تضمن لمواطنيها أولاً أماكن آمنة للعيش، ثم عن وسائل تكفل الحفاظ على كل من الحقوق القانونية والإرث الذي صنع هؤلاء السكان يوماً عندما كانت بلادهم لا يزال لها وجود فعلي على اليابسة. ولأنها تدرك حجم التكلفة الباهظة لأي من الحلول التي يمكن أن تنتشلها من هذا الوضع، تطالب الدول الجزرية الصغيرة بقوة بتحميل البلدان التي استفادت من أسباب تغير المناخ تكلفة التصدي للآثار البيئية المحتملة في الجزر.

الحد من التعرض للمخاطر

يُعد استصلاح الأراضي وبناء الجدران البحرية والشعاب الاصطناعية من بين بعض الحلول التكنولوجية التي يمكنها التخفيف من حدة الأزمة، ولكن على المدى القصير فقط.

وثمة مبادرة أطلقتها جزر المالديف مؤخراً تقوم على التوسع في إنشاء مزيد من الأراضي. ففي عام 2022، أقرت حكومة جزر المالديف مخططاً لحماية الشواطئ واستصلاح الأراضي[8] باستخدام الرمال المجروفة من البحيرة. وسيُسهم هذا المشروع في استحداث 194 هكتاراً من الأراضي، تضم ثلاثة منتجعات جديدة من فئة الأربع نجوم في الجزيرة المرجانية الجنوبية لمدينة أدو. وتفيد الدراسات الأولية أن المشروع سيكلف حوالي 147.1 مليون دولار أمريكي وسيتم تمويله عبر بنك اكسيم الهندي (Exim Bank)، نيابة عن حكومة الهند[9].

ولكن يبقى أن هذه الحلول تشوبها بعض السلبيات كما هو الحال مع العديد من التدابير والتدخلات العلاجية. ومن المفارقات أن أول هذه السلبيات ينعكس أولاً على الجانب البيئي. فوفقاً لفان أورد، المقاول الهولندي المكلف بتنفيذ المشروع، سيتم تجريف ما يصل إلى 5 ملايين متر مكعب من الرمال من بحيرة في وسط الجزر الست، والتي يقطنها ما لا يقل عن 20 ألف شخص. وتشير تقديرات أخرى إلى أن كمية الرمال المراد إزالتها تبلغ 6.9 مليون متر مكعب. وهنا يحتج أنصار البيئة بأن تجريف كل هذه الرمال سيؤدي إلى رفع الرواسب التي يمكن أن تخنق النظم البيئية القريبة وتؤثر على قدرتها على التعافي على المدى الطويل، في حين أن الاستصلاح يمكن أن يدفن نحو 21 هكتاراً من الشعاب المرجانية و 120 هكتاراً من مروج الأعشاب البحرية.

كما عزز القائمون على التخطيط قدرة الجزر الحالية في البلاد على الصمود من خلال إنشاء جزر جديدة، على غرار هولهومالي[10]، وهي جزيرة اصطناعية شيدت حديثاً وتم تصميمها لتخفيف الازدحام في العاصمة ماليه. بدأ العمل على إنشاء الجزيرة في عام 1997 في بحيرة قريبة من المطار، وتوسعت منذ ذلك الحين لتصبح مساحتها الآن 4 كيلومترات مربعة، مما يجعلها رابع أكبر جزيرة في جزر المالديف. وفي المقابل، تضخم عدد سكان هولهومالي إلى أكثر من 50,000 شخص، ومن المتوقع أن ينتقل 200,000 شخص آخر إلى هناك في نهاية المطاف.

ترتفع الجزيرة الجديدة، التي تم بناؤها عن طريق ضخ الرمال من قاع البحر إلى منصة مرجانية مغمورة، حوالي مترين فوق مستوى سطح البحر، أي حوالي ضعف ارتفاع ماليه نفسها. ومن شأن هذا الارتفاع الإضافي أن يجعل الجزيرة ملاذاً للملديفيين الذين سيُضطرون في النهاية إلى مغادرة الجزر المنخفضة بسبب ارتفاع منسوب مياه البحار. وقد تكون الجزيرة الجديدة أيضاً وجهة للإخلاء أثناء الأعاصير وموجات العواصف المستقبلية[11].

وليست هولهومالي بالجزيرة الوحيدة في جزر المالديف التي شهدت تغييرات كبيرة منذ التسعينيات. فقد ساهمت مشاريع الاستصلاح في توسيع العديد من الجزر المرجانية الأخرى بطرق مماثلة في العقود الأخيرة. ومن بينها بحيرة[12] ثيلافوشي الواقعة في الغرب والتي تحولت إلى مكب سريع النمو للنفايات؛ وجولهيفالهويا، التي تشهد مشروعاً آخر لاستصلاح الأراضي يفتح مساحات صناعية جديدة.

الحواجز البحرية

غالباً ما يُشار إلى الحواجز البحرية كحل محتمل آخر لحماية المناطق المنخفضة من زحف البحار، لكن الأمر ينطوي على تبعات سلبية أيضاً؛ حيث تحذر الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ التابعة للأمم المتحدة من أن استخدام الحواجز البحرية كوسيلة للحماية من ارتفاع مستوى سطح البحر وهبوب العواصف يمكن أن يؤدي إلى نتائج عكسية[13]، وهذا لأنها يمكن أن تسبب في كثير من الأحيان مشاكل تفوق ما يمكنها حله عن طريق التدخل في النظام البيئي الساحلي المحلي. ليس هذا وحسب، بل يمكن أن تزيد أيضاً من مخاطر الفيضانات من خلال إجبار المياه المرتفعة على إيجاد منافذ أخرى للتدفق إلى اليابسة. وهذا فضلاً عن أن الحواجز الشاطئية يمكن أن تمنع الحيوانات البحرية، مثل السلاحف، من الوصول إلى أجزاء من الشاطئ لمواصلة التكاثر.

وثمة أيضاً أدلة[14] قوية على أن الحواجز البحرية قد تعيق العمليات الطبيعية التي يمكن أن تجعل الجزر المرجانية أكثر مقاومة لارتفاع مستوى سطح البحر، على غرار تلك الموجودة في المحيط الهادئ وجزر المالديف. ووفقاً للدراسات، فإن معظم الجزر المرجانية في جزر المالديف وأماكن أخرى إما أنها ظلت مستقرة أو نمت بشكل أكبر في العقود الأخيرة. وقد أجرى باحثون من جامعة بليموث بالمملكة المتحدة دراسة[15] تستند إلى نموذج مصغر لجزيرة فاتاتو في توفالو جنوب المحيط الهادئ. وخلصت الدراسة إلى أن العواصف والفيضانات التي تجتاح الجزر يمكن أن تنقل الرواسب البحرية إلى سطح الجزيرة، مما يؤدي إلى زيادة ارتفاع الجزيرة تدريجياً، لكن الحواجز البحرية من شأنها أن تحول دون حدوث ذلك.

وفي هذا الصدد، يقول جيرد ماسيلينك، المؤلف المشارك لدراسة بليموث: “إن الجزر المحاطة بالكامل بجدار بحري لن تكون قادرة على التكيّف مع ارتفاع مستوى سطح البحر حال منع حدوث الفيضانات، وهذا ببساطة لأن الفيضانات هي التي تجلب الرواسب اللازمة لبناء الجزيرة “. ومن المحتمل جداً أن تصبح هذه الجزر غير صالحة للسكن في غضون 20 إلى 50 عاماً أو نحو ذلك، ما لم يتم إدخال تعديلات على الحواجز البحرية للتعامل مع ارتفاع مستوى سطح البحر.”

ويرى الخبراء أن الحلول القائمة على الطبيعة مثل أشجار المانغروف تتفوق[16] بشكل عام على الهياكل الصلبة مثل الحواجز البحرية والسدود في التعامل مع ارتفاع مستوى سطح البحر، فضلاً عن أنها عادة ما تكون أقل تكلفة. لكن زراعة أشجار المانغروف ليست ممكنة دائماً، لا سيما في المناطق الحضرية. وفي سبيل الاستفادة من مزايا الطريقتيّن معاً، يدرس المهندسون مزيجاً من الحلول الخضراء والرمادية، مثل الحواجز البحرية المزودة بحزام من أشجار المانغروف في المقدمة.

حلول مبتكرة

قد يكمن أحد الخيارات الواعدة في ترميم الشعاب المرجانية الاصطناعية لتقليل ارتفاع الأمواج وتثبيت عرض الشاطئ[17]، على غرار ما حدث في مشروع تجريبي في الولايات المتحدة، والذي استخدم “كرات الشعاب المرجانية” لإنشاء شعاب مرجانية اصطناعية. وكرات الشعاب المرجانية هي عبارة عن أنصاف كرات خرسانية مزودة بثقوب تسمح للأسماك والحياة البحرية الأخرى بالسباحة من خلالها. وكشف المشروع الذي جرى تنفيذه في ولاية كونيتيكت[18]، وهو واحد من عدة مشاريع مماثلة في جميع أنحاء البلاد، عن أن الكرات كانت مجدية في تقليل ارتفاعات الأمواج بمقدار النصف وتخفيض طاقة الأمواج بمعدل أكبر، وذلك ببساطة عن طريق كسر الأمواج قبل وصولها إلى الشاطئ.

وثمة طريقة أخرى يجري تجربتها وتعتمد على “مواكبة التدفق” وبناء الهياكل القادرة على الطفو.

وقد تمكنت جزر المالديف، باعتبارها واحدة من أغنى الجزر المهددة، من إبرام شراكة مع شركة ووتر ستوديو ودوكلاندز الهندسية الهولندية لإنشاء مدينة المالديف العائمة[19].

وسيتم تشييد المشروع على بحيرة مساحتها 200 هكتار بالقرب من ماليه، وسيضم 5,000 منزلاً عائماً منخفض الارتفاع على الواجهة البحرية بمساحة تصل إلى 100 متر مربع لكل منها، وسيتم تزويد كل منزل برصيف للمراكب الصغيرة ملحق بواجهته وشرفة على سطحه. وسيتم تشييد المدينة على سلسلة من الهياكل العائمة سداسية الشكل بحيث تطفو إلى الأعلى مع ارتفاع مستويات سطح البحر. وبالتزامن مع ذلك، ستؤدي ضفاف المرجان الاصطناعية المرتبطة بالجانب السفلي إلى تحفيز نمو المرجان الطبيعي.

يمكن للهندسة المعمارية العائمة أن تحمي المدن من ارتفاع مستوى سطح البحر. مصدر الصورة:  Waterstudio.NL/Dutch Docklands

صيانة التراث

ربما تحمل التكنولوجيا والابتكار في طيّاتها الحل الناجع للجزر التي تسعى إلى التعايش مع ارتفاع منسوب مياه البحر، ولكن في الوقت نفسه، تتطلع بعض الجزر إلى ما هو أبعد من ذلك من خلال البحث عن حلول أخرى تكفل لهم الحفاظ على الوضع القانوني للجزر وتراثها. وهذا لأن الدول الجزرية عادةً ما تجد نفسها مضطرة للتعامل مع الوضع المحتمل إذا ما أضحت أراضيها، مثل دوجرلاند، عبارة سلسلة من الضفاف الرملية والصخور. والسؤال المثار هنا هو: هل سيستمر النظر إليها كدولة ذات سيادة بعد أن تغمرها المياه؟

بالنسبة لسكان جزر المحيط الهادئ المتضررين، فإن الجواب هو “نعم” بشكل قاطع. ففي عام 2022، أطلقت توفالو وجزر مارشال مبادرة الأمم الصاعدة (RNI) في مقر الأمم المتحدة[20]، وهي عبارة عن مزيج من التدابير الوقائية العملية والمستقبلية، وتستهدف على وجه الخصوص حشد الدعم الدولي لإطلاق برنامج شامل لبناء وتمويل مشاريع التكيّف والقدرة على الصمود التي من شأنها أن تساعد في الحفاظ على سبل عيش المجتمعات المحلية في مواجهة تغير المناخ. وتهدف المبادرة في الوقت ذاته إلى الحفاظ على تراثها التاريخي والثقافي من خلال إنشاء مستودع حيّ للثقافة والتراث الفريديّن لكل دولة جزرية مرجانية في المحيط الهادئ، ومن ثم توفير الدعم للحصول على تصنيف اليونسكو للتراث العالمي. وبنفس القدر من الأهمية، تسعى المبادرة كذلك إلى انتزاع إعلان سياسي من المجتمع الدولي يضمن الحفاظ على سيادة وحقوق الدول الجزرية المرجانية في المحيط الهادئ[21].

حماية السيادة

ثمة مسألة قانونية محل جدل هنا، وهي تتعلق تحديداً بمصير الحقوق التي كان يتمتع بها السكان على أرض الجزر المهددة بالغرق تحت المياه، حال انتقالهم إلى مكان آخر. على سبيل المثال، ماذا لو تم العثور على رواسب معدنية ثمينة، فإلى من ستعود ملكيتها؟

وقد أبدى منتدى جزر المحيط الهادئ[22]، وهو هيئة إقليمية تضم 18 دولة وإقليماً من جزر المحيط الهادئ، موقفه بوضوح إزاء هذه المسألة الجدلية، وذلك عندما أعلن في عام 2022 أن الحدود البحرية لجزر المحيط الهادئ ستظل ثابتة بغض النظر عن أي تغييرات في حجم أو شكل الجزر مستقبلاً، بحيث يتم ترسيم هذه الحدود استناداً إلى حجم الكتل البرية للبلدان الأعضاء بموجب اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار. لكن المسألة ما زالت مثار جدل كبير في أروقة الهيئات الدولية المختصة.

ومن حسن الحظ أن هناك سوابق دولية من هذا النوع. ففي عام 2022، قدم فريق بحثي[23] تابع للجنة القانون الدولي، دراسة تتضمن بدائل تهدف إلى حماية وضع الدول التي قد تفقد أراضيها بسبب ارتفاع مستوى سطح البحر. وكان من أبرز الأمثلة التي تناولتها الدراسة دولة الفاتيكان (الكرسي الرسولي) ومنظمة فرسان مالطة التي تتمتع بسيادة مستقلة، وكلاهما يتمتعان بشكل من أشكال الشخصية الاعتبارية الدولية على الرغم من عدم وجود إقليم محدد لكل منهما. واقترحت الدراسة إمكانية تطبيق نفس المفهوم على الدول الجزرية المعرضة للغرق، مما يكفل استمرارية الدولة – حتى وإن لم يكن لتلك الدولة وجود فعلي على الأرض.

وعلى سبيل المثال، فقد سلكت فانواتو مساراً قانونياً دفع محكمة العدل الدولية[24] إلى توضيح آلية تطبيق القوانين الدولية الحالية بغيّة معالجة تداعيات تغيّر المناخ، حيث طالبت بإصدار “رأي استشاري غير ملزم” بشأن التزامات الدول بموجب القانون الدولي بحماية حقوق الأجيال الحالية والمستقبلية من الآثار الضارة لتغير المناخ. ومن شأن ذلك أن يعزز الإطار القانوني المتعلق بتغير المناخ ويشجع البلدان على اتخاذ تدابير أكثر جدوى.

ومع أن ارتفاع منسوب سطح البحر يُهدد العديد من الجزر المنخفضة في العالم، لكن فعالية الحلول المطبقة حتى الآن تفتح أمامنا بارقة أمل للخروج من هذا النفق المظلم. فالمدن العائمة، على سبيل المثال، لا تتطلب أي استصلاح للأراضي، ما يعني أن تأثيرها سيكون ضئيلاً على الشعاب المرجانية، بل وسيحفز نمو الشعاب المرجانية العملاقة الجديدة لتصبح هي نفسها حواجز مائية[25]. وكما قال رئيس المالديف السابق نشيد: “إذا لم يكن في إمكاننا وقف الأمواج، فلربما يمكننا أن نرتفع معها.”

تُظهر الأفكار المبتكرة على غرار الجزر العائمة أيضاً الدور الذي يمكن أن يلعبه رأس المال الخاص من خلال مستثمريّ القطاع الخاص الذين يمكنهم تبني استراتيجيات ربحية طويلة الأجل بدلاً من السعي إلى جني أرباح على المدى القصير، مع التركيز  على دعم التكنولوجيا المبتكرة التي تحدث فرقاً ملموساً في مواجهة تحدٍ بات وشيكاً إلى حد يصعب تفاديه. وعلينا كذلك ألا نتغافل عن حقيقة أن العديد من مدننا الأكثر اكتظاظاً بالسكان والمناطق الأكثر إنتاجية تقع فعلياً تحت مستوى سطح البحر، وأن العائد على أي استثمار لن يكون مالياً وحسب، بل قد يكون وجودياً أيضاً.

 

[1] https://www.theguardian.com/world/2009/oct/11/mohamed-nasheed-maldives-rising-seas

[2] https://www.climate.gov/news-features/understanding-climate/climate-change-global-sea-level

[3] https://education.nationalgeographic.org/resource/doggerland/

[4] https://www.newscientist.com/article/2261173-tiny-island-survived-tsunami-that-helped-separate-britain-and-europe/

[5] https://ocean.si.edu/through-time/ancient-seas/sea-level-rise

[6] https://www.weforum.org/agenda/2022/09/rising-sea-levels-global-threat/

[7] https://ocean.si.edu/through-time/ancient-seas/sea-level-rise

[8] https://www.theguardian.com/environment/2022/may/23/maldives-plan-to-reclaim-land-for-tourism-could-choke-the-ecosystem#:~:text=The%20low%2Dlying%20island%20nation,on%20this%20Unesco%20biosphere%20reserve.

[9] https://storymaps.arcgis.com/stories/bc6264e026ad4fa3afbf6f8b1c794cf1

[10] https://earthobservatory.nasa.gov/images/148158/preparing-for-rising-seas-in-the-maldives

[11] https://earthobservatory.nasa.gov/images/148158/preparing-for-rising-seas-in-the-maldives

[12] https://earthobservatory.nasa.gov/images/148158/preparing-for-rising-seas-in-the-maldives

[13] https://www.climatechangenews.com/2022/03/03/scientists-warn-seawalls-can-make-rising-waters-worse-in-the-long-run/

[14] https://earthobservatory.nasa.gov/images/148158/preparing-for-rising-seas-in-the-maldives

[15] https://www.newsweek.com/coral-reef-islands-doomed-sea-level-rise-scientists-1509915

[16] https://www.ipcc.ch/srocc/chapter/chapter-4-sea-level-rise-and-implications-for-low-lying-islands-coasts-and-communities/

[17] https://www.ipcc.ch/srocc/chapter/chapter-4-sea-level-rise-and-implications-for-low-lying-islands-coasts-and-communities/  4.4.2.3

[18] https://www.scientificamerican.com/article/reef-balls-gain-traction-for-shoreline-protection/

[19] https://www.weforum.org/agenda/2021/05/maldives-floating-city-climate-change/

[20] https://apnews.com/article/united-nations-general-assembly-drowning-island-nations-75f5390daf98d1d385da7dd4a869ae09

[21] https://climatemobility.org/rising-nations-initiative/#:~:text=The%20Rising%20Nations%20Initiative%20puts,%2C%20rights%2C%20culture%20and%20heritage.

[22] https://www.pbs.org/newshour/world/amid-rising-seas-island-nations-push-for-legal-protection

[23] https://www.pbs.org/newshour/world/amid-rising-seas-island-nations-push-for-legal-protection

[24] https://www.pbs.org/newshour/world/amid-rising-seas-island-nations-push-for-legal-protection

[25] https://www.independent.co.uk/travel/news-and-advice/maldives-floating-city-climate-change-b2108523.html