يمكن للذكاء الاصطناعي أن يحدث تغيرات جذرية في طرائق عملنا. كما يمكنه أن يحول  الكثير من المهام التي تحتاج حاليا إلى العمالة البشرية إلى الأتمتة. وبينما يذهب  بعض الخبراء إلى  أن الإنسان سيفقد العديد من الوظائف خلال العقود القادمة بسبب  الذكاء الاصطناعي، يعتقد آخرون أن الذكاء الاصطناعي سيخلق فرص عمل جديدة ويحفز الإنتاجية.

يبدو الكلام مقنعا، أليس كذلك؟ وسيصبح أكثر إقناعا عندما تعلم أن هذه الفقرة ليست نتاجا بشريا، فهي مكتوبة بتقنية الذكاء الاصطناعي، وتحديداً من خلال روبوت الدردشة المعروف باسم ChatGPT.

خرج روبوت الدردشة ChatGPT، المطور من قبل اوبن ايه اي OpenAI ، للجمهور الذي استقبل فكرته باستحسان وحماس، في نوفمبر 2022. وهو يستخدم نموذجاً كبيراً للغة يقوم بمعالجة اللغات الطبيعية. إنه فرع من فروع الذكاء الاصطناعي يركز على  تحليل اللغات وفهمها والتواصل بها.

تم إعداد تقنية الذكاء الاصطناعي (جي بي تي-3) من خلال التدريب على كم هائل من البيانات وردود أفعال  المستخدمين لغرض محاكاة أسلوب البشر. وبإمكان هذه التقنية صياغة أو انتاج أي شيء عند الطلب بدء من وصفات الطبخ وحتى كتابة السير الذاتية (حتى لوكان ذلك مطلوبا بأسلوب شكسبير أو الشعر الجاهلي[1]). إذ يمكن لهذه التقنية القيام بالعديد من المهام مثل الترجمة، وتحليل المشاعر، وكتابة مقدمات المقالات حول الذكاء الاصطناعي، كما يمكنها إنشاء رموز اعتماداً على علامات نصية بسيطة. إنها واحدة من أكبر وأقوى نماذج الذكاء الاصطناعي لمعالجة اللغة حتى الآن، وهي مزودة بـ 175 مليار  بارامترات.[2]

أعد صياغة هذا الشكل باسلوب عبد اللطيف جميل. العنوان: كيف يعمل ال ChatGPT؟ المصدر: أوبن أيه أي

يبدو أن الحاسوب يتعدى على المهام المعقدة التي كنا نعتقد من قبل أنها خالصة للبشر (ويشمل ذلك أساليب المراوغة الاحترافية التي نراها في  عالم الدبلوماسية[3]).

وفي الوقت نفسه، تستثمر مايكروسوفت ما يصل إلى 10 مليارات دولار أمريكي في أوبن ايه أي OpenAI، وهي الشركة التي تقف وراءChatGPT[4]. ويعتمد تاريخ البشرية بدء من المطبعة ووصولا إلى الكمبيوتر و الآلات التي يمكنها القراءة والكتابة وانتاج الفنون الجميلة، على الابتكار التكنولوجي والأتمتة. فهل سيصبح مستقبلنا جزءاً من عالم الذكاء الاصطناعي؟ عالم الأعمال يؤكد ذلك.

الذكاء الاصطناعي … خطوة ذكية

يشير استطلاع للرأي أجرته شركة ماكنزي للاستشارات عن وضع الذكاء الاصطناعي في عام 2022[5] إلى  أن اعتماد الذكاء الاصطناعي قد تزايد بأكثر من الضعف بين عامي 2017 و 2022 ،  حيث أكد 50٪ من المشاركين أنهم يعتمدون استخدام الذكاء الاصطناعي في مجال عمل واحد على الأقل من مجالات الأعمال. كما تضاعف متوسط عدد قدرات الذكاء الاصطناعي لكل مؤسسة ليرتفع من 1.9 في عام 2018 إلى 3.8 في عام 2022. وتظل أتمتة العمليات الروبوتية والرؤى الحاسوبية تتصدر القائمة، بينما صعدت عمليات معالجة اللغات الطبيعية إلى المركز الثالث في عام 2018 بعد أن كانت في منتصف القائمة.

لماذا كل هذا الاهتمام بالذكاء الاصطناعي؟

يمكن للذكاء الاصطناعي تحليل كم هائل من البيانات فضلا عن أتمتة العمليات وتقديم الرؤى والتوصيات التي تمكّن الشركات من تحري الدقة وتحقيق الكفاءة وزيادة الإنتاجية وتحسين عملية اتخاذ القرارات وتيسير عملية إدارة الأفراد وخلافه – وقائمة إمكانات الذكاء الاصطناعي جد طويلة.

من ناحية أخرى، قد يسهم الذكاء الاصطناعي في زيادة الإيرادات وخفض التكاليف في العديد من المجالات. وفي عام 2018، مثل التصنيع والمخاطر الأهداف الأهم على الإطلاق. ولكننا الآن نرى الايجابيات في مجالات المبيعات والتسويق وتطوير المنتجات والخدمات ووضع الاستراتيجيات وتمويل الشركات، ويأتي ذلك كله مصحوباً بتراجع التكلفة إلى أقل حد ممكن في سلاسل التوريد.

ووفقًا لتقرير برايس ووترهاوس كوبرز، يمكن أن يسهم الذكاء الاصطناعي بما يصل إلى 15.7 تريليون دولار أمريكي في الناتج المحلي الإجمالي العالمي بحلول عام [6]2030. وما من شك أن ابتكار بهذا الحجم من شأنه أن يعالج مشكلة تراجع إنتاجية العمال وأن يحقق انتعاشاً اقتصادياً على مستوى العالم، الذي لا يزال يحاول التعافي من تأثيرات الجائحة والأزمة المالية التي شهدها في عام 2007-2009.

وتشمل مجالات تطبيقات الذكاء الاصطناعي:

  • الرعاية الصحية: ويتضمن ذلك تحليل الصور الطبية والتنبؤ بنتائج المرضى وزيادة دقة التشخيص (ويشمل ذلك على سبيل المثال: تحليل الأشعة السينية وتحديد الأمور غير العادية التي قد تشير إلى حالة مرضية معينة). وقد قامت شركات الأدوية مثل شركة موديرنا بتسخير الذكاء الاصطناعي لغرض تطوير اللقاحات المضادة لفيروس كورونا[7]، وفي عام 2020، توصلت عيادة جميل في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا لمادة “هاليسين” Halicin من خلال نماذج التعلم الآلي والذكاء الاصطناعي.
  • المالية: ويتضمن ذلك تحليل البيانات المالية، وتقديم التوصيات فيما يتعلق بالاستثمار، واكتشاف أنماط المعاملات المشبوهة، ومواجهة عمليات الاحتيال. ووفقا لموقع Business Insider  بيزنيس انسيدر، يمكن للذكاء الاصطناعي أن يوفر للبنوك ومؤسسات الشركات ما يقدر بـ447 مليار دولار أمريكي بحلول عام 2023[8].
  • التصنيع: ويتضمن ذلك تحسين مراقبة الجودة، وزيادة الإنتاج، والتنبؤ باحتياجات الصيانة (على سبيل المثال، مراقبة معدات الإنتاج وتحديد المقدمات التي قد تشير إلى مشكلات محتملة). ويعتبر مصنع “جيجا فاكتوري” Gigafactory من “تسلا” Tesla نموذجا ثوريا للأتمتة التي تأتي مدفوعة بالذكاء الاصطناعي.
  • البيع بالتجزئة: جعل تجربة كل عميل تجربة فريدة خاصة به، وتحسين إدارة الأسعار والمخزون، وعمليات التسويق (ويشمل ذلك على سبيل المثال: تحليل بيانات مشتريات العملاء، والتوصية بمنتجات للعملاء بناءً على مشترياتهم السابقة). وتمكّن تقنية العلامة البيضاء Just Walk Out من Amazon Go العديد من تجار التجزئة من التعامل مع المتاجر التي ليس لديها صراف.
  • النقل واللوجستيات: ويتضمن ذلك إدارة سلاسل التوريد، والتنبؤ بالطلبات، وإصدار التعليمات لروبوتات المستودعات، وتمهيد الطرق، وتعزيز السلامة، والحد من استهلاك الوقود (فعلى سبيل المثال، يمكن للذكاء الاصطناعي تحليل بيانات حركة المرور في الوقت الفعلي والتوصية بالرحلات الأكثر كفاءة أو الأقل استهلاكاً للوقود لشاحنات التوصيل). وقد استخدمت “وول مارت” محاكاة سلسلة التوريد بالذكاء الاصطناعي لإعادة توجيه عمليات التسليم بسرعة والتنبؤ بتغيرات الطلبات بعد أن أجبر إعصار إيان مركز توزيع رئيس في فلوريدا على الإغلاق.[9]
  • المبيعات والتسويق: ويتضمن ذلك إنشاء المحتوى وتعزيز القدرة التنافسية وتحقيق تجارب أفضل للعملاء وإدارة العلاقات معهم (ويشمل ذلك، تحليل البيانات لتحسين عملية استهداف العملاء وتقديم قدر أكبر من التخصيص عبر روبوتات الدردشة). وتستخدم أداة التحليل السحابية Einstein Analytics التي اطلقتها سيلز فورس الذكاء الاصطناعي لغرض توقع سلوكيات العملاء وتقديم التوصيات.

وتسعى مؤسسة عبد اللطيف جميل إلى البحث في كيفية الاستفادة من الميزات الهائلة التي يقدمها الذكاء الاصطناعي في المجتمعات والاسواق التي تخدمها حول العالم. فيقع الذكاء الاصطناعي في الصميم من عدد من تقنيات الرعاية الصحية التي تقوم شركة عبد اللطيف جميل للرعاية الصحية بالاستثمار فيها، ويشمل ذلك  جهاز الموجات فوق الصوتية المحمول “باترفلاي آي كيو بلاس” Butterfly iQ+TM وتقنية “هولوآيز”  Holoeyesللواقع الممتد –  وهي تقنية جراحية تقوم على بيئة افتراضية ثلاثية الأبعاد.

ومن مشروعات عبد اللطيف جميل الأخرى، شركة فوتواتيو لمشاريع الطاقة المتجددة ((FRV (وهي جزء من شركة عبد اللطيف جميل للطاقة)، والتي أطلقت من خلال ذراع المؤسسة المعني بالابتكار FRV-X ، وهي تسخر أيضاً تقنيات الذكاء الاصطناعي في نشر برنامج “تسلا” Tesla المستخدم في أنظمة تخزين البطاريات في المملكة المتحدة (“هولز باي”، دورست، “كونتيجو”، “ويست سوسيكس”، “كلاي تاي”، “إيسيكس”)، وفي “تيرانج” في استراليا وفيكتوريا، ومحطة هجينة في دالبي Dalby ، كوينزلاند.

من ناحية أخرى، قامت ألمار لحلول المياه، وهي أيضاً جزء من شركة عبد اللطيف جميل للطاقة، بالاستثمار مؤخراً في إحدى شركات التكنولوجيا التي تقدم منتجات وخدمات إنترنت الأشياء التي تقوم على الذكاء الاصطناعي من أجل تحقيق التحول الرقمي في قطاعات المياه والطاقة والتنقل “داتاكورم”. وقد حصلت “داتاكورم”في وقت لاحق على مشروع مدته 5 سنوات مع شركة الاتصالات الرائدة “إي آند إنتربرايز” (والمعروفة سابقاً باسم اتصالات الرقمية) وذلك لغرض تيسير عملية التحول الرقمي لأنظمة إدارة المياه والطاقة في مدينة أبو ظبي، بالإمارات العربية المتحدة.

كتاب ممارسات الذكاء الاصطناعي

رواد الذكاء الاصطناعي في المقدمة، والمتقاعسون سيواجهون صعوبات متزايدة في اللحاق بهم. فلماذا؟ لأنهم يتمتعون، وفقًا لماكنزي، بميزة المبادرة، والنظرة المستقبلية، والاستثمار أكثر بحكمة أكبر، مع جذب أفضل المواهب واتباع مجموعة حديثة من المبادئ من أجل التأسيس للذكاء الاصطناعي والارتقاء به. وتتضمن هذه “الممارسات التأسيسية” ربط استراتيجية الذكاء الاصطناعي بنتائج الأعمال وفهم كيفية إدماج الذكاء الاصطناعي في العمليات التجارية واتخاذ القرار، مع جعل الأولوية لاكتساب المواهب والتدريب وضمان التعاون المشترك بين الذكاء الاصطناعي والبشر من أجل زيادة قيمة الأعمال. 

وهناك أيضاً العديد من “الممارسات الفاصلة” التي تعزز تطوير الذكاء الاصطناعي ونشره على نطاق واسع فيما يسمى بـ”تصنيع الذكاء الاصطناعي”. وتتضمن تلك الممارسات ما يلي:

  • بيانات ذات جودة عالية وهيكل معياري للبيانات يمكنه أن يستوعب التطبيقات الجديدة بمرونة وأن يحول العمليات المتصلة بالبيانات إلى الأتمتة.
  • الاستعانة بموظفين غير تقنيين ببرامج ذات أكواد منخفضة أو دون أكواد.
  • التدرج بأدوات قياسية ومنصات داخلية من طرف لآخر.
  • تحويل الأكواد إلى أصول من أجل إعادة استخدامها في تطبيقات مختلفة.
  • تقليل المخاطر عن طريق تطوير سياسات الخصوصية والعدالة، على سبيل المثال.

حتى وإن أتيت متأخراً، فلن تبدأ من الصفر!

حسن الإدارة، حسن أداء الأعمال

يمكن للذكاء الاصطناعي أن يرصد الظروف الخطرة ويحسن من الصيانة الوقائية من أجل تهيئة بيئات عمل أكثر أمناً (أو إبعاد البشر عن المناطق الخطرة بالكامل). كما يمكن استخدامه لتعزيز التدريب والتطوير. فعلى سبيل المثال، تستخدم شركة التكنولوجيا العملاقة “هني ويل” تكنولوجيا التعرف على الصور التي تعتمد على الذكاء الاصطناعي من أجل تقديم دورات تدريبية على الواقع الافتراضي للموظفين الجدد.[10]

وبفضل الذكاء الاصطناعي، تخرج لنا وظائف جديدة، بدء من أدوار ترتبط بالذكاء الاصطناعي نفسه أو حتى وظائف جديدة تُستحدث بفضل النمو الذي يتحقق مدفوعا بالذكاء الاصطناعي. ويتيح الذكاء الاصطناعي لأشكال الحياة التقليدية ذات الأساس الكربوني (أي، البشر) التركيز على المهام الأكثر تعقيداً وإبداعاً، بما في ذلك الوظائف غير القائمة بعد، وذلك بسبب أتمتة مجموعة واسعة من المهام. كما يمكن للذكاء الاصطناعي أن يحول جوانب التوظيف والتعيين وتقييم الأداء والاستعانة بالموظفين إلى الأتمتة. وهذا يشمل، على سبيل المثال، استخدام روبوت الدردشة لمقابلة المرشحين للوظائف المختلفة وتحليل البيانات بشأن الحضور والإنتاجية وإرضاء العملاء من أجل توفير تقييم أكثر موضوعية للأداء. كما أن آلية “إدارة الخوارزميات” يمكنها أن تطور من سبل الإدارة وتحمي من التحيز. ومع ذلك، فقد تزيد من التمييز وتنتهك حقوق العاملين، كما سنرى بعد قليل.

عالم جديد شجاع … والمخاوف االقديمة  لا تزال قائمة

قبل أن تنهض الروبوتات وتقضي على الجنس البشري، كما يريد أن يقنعنا بعض المؤمنين بفناء البشرdoomsayers، تواجه الشركات العديد من العقبات المقلقة التي أصبحت أكثر إلحاحاً، والتي لم يحسم أغلبها بعد.

أولاً، الذكاء الاصطناعي ليس سهلاً. فالخوارزميات تتطلب بيانات تدريب هائلة وقد يصعب تعميمها على حالات الاستخدام. كما أن الموهبة نادرة. فالشركات تحتاج إلى مدراء وواضعي استراتيجيات يتحلون بالخبرة اللازمة، بالإضافة إلى الخبرة الفنية الرقمية العامة والخاصة بمجال الذكاء الاصطناعي، بما في ذلك مهندسي البرامج الذين يمكنهم تطوير الواجهات الأمامية البديهية للمستخدمين غير التقنيين من أجل التفاعل مع الخوارزميات.

وبالنسبة للوظائف الأخرى…

بعضها سوف يتغير، والبعض الآخر سيختفي. ويعتبر العمل اليدوي في البيئات التقليدية في خط الهجوم الأول، وحتى العاملين الذين يتمتعون بالمعرفة اللازمة يواجهون الخطر نفسه. وكمثال على ذلك، يساعد الذكاء الاصطناعي أطباء الأشعة حالياً في تحليل الصور، وهذا الأمر في تطور مستمر. فماذا سيحدث عندما يزيد اعتمادنا على الذكاء الاصطناعي باستمرار؟ وكذلك، فمن المقلق بعض الشيء لمن يعتمد على الكتابة لكسب رزقه أن يرى التوجه الحالي لاستخدام نماذج اللغات الضخمة.

Over the edge!  © Warner Bros.

وقال د. جيوفري هينتون، عالم نفس معرفي وعالم كمبيوتر في جامعة تورنتو واستشاري لألفابت، الشركة الأم لجوجل[11]: “يجب أن نتوقف عن تدريب أطباء الأشعة الآن. إذا كنت طبيب أشعة، فحالك اليوم كحال القيوط ويلي إي في مسلسلات الرسوم المتحركة لنقار الخشب؛ وكأنك على حافة الجرف، ولكنك لم تنظر للأسفل”.[12]

وسيحتاج الكثيرون إلى تغيير وظائفهم سواء داخل المنظمات أوالقطاعات أوعبر المناطق الجغرافية. ومن المنتظر أن يتراجع النشاط البدني في البيئات المهيكلة وكذا في مجالات جمع البيانات ومعالجتها. في الوقت نفسه، سيظل الإنسان مسيطراً على الأنشطة والوظائف المعقدة في البيئات المادية (ويعتبر ذلك خبراً ساراً للمدراء وأخصائيين التدليك على حد سواء).

ويذهب المؤيدون إلى أن المستقبل سيشهد تعاوناً بين الذكاء الاصطناعي والبشر – وهو ما نراه الآن في العديد من السياقات – وسيتحول البشر من عاملين إلى مديرين، كيفما أصبح عمال روافع أمازون مشغلين للروبوتات[13]. ورغم كل شيء، لا يمكن أتمتة سوى 5٪ فقط من الوظائف بالكامل بواسطة التقنيات الحالية.

ويؤكد آخرون أن كل ذلك ما هو إلا أماني. إذ تتطور التكنولوجيا بسرعة كبيرة، وسيحل الذكاء الاصطناعي حتماً محل البشر حيثما تكون الأتمتة ممكنة. فوفقاً لبعض التقديرات، يمكن أن يؤدي الذكاء الاصطناعي والأتمتة إلى تشريد حوالي 400 مليون عامل بين عامي 2016 و2030.

وفي كلتا الحالتين، سيعتبر تطوير المهارات وإعادة صقلها أمراً ضرورياً. وبطبيعة الحال، سيزداد الطلب على أصحاب الخبرات الرقمية وخبرة الذكاء الاصطناعي. ولكن ثمة مهارات أخرى ستزداد أهميتها مع سيطرة الذكاء الاصطناعي على المزيد من الأنشطة وتشغيلها آلياً. وتشمل هذه المهارات: المهارات الاجتماعية والعاطفية والمعرفية المتقدمة، مثل الإبداع والتفكير النقدي.

زملاء عمل لا منافسون

لكن المستقبل لن يكون قاتماً إلى هذا الحد. إذ تشير أحدى الدراسات الاستقصائية التي أجرتها مجموعة بوسطن للاستشارات[14](BCG)  إلى أن الذكاء الاصطناعي ينطوي على العديد من الايجابيات سواء للأفراد أو المؤسسات، حيث أكد 60٪ من المشاركين في الدراسة إنهم يشعرون أن أدوات الذكاء الاصطناعي تساعدهم وكأنها زملاء لهم في العمل. وواقع الأمر أن  الذكاء الاصطناعي قد أصبح  جزءاً لا يتجزأ من منتجات الشركات والمستهلكين على حد سواء، حتى أنه بات أمراً مسلماً به. وعلاوة على ذلك، تحقق المؤسسات التي يعمل بها موظفون يستفيدون من تقنيات الذكاء الاصطناعي عوائد مالية أكبر 5.9 مرات مقارنة بالمؤسسات التي لا يحقق فيها الموظفون أية استفادة من الذكاء الاصطناعي. ولذا يتعين على المدراء الذين يرغبون في زيادة عوائد الاستثمار اعتماداً على الذكاء الاصطناعي أن يعملوا على زرع الثقة وتعزيز الفهم ونشر الوعي بأهميته بين الموظفين. فمن خلال  “الذكاء الاصطناعي يستطيع المرء أن يحقق مصيره، إذ سيساعده ذلك على زيادة كفائته واستقلاليته وعلى بناء علاقات أقوى” ، حسبما جاء في التقرير.

وماذا عن الاجور؟

إذا كان الذكاء الاصطناعي والأتمتة يؤديان المهام بشكل أسرع وأقل تكلفة وأكثر أماناً وموثوقية، فمن المحتمل أن يتراجع الطلب على العمالة البشرية، وكذلك الرواتب. وقد تزداد الوظائف ذات الأجور المرتفعة، ولكن العديد من الوظائف “الآمنة” – التي لا يمكن أتمتتها – كالتمريض، منخفضة الأجر. وقد يؤدي ذلك كله إلى غياب العدالة فيما يتعلق بالأجور وانتشار الاضطرابات السياسية والاجتماعية.

من المنتظر أن يكون هناك حاجة متزايدة للدعم المالي وشبكات الأمان لتعويض تأثير الأتمتة، ويشمل ذلك على سبيل المثال: الدخل الأساسي الشامل، وهو راتب يحصل عليه جميع المواطنين كما أوصى المرشح الرئاسي الأمريكي السابق أندرو يانج. من ناحية أخرى، يجب على الحكومات إطلاق المزيد من الأعمال الأساسية والمؤثرة والمستدامة من خلال الاستثمار في البنية التحتية والتكيف مع تغير المناخ.

الأخلاق في مقابل الخوارزميات

تثير استخدامات الذكاء الاصطناعي العديد من التساؤلات والمخاوف الأخلاقية التي يجب معالجتها. وتستدعي النقاط التالية اهتمام الإنسان وانتباهه:

  • الإنصاف والعدالة: قد تؤدي أنظمة الذكاء الاصطناعي القائمة على بيانات انحيازية إلى معاملة البعض بطريقة تفتقر إلى العدالة والإنصاف. ويمكن تجنب ذلك من خلال بيانات التدريب المتنوعة والاختبارات القوية وتدابير المساءلة.
  • الشفافية وقابلية التفسير: العديد من خوارزميات التعلم الآلي، مثل النماذج الأساسية، عبارة عن صناديق سوداء لا يمكن تفسير قراراتها. ولكننا لن نقبل أن “الكمبيوتر يقول لا” بلا سبب. وتعمل وكالة الدفاع الأمريكية DARPA على تطوير خوارزميات يمكنها “شرح الأسباب، وتحديد نقاط القوة والضعف، ونقل فهماً لكيفية التصرف في المستقبل”.[15]
  • المساءلة. يجب أن تكون أنظمة الذكاء الاصطناعي مسؤولة عن قراراتها وأفعالها. ويجب على الشركات تحديد نطاق أنظمة الذكاء الاصطناعي وحدودها ووضع سياسات وإجراءات واضحة لضمان استخدامها بمسؤولية، مع الاستفادة من الإشراف البشري وآليات معالجة النتائج السلبية.
  • الخصوصية. سيعمل الذكاء الاصطناعي على تعزيز مراقبة مكان العمل من خلال قدرته على تحليل البيانات المكتوبة واللفظية وحتى الايماءات لغرض تقييم الحالة المزاجية للعمال وإنتاجيتهم. ويتعين على الشركات تحديث سياسات وإجراءات حوكمة البيانات الخاصة بها وذلك لضمان التعامل مع البيانات الشخصية بمسؤولية وبما يتفق مع قوانين الخصوصية ذات الصلة.
  • السلامة. يعمل الذكاء الاصطناعي والأتمتة بشكل عام على تحسين السلامة عن طريق ابعاد العمال عن المناطق الخطرة. ولكن بالطبع لا ينبغي على المؤسسات أن تخاطر بأي حال من الأحوال، لا سيما فيما يتعلق بالمركبات ذاتية القيادة والروبوتات التعاونية (cobots) . فعمليات مراجعة معايير الصحة والسلامة بانتظام جد ضروري.
  • الأمن والمرونة. تعد أنظمة الذكاء الاصطناعي، وكذا البيانات التي تستخدمها وتنتجها أهدافاً ذات قيمة هائلة بالنسبة للمجرمين وأجهزة الاستخبارات والموظفين الساخطين على بيئة عملهم. ويمكن للكوارث الطبيعية أن تعرض البنية التحتية للخطر أو تدمرها. ويعد الأمن السيبراني والمرونة من أهم أولويات الشركات والحكومات على حد سواء.

معالجة المخاطر

على الرغم من اعتماد استخدام الذكاء الاصطناعي على نطاق واسع، إلا أن ذلك لم يقابله زيادة في معدلات الحد من المخاطر على مدارالسنوات القليلة الماضية. ألم يحن الوقت كي تتحرك الحكومات وصانعو السياسات؟

يؤكد التقرير الرسمي الذي أصدرته منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية عن كيفية ضمان أن يظل الذكاء الاصطناعي جديراً بالثقة[16]، أن معظم المشكلات المتعلقة به يمكن معالجتها من خلال تطبيق السياسات واللوائح القائمة، والتي تشمل مكافحة التمييز وحماية البيانات (ويشمل ذلك على سبيل المثال، اللائحة العامة لحماية البيانات) والتصدي للممارسات الخادعة، والتأكيد على الحق في اتخاذ الإجراءات القانونية الواجبة – واستخدام كل تلك السياسات واللوائح كأساس لوضع سياسات جديدة لحماية العمال.

ويسعى قانون الذكاء الاصطناعي الخاص بالاتحاد الأوروبي[17] إلى تصنيف وتقييم أنظمة الذكاء الاصطناعي التي يتم استخدامها في التوظيف، وحظر بعضها وإخضاع البعض الآخر لمتطلبات قانونية تتعلق بحماية البيانات والشفافية والرقابة البشرية. ففي الولايات المتحدة، تطلب بعض الولايات موافقة المتقدمين لشغل وظيفة على الخضوع لأدوات التعرف على الوجه أثناء عملية التوظيف، كما يحيل مجلس مدينة نيويورك عمليات التدقيق الخاصة بالتحيز الخوارزمي إلى “أدوات قرار التوظيف الآلية”.

عندما تحكم الروبوتات العالم

يعد الذكاء الاصطناعي ظاهرة عالمية. ومن المنتظر أن تستفيد منه جميع البلدان والقطاعات، لا سيما تلك التي بها أجور مرتفعة نسبياً. وبحلول عام 2030، من الممكن أن تحل الأتمتة محل ما نسبته 20٪ إلى 25٪ من القوى العاملة في دول مثل فرنسا واليابان والولايات المتحدة – وهو ما يمثل أكثر من ضعف المعدل في الهند[18].

ونظرًا للأهمية الاستراتيجية والاقتصادية للذكاء الاصطناعي، تلجأ الحكومات في الصين وأمريكا وبقية دول العالم إلى استراتيجيات مختلفة من أجل التشجيع على استخدام الذكاء الاصطناعي. وتعمل الصين، من خلال خطة تطوير الجيل الجديد من الذكاء الاصطناعي[19]، على وضع إعفاءات ضريبية وحصص دعم فضلاً عن زيادة الإنفاق على البحث والتطوير بنسبة تزيد عن 7٪ كل عام لتصبح رائدة عالمياً في مجال الذكاء الاصطناعي. كما قامت الحكومة أيضاً بوضع لوائح لتشجيع مشاركة البيانات بين الشركات بغرض تعزيز تطوير الذكاء الاصطناعي. أما في الولايات المتحدة، فتقوم الحكومة بتمويل المؤسسات الأكاديمية والمراكز البحثية إلى جانب تخفيف اللوائح المتعلقة باستخدام الذكاء الاصطناعي في بعض الصناعات مثل المركبات ذاتية القيادة. وبالمثل، تسعى الاستراتيجية الأوروبية الخاصة بالذكاء الاصطناعي إلى جعل الاتحاد الأوروبي مركزاً عالمياً للذكاء الاصطناعي والتأكد من أن الذكاء الاصطناعي مجال يخدم الإنسان وجدير بالثقة[20].

وثمة أيضاً العديد من المنظمات الدولية التي تعمل عبر مستويات مختلفة من الحكومات والمنظمات غير الحكومية والأطراف المعنية في القطاع الخاص من أجل معالجة الآثار الأخلاقية والاجتماعية والاقتصادية التي تترتب على استخدام الذكاء الاصطناعي، وكذا من أجل تمويل الأبحاث، وتعزيز التطوير والاستخدام المسؤول للذكاء الاصطناعي. وتشمل هذه البرامج برنامج “هورايزون 2020” Horizon 2020 التابع للاتحاد الأوروبي، والشراكة العالمية للذكاء الاصطناعي (GPAI)، ومنتدى التعاون في مجال الذكاء الاصطناعي (FCAI)، والشراكة بشأن الذكاء الاصطناعي. ويتبع مرصد سياسة الذكاء الاصطناعي التابع لمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية سياسات الذكاء الاصطناعي في البلدان الأعضاء ويحللها، والجدير بالذكر أن العديد منها يستخدم إرشادات منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية الخاصة بالاستخدام المسؤول للذكاء الاصطناعي. وفي ديسمبر 2020، اعتمدت الجمعية العامة للأمم المتحدة قراراً بشأن تعزيز استخدام الذكاء الاصطناعي من أجل التنمية.

كيف يجب أن تستعد الشركات للذكاء الاصطناعي؟

بالطبع، لا يوجد طريق واحد لتحقيق النجاح في مضمار الذكاء الاصطناعي. فكل شركة سيتعين عليها إيجاد طريقها الخاص للاستفادة من إمكانات الذكاء الاصطناعي  بشكل جديد يتخطى مجرد تدمير النماذج القديمة.

وقد يأتي الحل من الذكاء الاصطناعي نفسه؟ فهذا ما قاله  روبوت الدردشة ChatGPT عندما سئُل عن الطريقة المثلى التي يجب أن تتبناها الشركات لإعداد نفسها لثورة الذكاء الاصطناعي:

نصائح غالية… ولكن ما من حاسوب – مهما كانت قدراته الهائله – يمكنه التنبؤ بالمستقبل (حتى الآن).

ولحسن الحظ، لا يتطلب الأمر سوى القليل من التفكير المنطقي كي ندرك أن الذكاء الاصطناعي قد غير بالفعل شكل عالم الأعمال التجارية إلى الأبد. والأمر متروك لنا كي نتأكد من أن هذه التغييرات ستكون نعمة … لا نقمة.

 

[1] https://www.economist.com/business/2022/12/08/how-good-is-chatgpt

[2] https://www.sciencefocus.com/future-technology/gpt-3/

[3] https://www.economist.com/science-and-technology/2022/11/23/another-game-falls-to-an-ai-player

[4] https://www.bloomberg.com/news/articles/2023-01-23/microsoft-makes-multibillion-dollar-investment-in-openai

[5] https://www.mckinsey.com/capabilities/quantumblack/our-insights/the-state-of-ai-in-2022-and-a-half-decade-in-review

[6] https://www.pwc.co.uk/services/economics/insights/the-impact-of-artificial-intelligence-on-the-uk-economy.html

[7] https://sloanreview.mit.edu/audio/ai-and-the-covid-19-vaccine-modernas-dave-johnson/

[8] https://www.businessinsider.com/ai-in-banking-report?r=US&IR=T

[9] https://www.supplychaindive.com/news/walmart-grocery-AI-demand-operations/585424/

[10]  https://www.forbes.com/sites/sharongoldman/2020/12/08/how-honeywells-latest-yr-based-simulator-borrows-from-gaming-to-transform-industrial-training/

[11]  https://www.emjreviews.com/radiology/article/artificial-intelligence-in-radiology-an-exciting-future-but-ethically-complex-j140121/

[12] https://www.emjreviews.com/radiology/article/artificial-intelligence-in-radiology-an-exciting-future-but-ethically-complex-j140121/

[13] https://www.nytimes.com/2017/09/10/technology/amazon-robots-workers.html

[14] https://web-assets.bcg.com/b8/55/97a0dcbe42cab65ed77794cc9dfe/achieving-individual-and-organizational-value-with-ai.pdf

[15] https://www.darpa.mil/news-events/2022-03-03

[16] https://doi.org/10.1787/840a2d9f-en

[17] https://artificialintelligenceact.eu/

[18] https://www.mckinsey.com/capabilities/quantumblack/our-insights/the-state-of-ai-in-2022-and-a-half-decade-in-review

[19] https://www.unodc.org/ji/en/resdb/data/chn/2017/new_generation_of_artificial_intelligence_development_plan.html

[20] https://eur-lex.europa.eu/legal-content/EN/TXT/PDF/?uri=CELEX:52018DC0237&from=EN