رائد الأعمال الشاب عبداللطيف جميل (في الوسط) مع اثنين من رجال الأعمال السعوديين في ذلك الوقت (حوالي ثلاثينيات القرن العشرين). © عائلة جميل

ما كان الشاب عبداللطيف جميل، الذي أسس شركة تحمل اسمه في عام 1945، يتخيل التغيير الذي سيحل بالمملكة العربية السعودية، والعالم، بعد ثمانية عقود.

لكن عبداللطيف جميل كان يمتلك رؤية…

لم يكن الطريق لتأسيس شركته ممهدا سلسا، ولكنه نجح في إرساء مبادئ شركة ازدهرت عبر الأجيال … شركة  تكيفت مع متغيرات العالم سريع التطور، واحتفظت في الوقت نفسه بالقيم الأصيلة على مر العقود.

“لم تكن لدي أي أهداف وظيفية محددة، لكنني كنت أعلم جيدا أنك إن جلست ولم تبذل جهدا لن تبلغ أبدا القمة”.

“لابد من بذل الجهد؛ والقراءة كثيرًا؛ والعمل الجاد، والبحث عن التحديات والسعي وراءها، بدلاً من انتظار أن تأتي إليك”… هكذا أوضح الشيخ عبداللطيف جميل الأسباب التي دفعته إلى تأسيس شركته الخاصة أثناء لقاء مع صحيفة “عكاظ” عام 1981.

نسخة من الحوار الذي أجري مع المغفور له الشيخ عبداللطيف جميل ونشرته صحيفة عكاظ  بتاريخ 24 سبتمبر 1981. (صحيفة عكاظ هي صحيفة يومية سعودية تصدر باللغة العربية ،مقرها جدة، وصدرت عام 1960 (شقيقتها هي صحيفة سعودي جازيت). تُطبع الصحيفة في كل من الرياض وجدة في وقت واحد ولها مكاتب في جميع أنحاء المملكة العربية السعودية).

“بذل الجهد” … هذا ما فعله الشيخ عبداللطيف جميل.

واليوم، أصبحت عبد اللطيف جميل شركة كبرى متعددة الجنسيات، يعمل لديها أكثر من أحد عشر ألف موظف (يُشار إليهم بالزملاء) ينتمون لأكثر من 80 جنسية مختلفة، ويعملون في عشرات الشركات التي تنتشر في أكثر من 35 دولة في ست قارات حول العالم، وتضم مجموعة متنوعة من الثقافات. فقد نجحت الشركة في إقامة شراكات طويلة الأجل مع كيانات مرموقة على النطاق العالمي مثل تويوتا موتور كوربوريشن، وإمبريال كوليدج لندن، ومعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا في قطاعات متعددة – كالتنقل، والخدمات المالية، والاستثمار، والعقارات، والطاقة المتجددة، وخدمات المياه والبيئة، والصحة، والمنتجات الاستهلاكية، وإدارة المرافق، واستشارات الإدارة، وغيرها الكثير.

وبالطبع لم يكن كل ذلك من محض صدفة.

فعمل الشيخ عبداللطيف جميل يقوم على الفكر والقيم والسلوكيات التي لا تزال تمثل الخطوط الاسترشادية لكافة أعمال عبد اللطيف جميل حتى يومنا هذا. والكثير منها يعكس التجارب الفريدة للمؤسس الراحل وشخصيته.

“رأيتُ من إلتزموا النهج المستقيم، ومن إلتزموا الغش والتلاعب. فأما أولئك فقد ارتفعوا عالياً ثم هَوَوا إلى القاع؛ وأما الذين اختاروا السير في الطريق المستقيم فقد ارتقوا على قاعدة راسخة.” هكذا أوجز الشيخ جميل ​​نهجه الصادق في إدارة الأعمال في حوار له مع صحيفة عكاظ عام 1984.

مبادئ المؤسس ترسم ملامح المستقبل

كان الشيخ عبداللطيف جميل يؤمن بأن الغاية من الحياة تتجاوز حدود الإنجازات الشخصية، لتشمل مسؤولية أوسع نطاقا تتعلق بتلبية احتياجات الجميع، وتحسين آفاقهم، وإطلاق العنان لإمكاناتهم.

يقول الشيخ عبداللطيف جميل:

“كل منا منوط بواجبات تجاه وطنه، وعليه أن يعتبر مساعدة أفراد مجتمعه هدفًا رئيسًيا له.”

ولأنه رجل  عصامي، كان  الشيخ جميل متعاطفا دوما مع  باقي أفراد المجتمع. بدأ الشيخ عبداللطيف  جميل مسيرته المهنية على خطى والده، فاشتغل عاملاً في الجمارك ومتدرباً، ثم شق طريقه صعوداً من أدنى المراتب. وعندما شق طريقه كتاجر ناجح، لم تفارق ذهنه تلك النضالات المبكرة، وراح يرد الجميل للمجتمع الذي رعاه وأتاح له هذه الفرص. بنى الشيخ عبداللطيف جميل مساكن رائعة لأسر من عملوا لديه، هذا إلى جانب مرافق الرعاية الصحية والنوادي الاجتماعية، فأسس مجتمعات ناشئة بروح أسرية. وكانت شركته أيضاً أول شركة خاصة تؤسّس مركزاً للتدريب المهني والإداري.

وإدراكاً منه لحقيقة أن وسيلة النقل الشخصي تمنح الإنسان حرية فردية واقتصادية، سعى الشيخ عبداللطيف جميل إلى أن يجعل هذه الحرية في متناول الجميع. فكان من أوائل من ابتكروا نظام البيع بالتقسيط في مطلع ستينيات القرن العشرين، فاتحاً أبواب امتلاك سيارات تويوتا أمام الأفراد والشركات الصغيرة، حتى قبل الاعتراف الفعلي بسوق التمويل الاستهلاكي في الداخل. ومن هنا وُلدت البذرة التي أثمرت لاحقاً تأسيس شركة عبد اللطيف جميل للتمويل في المملكة العربية السعودية عام 1979، شاهدةً على رؤيته الثاقبة وريادته التي سبقت عصرها.

وفي تلك السنوات الأولى من حياته التجارية، كان من السهل على المؤسس اللإشراف بنفسه على أعماله من مكتبه، وكان يعرف جميع الموظفين بأسمائهم، ويحافظ على القيم السامية التي يعتز بها. ومع تنامي الشركة وازدهارها، بات من الصعب متابعة كل شيء، لكنه صمم على مواصلة تطبيق  مبادئ شركة عبد اللطيف جميل وقيمها الأساسية في خضم نموها.

الراحل الشيخ عبداللطيف جميل مع ابنه، ورئيس مجلس الإدارة الحالي، محمد جميل، الحاصل على وسام الإمبراطورية البريطانية (حوالي خمسينيات القرن العشرين) © عائلة جميل

شركة عبد اللطيف جميل حتى يومنا هذا شركة عائلية تمتلك ثقافة وقيم راسخة.

وتجدر الإشارة إلى أن الراحل الشيخ عبداللطيف جميل قد استثمر في تعليم أبنائه وبناته منذ الصغر، فأرسلهم إلى مصر والولايات المتحدة للدراسة، واستكمل بعضهم دراسته  لاحقًا في اليابان.

ويعكس ذلك إيمان الشيخ عبداللطيف جميل الراسخ بقيمة التعلّم على مستوى العالم و حرصه على نجاح أبنائه وبناته المستقبلي. واليوم، لا يزال ابنه وأحفاده يديرون الشركة: فمحمد جميل، حائز على وسام فارس فخري من ملكة بريطانيا (يشغل منصب رئيس مجلس الإدارة)؛ وفادي جميل (نائب رئيس مجلس إدارة العمليات الدولية)؛ وحسن جميل (نائب رئيس مجلس الإدارة بالمملكة العربية السعودية)؛ وفيصل السمنودي (رئيس مجلس إدارة  عبد اللطيف جميل للأعمال)؛ و هشام حمزة (رئيس مجلس إدارة عبد اللطيف جميل للإلكترونيات).

 

الجيلان الثاني والثالث: من اليسار إلى اليمين: محمد جميل، نجل مؤسسنا الراحل، ثم هشام حمزة، فادي جميل، فيصل السمنودي، حسن جميل، وحسين جميل — جميعهم من أحفاد مؤسسنا الراحل. © عائلة جميل.

وبوحي من رؤية المؤسس، قامت عائلة جميل بترسيخ مبادئ الشيخ وصياغتها في أربع قيم أساسية تمثل نهج الشركة فيما يتعلق بموظفيها ومعاملاتها التجارية. وهذه المبادئ لا تزال تطبق حتى يومنا هذا تماما كما كانت دوما طوال تاريخ الشركة الممتد على مدار 80 عامًا:

  • الاحترام: التعامل مع جميع الأفراد بعدل وإنصاف، سواء كان هؤلاء زملاء أو عملاء أو شركاء تجاريين.
  • التحسين: التشجيع على إجراء تغييرات تدريجية في أسلوب العمل بما يحقق  تأثيرا تراكميا ملحوظا.
  • الريادة: التشجيع والتحفيز على التفكير خارج الصندوق، وتحدي الوضع الراهن، وعدم الخوف من ارتكاب الأخطاء في خضم السعي نحو التحسين.
  • التمكين: منح الأفراد الحرية الكاملة لاتخاذ القرارات وتحمل مسؤولية أفعالهم.

إن هذه القيم، والتي تتجسد اليوم فيما يُعرف بمبادئ جميل، ساعدت الشركة على الحفاظ على جذورها على مدار عقود شهدت الكثير من التغييرات.

لقد كانت هذه الفترة إيذانا ببزوغ نجم مجتمع الأعمال العالمي، والثورات التكنولوجية، والسفر الدولي بأسعار معقولة، ودعم حقوق الإنسان، وإطالة عمر الأفراد، والتصدي لشبح تغير المناخ الكارثي.

الشغف جزءا متأصلا من الشركة الحديثة

ظلت قيم الشيخ عبداللطيف جميل ومبادئه وأخلاقياته بمثابة الخطوط الاسترشادية للشركة طيلة العقود الثمانية الماضية.

يقول الشيخ  في الحوار الصحفي: “ابحرت في الحياة بشراع الكرامة والرضا … إنهما  الثروة الحقيقية. لم أكذب  … ولم أتلاعب … ولم يُعطني أحدٌ مالًا قط“.

ولولا التزامه بالصدق والشفافية، ما كان الشيخ عبداللطيف جميل لينجح في إبرام صفقة التوزيع المهمة مع شركة تويوتا اليابانية لصناعة السيارات عام 1955 – وهي الصفقة التي عززت نمو الشركة. فمن خلال التأسيس على  قاعدةٍ قوية، وما جاء على لسان الشيخ “الالتزام بالنهج المستقيم والسير في طريق مستقيم“، نجح  الشيخ عبداللطيف جميل في كتابة  قصة نجاحٍ خالدة.

وحتى يومنا هذا، تدعم شركة عبد اللطيف جميل الأفراد من جميع الخلفيات ممن لديهم شغفٌ بتحسين حياتهم. وتسهم أنشطة الشمول المالي التي تُقدمها الشركة، من خلال توفير الاستثمارات والائتمان للأفراد في الاقتصادات الناشئة، تسهم في إطلاق العنان لإمكانات كل من لديه إرادة للعمل ودافع للنجاح. وفي الوقت نفسه، تعمل أنشطة عائلة جميل الخيرية المستقلة، بما في ذلك – على سبيل المثال – معمل عبد اللطيف جميل لمكافحة الفقر J-PAL (الذي تأسس عام 2003 في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا MIT، وتدعمه عبد اللطيف جميل منذ عام 2005)، تعمل على  تحقيق تكافئ الفرص بين الطبقات الاجتماعية والاقتصادية، مما يؤثر إيجابًا على حياة مئات الملايين حول العالم. وتجدر الإشارة إلى أن اثنان من مؤسسي معمل عبد اللطيف جميل لمكافحة الفقر، وهما أبهيجيت بانيرجي وإستر دوفلو، قد حصلا على جائزة نوبل في الاقتصاد لعام 2019  تقديرًا لنهجهما الرائد في مكافحة الفقر.

لقد كان الشيخ عبداللطيف جميل يؤمن بضرورة إتاحة الفرص للجميع، بغض النظر عن الثروة أو الخلفية أو النوع. وقد تجسد الإيمان الراسخ بضرورة تمكين المرأة في المجتمع في إنشاء أكاديمية وشركة  نفيسة شمس ( السيدة نفيسة شمس هي زوجة الشيخ عبداللطيف جميل)  وهي منظومة شاملة تضم  أكثر من 50 برنامجًا معتمدًا للتدريب والتوجيه ومهارات الأعمال وتهدف إلى تمكين النساء من المساهمة في التنمية الاقتصادية والاجتماعية بما يعود بالخير عليهن وعلى بلادهن. واليوم، تضم الأكاديمية أكثر من 80 شريكًا، وقامت بتدريب أكثر من 17,000 متدربة، وإنتاج أكثر من 1.25 مليون منتج .

وفي مقابلة صحفية له أجريت عام 1981، تحدث الشيخ عبداللطيف جميل عن مسيرة التقدم قائلاً: “مشاركة المرأة السعودية ضرورية … فنحن نعيش في عصر يتطور فيه كل شيء”. وهذا من المبادئ التي  تحترمها الشركة  حتى يومنا هذا.

في البداية: عُيّن المؤسس الراحل، عبداللطيف جميل (إلى يسار)، الموزع الرسمي لمنتجات تويوتا في المملكة العربية السعودية عام 1955. يظهر جميل في الصورة مع خالد الحبش، النائب الأول لرئيس الشركة، والسيد إينوي وزملائه ممثلين لشركة تويوتا موتور، مع سيارة تويوتا بي جيه كروزر (حوالي خمسينيات القرن الماضي). © عائلة جميل

وقد ساعدت عبد اللطيف جميل عشرات الآلاف من النساء السعوديات في الحصول على دروس قيادة بأسعار معقولة من خلال توفير أكثر من 500 سيارة تويوتا لمدارس تعليم القيادة في جميع أنحاء البلاد. وفي الوقت نفسه، وفرت مبادرة عائلة جميل المستقلة لتوفير فرص العمل والتدريب والمعروفة باسم باب رزق جميل، فرص عمل لأكثر من مليون شخص في جميع أنحاء منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، كما تخدم المبادرة أكثر من 1400 من أصحاب الأعمال، وقامت بتوفير 3 مليارات ريال سعودي في شكل قروض صغيرة للشركات الصغيرة والمتوسطة. علاوة على ذلك، تستمر مبادرة عائلة جميل لدعم ريادة الأعمال في إحراز التقدم، وقد أقامت الشركة رالي جميل الافتتاحي في عام 2013 للنساء، وهو أول رالي عالمي المستوى يقام في المنطقة من أجل النساء فقط.

ويتجلى التركيز على الابتكار التكنولوجي أيضًا في رؤية المؤسس العالمية. فسيارات الدفع الرباعي من تويوتا التي استوردها في بداية حياته المهنية كانت بمثابة الترياق المثالي لطرق المملكة الصحراوية الرملية، والتي كانت تعلق فيها السيارات العادية  بسبب الرمال في أربعينيات وخمسينيات القرن الماضي.

يقول الشيخ عبداللطيف جميل: “لم تكن سياراتنا تواجه مثل هذه المشكلات. فنظام الدفع الرباعي كفيلٌ بحل أي منها“.

وحتى بعد وفاة المؤسس في عام 1993، واصلت عبد اللطيف جميل إقامة شراكات جديدة مع شركات تصنيع السيارات الرائدة، فأبرمت صفقات توزيع في العديد من أنحاء منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. وقد ساهم استيراد السيارات في تحويل المملكة العربية السعودية من دولة تتقاطع فيها الطرق غير الممهدة إلى دولة تتمتع بشبكة من الطرق السريعة الحديثة والمطارات الدولية.

إن شغف عبد اللطيف جميل بعالم التنقّل هو إرث مستمرّ، تصونه الشركة من خلال استشراف مستقبل التنقّل، عبر استثمارات كبرى شملت شركة ريفيان الرائدة في السيارات الكهربائية، وشركة جوبي أفيايشن الأمريكية التي تطوّر التاكسي الجوي الكهربائي، ومقرها ولاية كاليفورنيا. وفي يونيو 2025، أُعلنت عبداللطيف جميل عن توقيع مذكرة تفاهم مع “جوبي” لاستكشاف فرص إبرام اتفاقية توزيع في المملكة العربية السعودية، قد تشمل ما يصل إلى 200 طائرة جوية كهربائية وخدماتها المرتبطة، بقيمة تُقدّر بنحو مليار دولار أمريكي خلال السنوات المقبلة. وعلى المدى البعيد، يتوقع الجانبان فرصاً واعدة لتحقيق إيرادات في منطقة الشرق الأوسط. كما أقدمت عبد اللطيف جميل في عام 2022 على استثمار استراتيجي في شركة “غريفز إلكتريك موبيليتي“، إحدى أبرز الشركات الهندية المصنعة للمركبات الكهربائية ذات العجلتين والثلاث عجلات، في خطوة تهدف إلى توفير حلول تنقّل مستدامة وميسورة التكلفة للمجتمعات محدودة الدخل في الدولة الأكثر اكتظاظاً بالسكان في العالم.

وانطلاقاً من هذا التوجه، شهدت توسعات الشركة مؤخراً دخولها في توزيع علامات صينية متطورة مثل إم جي موتور، وجاك موتور، وشنجان، وجيلي أوتو، إلى جانب المركبات التجارية العاملة بالطاقة الجديدة من “فاريزون أوتو” التابعة لجيلي، وعلامتي “أومودا” و”جايكو” التابعتين لمجموعة شيري. وبهذا، امتد حضور الشركة العالمي في قطاع السيارات إلى أسواق جديدة تشمل أستراليا، بولندا، جنوب أفريقيا، الإمارات العربية المتحدة، المملكة المتحدة، وأخيراً إيطاليا والعراق، فضلاً عن تواجدها القائم في المغرب، والجزائر، ومصر، وموناكو، وتركيا، (وسوريا قبل عام 2012)، والصين واليابان، والمملكة العربية السعودية حيث بدأت الحكاية مع تويوتا.

لم تكن التكنولوجيا، بالنسبة للشيخ عبداللطيف جميل، مجرد مركبات. بل كانت  بمثابة بوابة لاقتناص الفرص والتقدم نحو المستقبل .. فالشيخ عبداللطيف جميل لم ينظر للتكنولوجيا كغاية بل كوسيلة لعيش حياة أفضل له وللجميع.

واليوم، تواصل عبد اللطيف جميل شغف مؤسسها بالاستثمار في مضمار التكنولوجيا. ويظهر ذلك جليا في أنشطة شركة فوتواتيو رينيوابل فينتشرز (FRV)، وهي الشركة الرائدة في مجال الطاقة المتجددة، و جناحها الابتكاري  FRV-X. تدير شركة فوتواتيو رينيوابل فينتشرز، وهي جزء من جميل للطاقة، محفظة متنامية من مشروعات  الطاقة الشمسية الكهروضوئية المتجددة ومشروعات تخزين الطاقة في البطاريات في جميع أنحاء الشرق الأوسط وأستراليا وأوروبا وأمريكا اللاتينية، بهدف تيسير حصول الجميع على الطاقة المتجددة المجدية اقتصاديًا. كما تعمل شركة  FRV-Xعلى دراسة نماذج أعمال رقمية جديدة، وتقنيات جديدة في مجالات الهيدروجين الأخضر والأمونيا الخضراء وحلول تخزين الطاقة خلف العداد، وكفاءة استخدام الطاقة المدعومة بتقنيات الذكاء الاصطناعي.

وبالحماس نفسه، اهتمت عائلة جميل بإطلاق العنان للتكنولوجيا من خلال دعم البحوث المتطورة. فكان التعاون بين مجتمع جميل ومعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا في عام 2014 لتأسيس معمل عبد اللطيف جميل للماء والغذاء (J-WAFS)، الذي تم إنشاؤه لغرض معالجة قضايا الأمن المائي والغذائي ودعم وتسويق تقنيات الغذاء والمياه فيما يتعلق بالتحضر وتغير المناخ والزيادة السكانية. أضف إلى ذلك المنصات التي تهدف إلى التكيف مع التأثير طويل المدى لتغير المناخ، والتي نذكر منها  شبكة مرصد جميل لنظم الإنذار المبكر من تغيرات المناخ (CREWSnet).

من ناحية أخرى، كانت التكنولوجيا المحرك الرئيس لعمل شركة ألمار لحلول المياه، وهي جزء من جميل للخدمات البيئية. تأسست شركة ألمار في عام 2016 لغرض تأمين حصول المجتمعات في جميع أنحاء العالم على مياه الشرب. واليوم، وبعد النمو السريع الذي شهدته الشركة، امتد تواجد ألمار من تشيلي إلى أستراليا، وتشمل محفظتها مشروعات بنية تحتية كبرى فضلا عن خدمات المياه المتخصصة. وهي تدير تلك المشروعات وتقدم تلك الخدمات من خلال  قسم الخدمات بها. وتعد أعمال شركة ألمار واحدة من أكبر محطات تحلية المياه في العالم، وهي  محطة الشقيق التي تقع على ساحل البحر الأحمر السعودي. توفر المحطة أكثر من 450,000 متر مكعب يوميًا من المياه للسكان والأنشطة الزراعية والصناعية في محافظتي عسير وجازان، واللتين يقطنهما ما يقرب من 4 ملايين نسمة. من ناحية أخرى، تدعم محطة الزلوف لمعالجة المياه، والتي تبلغ قدرتها 185,000 متر مكعب يوميًا، تدعم مشروع مرافق الزلوف النفطية البرية في الخليج العربي. ومن المنتظر أن تجعل هذه المحطة – مع محطة الشقيق 3 – قدرة شركة ألمار على معالجة المياه تصل إلى  635,000 متر مكعب يوميًا، مما يجعلها من أبرز الجهات الفاعلة في سوق المياه في المملكة العربية السعودية.

وتشمل مشروعات  المحفظة الأخرى محطة معالجة مياه الصرف الصحي في المحرق في البحرين – وهي منشأة متطورة تبلغ قدرتها 100,000 متر مكعب يوميًا – وهي أول نظام صرف صحي يعتمد على الجاذبية ويبلغ عمقه 16.5 كم في دول مجلس التعاون الخليجي، ومشروع سينتينيلا في تشيلي، وهو عبارة عن مبادرة استراتيجية تتضمن خط أنابيب بطول 144 كم ينقل 110,678 مترًا مكعبًا من مياه البحر يوميًا على بعد حوالي 60 كم شمال موقع التعدين في ميشيلا (إلى  ميناء سينتينيلا )، بالإضافة إلى خط أنابيب جديد بطول 144 كم ينقل 56,333 مترًا مكعبًا يوميًا مما يسهل التوسع المخطط له في نويفا سينتينيلا.

ولعل مشروعات التطوير التي تشمل – على سبيل المثال – مشروع الشقيق كانت من الأهداف القريبة لقلب الراحل الشيخ عبداللطيف جميل، الذي كان دوما يعتبر الماء كنزا ثمينا في المملكة العربية السعودية. يقول جميل متذكرا طفولته والمنازل التي كانت تفتقر إلى أنظمة المياه والصرف الصحي : ” كان وصول مياه الشرب إلى المطابخ حدثا جللا، حتى أن إحدى ربات المنازل اندهشت عندما وجدت أن الماء يصل إليها بلا ملح!”.

لقد جسّدت المنازل والأندية والمرافق الطبية التي ساهم في تمويلها أو بنائها لعائلات الموظفين إيمانه العميق بأهمية المجتمع، وإصراره على مبدأ “تمكين المجتمع ليعين نفسه”، بما يمنحه الاستقلالية والقدرة على الصمود. وكانت تلك الجهود تجسيداً لمفهوم “العائلة” بمعناه الأوسع، ليتجاوز حدوده الضيقة ويشمل أحياءً كاملة ومجتمعات بأسرها.

ولا تزال أصداء هذه المبادئ تتردّد في أنشطة الشركة ومبادرات العائلة الخيرية في يومنا هذا، مع تركيز خاص على ريادة الأعمال والتعليم والصحة.

ويستشعر المرء أصداءً معاصرة لهذه المبادئ في جميع أرجاء الشركة والأعمال الخيرية التي تقوم بها العائلة والتي تركز بشكل خاص على المساعدة في توفير فرص العمل والإهتمام بالتعليم والصحة.

الشيخ الراحل عبداللطيف جميل (1909–1993) مع أحفاده حسن وفادي وحسين جميل (قرابة ثمانينيات القرن العشرين) — فقد شكّلت العائلة مبدأً جوهرياً في أعمال عبد اللطيف جميل منذ تأسيسها عام 1945. © عائلة جميل

يقدم معمل عبد اللطيف جميل العالمي للتعليم (J-WEL) ،الذي أسسه مجتمع جميل  بالتعاون مع معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا  (MIT)، برامج بحثية للمعلمين في جميع أنحاء العالم، بهدف إحداث طفرة في مضمار التعلم وتحسين المهارات. ويعكس برنامج تطوير التعليم ورسم ملامح مستقبل الأطفال والمعروف اختصارا ب EJADA، والذي كان يعرف اختصارا فيما سبق ب TREE، تعاونا بين منظمة إنقاذ الطفل ومعمل عبد اللطيف جميل العالمي للتعليم التابع لمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، وهو يتضمن تدريبًا للمعلمين لمساعدتهم على التغلب على الصدمات وتقديم تعليم فعال. وهو دليل دامغ على أن التعلم للجميع، وليس للقلة المتميزة. وتأسيسا على هذا النجاح، وعلى صعيد آخر أطلق مجتمع جميل عيادة جميل في عام 2018، بالشراكة أيضًا مع معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا. وتركز العيادة على تطوير تقنيات التشخيص المبكر والعقاقير. وقد تبع ذلك إطلاق  معهد جميل بالتعاون مع إمبريال كوليدج لندن في عام 2019، بهدف الاستفادة من الخبرات في تحليلات البيانات للمساعدة في التصدي لتهديدات الأمراض في جميع أنحاء العالم.

وسرعان ما أصبحت عيادة جميل مركزًا لتطبيقات الذكاء الاصطناعي في مجال الرعاية الصحية في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، وهي تشجع على إبداع و تبني تقنيات الذكاء الاصطناعي عالية الدقة بأسعار معقولة لإحداث ثورة في مضمار الرعاية الصحية تقوم على الذكاء الاصطناعي السريري واكتشاف الأدوية. وقد أدت أبحاث عيادة جميل إلى اكتشافات جد مهمة، شملت المضادات الحيوية الجديدة هاليسين  وأبوسين، وتطوير أدوات الذكاء الاصطناعي السريري، مثل ميراي  وسيبيل.

وفي خطوة أخرى من مسيرتها الريادية، أعلن باحثون من معمل علوم الحاسوب والذكاء الاصطناعي (CSAIL) و”عيادة جميل“،  التابعين لمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا (MIT)، وبالتعاون مع شركة التكنولوجيا الحيوية “ريكيرجن” (Recursion)، عن إطلاق نموذج “Boltz-2” مفتوح المصدر، وهو الأول من نوعه في مجال البيومولكيول. ويمثّل هذا النموذج الجيل الجديد من الذكاء الاصطناعي، محققاً أعلى مستويات الدقة في التنبؤ بالبنية الجزيئية وقوة الارتباط في وقت واحد، بسرعة غير مسبوقة تفوق الألف مرة، وبقدرة تشغيلية واسعة النطاق وبتكلفة منخفضة، ليمنح فرق البحث والتطوير أداة فعالة لترتيب الأولويات وتوجيه الموارد نحو المركبات الدوائية الأكثر قدرة على إحداث فارق في مجال الرعاية الصحية.

وبالتوازي مع ذلك، وفي ميدان الأعمال، جسّدت جميل للرعاية الصحيّة الروح ذاتها المرتكزة على المجتمع والصحة والابتكار داخل قطاع الرعاية الصحية، مع إيلاء عناية خاصة للعلاجات والمنتجات الدوائية. وقد عزّزت هذا التوجّه عبر استحواذها على شركة “جينفارم” (Genpharm)، لتجعل من علاج الأمراض النادرة محوراً جوهرياً ضمن أولوياتها الاستراتيجية.

وبروح مؤسسها، الذي تضافرت أعماله التجارية مع أعماله الخيرية، يتضح جليًا أن العديد من أنشطة عبد اللطيف جميل الحالية تتكامل وأهداف التنمية المستدامة السبعة عشر للأمم المتحدة. ويشمل ذلك الالتزام بتوفير المياه النظيفة، وضمان الحصول على الطاقة الخضراء بأسعار معقولة، و تحقيق المجتمعات المستدامة، وتقديم التعليم الجيد، و توفير الخدمات الصحية المناسبة والغذاء  للجميع.

أن كل هذه المبادرات – والتي ترسم معا ملامح عالم أكثر أمانًا وعدلًا واستدامة – ما كانت لتتحقق لولا رؤية الشيخ الراحل عبداللطيف جميل وحماسه  اللذان كانا بمثابة الشعلة التي بدأت كل شيء.

المؤسس يرسي دعائم العالم الجديد

كان الشيخ عبداللطيف جميل من أصحاب الرؤى الثاقبة الذين قلما يجود بهم الزمان: فقد كان مُبتكراً قادراً على استشراف المستقبل، ويتمتع بموهبة خارقة في تخيل مستقبل مغاير تمامًا عن العالم الذي خرج منه.

وكان يؤمن بأن:

 “كل تاجر يمر في حياته بصعوبات شاء أم أبى …أنت لا تصنع الظروف، بل هي التي تصنعك.”

كان الشيخ عبداللطيف جميل رجلاً غرست فيه أصوله ونشأته قيمة الاحترام للرجال والنساء والأسرة. وكان يؤمن بقيمة العمل الجاد والنزاهة – وهو ما فتح أمامه آفاقًا واسعة. وكان يقضي عطلات نهاية الأسبوع في صيد الأسماك مع والده قبالة سواحل جدة، مما زرع في نفسه تقديرًا عميقًا للبيئة الطبيعية. كما كان شغوفا بالتكنولوجيا ولعل ذلك ما دفعه لبناء شراكات دولية مع المبتكرين من جميع أنحاء العالم.

وقد ساهم كل ذلك في نمو كيان متعدد التخصصات أصبح اليوم عبد اللطيف جميل، وهي شركة تقوم على التكنولوجيا والاستثمار والمشروعات الخيرية.

لا شك أن عالمنا الحديث يختلف تمامًا عما كان عليه منذ ثمانية عقود مضت. ففي عام 1945، كان عدد سكان العالم حوالي ملياري نسمة. ولم يغامر سوى عدد قليل جداً من الناس بالسفر خارج موطنهم. وحتى في الدول الأوروبية المتقدمة، كان أقل من واحد فقط من بين كل خمسة بالغين يمتلك سيارة. [1]

وتجدر الإشارة أن عبداللطيف جميل أسس شركته التي تحمل اسمه في العام نفسه الذي شهد تأسيس هيئة الأمم المتحدة، فكان ذلك إيذانا بميلاد نهج جديد للتعاون ورغبة جامحة في حشد التعاطف وتعبئة الجهود الخيرية حول العالم. وقد أصبحت البشرية اليوم مجتمعًا عالميًا معقدًا ومتصلاً. فنحن منشغلون بتطوير الذكاء الاصطناعي، والتخطيط لرحلات إلى المريخ، وتبادل نحو 32 تريليون دولار أمريكي في التجارة العالمية سنويًا. [2]

نحن معًا نتشارك ثمار الفن والتجارة والعلوم والرياضة. لكننا نواجه أيضًا تحديات وجودية مثل تغير المناخ والاحتباس الحراري، وهي أزمات لم يكن من الممكن تصورها في عام 1945.

ولعل هيكل شركة عبد اللطيف جميل الذي طالما اتسم بالمرونة والتنوع، والذي يمتد عبر العديد من القطاعات والصناعات، ويشجع دوما التغييرات الطموحة، هو ما مكن الشركة من الاحتفاظ بوجودها في طليعة صفوف التقدم خلال فترة من التطور غير المسبوق.

لا تزال شركة عبد اللطيف جميل، تُجسّد حكمة الشيخ وإنسانيته وإيثاره الذي انعكس فيما قاله الشيخ في لقاء عام 1981:

يعتقد البعض أن حياتهم مقدرة لهم فقط، لكنهم لا يعلمون أن خدمة الآخرين عملٌ وواجب عظيمٌ “.

مرض الشيخ عبداللطيف جميل وتملكه حلم  إنشاء مركز غير ربحي لإعادة التأهيل يسهل الوصول إليه ويتمثل دوره في تحسين جودة حياة كبار السن في جدة بشكل كبير. وبالفعل اشترى الشيخ الأرض في عام 1994، ولكنه للأسف تُوفي قبل أن يُحقق حلمه. وقد واصل أبناؤه وعائلته العمل، وتم افتتاح مركز إعادة التأهيل الحديث عام 1997، والذي أصبح في عام 2009 مستشفى عبد اللطيف جميل للرعاية الصحية وإعادة التأهيل غير الهادفة للربح، والتي ستحتفل بالذكرى الثلاثين لتأسيسها عام 2025.

ستظل عبد اللطيف جميل واحة تضم فريقًا من الملتزمين بتحسين حياة الأفراد في جميع أنحاء العالم، وهو ما يعطي الأمل في غد أكثر إشراقًا للأجيال القادمة.

يبدو أن المستقبل سيكون مليئًا بالتحديات. ولكن بوحي من قيم المؤسس، ستمضي شركات عبد اللطيف جميل قدما وتواصل لعب دورها الريادي في مضمار الاستثمار في “البنية الأساسية للحياة” وتحقيق التغيير الإيجابي، آملين أن يستمر النجاح طوال العقود الثمانية القادمة وما بعدها، من خلال حشد الأفراد والأفكار ورؤوس الأموال والعمل معًا.

نحو غدٍ أجمل

 

[1] https://www.statista.com/statistics/1073212/europe-cars-per-thousand-people-by-region-historical/

[2] https://unctad.org/publication/global-trade-update-july-2024