كلما طالعت الصحف أو قمت بزيارة أحد المواقع الإخبارية، تجلى لي أمراً واحداً وهو أن عالمنا الحديث يواجه عدداً من المخاطر الوجودية التي قد تودي بحضارتنا إذا لم يتم التعامل معها. لا عجب إذن أن نرى تلك القضايا تستحوذ على الجانب الأكبر من اهتمام وسائل الإعلام.

على الرغم من ذلك، فإن قصر التركيز على مواجهة هذه المخاطر المهمة يعني تجاهل عدداً لا يحصى من القضايا الأخرى التي تهدد جودة حياتنا الحديثة في عصر ما بعد الصناعة.

لنأخذ التلوث الضوضائي مثالاً. قد يبدو هذا النوع من التلوث للوهلة الأولى مصدراً لمشكلة بسيطة مقارنة بالملوثات والمشكلات الأخرى التي ابتلي بها كوكبنا مثل ارتفاع مستويات ثاني أكسيد الكربون، أو التلوث البلاستيكي، أو أزمة المياه المحتدمة. لكن اعتبار التلوث الضوضائي أمر غير مهم يعني في واقع الأمر تجاهلاً لمجموعة من البيانات المثيرة للقلق.

اتظن أن أحداً لم يمت قط جراء التلوث الضوضائي؟ ياله من مفهوم مغلوط وكارثي.  ففي اوروبا وحدها، يسبب التعرض للضوضاء البيئية لفترات طويلة حوالي 12000 حالة وفاة مبكرة، كما يسهم في 48000 حالة جديدة من أمراض القلب الإقفارية (انسداد الشرايين) سنوياً.[1]

ومن الواضح أن هذا النوع من التلوث يشكل خطرا على الصحة العامة ويتطلب المزيد من البحث والتقصي. وتستلزم الخطوة الأولى في هذه الرحلة وضع تعريف محدد للتلوث الضوضائي. وعندها، يمكننا وضع إستراتيجية حول كيفية التصدي لهذا العدو الذي طالما تجاهلناه على الرغم من أنه يهدد حياتنا.

صوت خطأ في المكان الخطأ والوقت الخطأ

الضوضاء توجد حولنا في كل مكان، وهي تمثل لكل منا تجربة ذاتية بحتة إذا نظرنا إلى القضية من منظور نفسي. وكما يشير برنامج الأمم المتحدة للبيئة (UNEP)  في تقريره “أفاق 2022 “Frontiers 2022 الذي تناول القضايا البيئية وحلولها: “عندما تكون الأصوات غير مرغوباً فيها تتحول إلى ضوضاء. وعندما تكون الضوضاء صاخبة ومستمرة لفترة طويلة تصبح تلوثاً ضوضائياً[2]“. أولاً، دعونا ننحي جانبا الأسطورة القائلة بأن “الصمت” هو الوصفة السحرية لعلاج المشكلة.

  فالصمت، على الرغم من كل شيء، يمثل أسطورة خالصة.

فقد أكد علماء الأعصاب أنه حتى في البيئات التي لا توجد بها ضوضاء خارجية، يستطيع الدماغ البشري شديد الحساسية أن يرصد ويتابع صوت جزيئات الهواء التي تهتز داخل قنوات الأذن، أو حفيف تدفق السوائل في الأذنين. والسبب الوحيد لعدم تشتت الانتباه بسبب ضربات قلبنا المستمرة هو أن ثمة قشرة عازلة تفلتر الأحاسيس بين القلب والدماغ – مما يحافظ على هذا التمييز المهم بين المحفزات الداخلية والخارجية.[3]

فبدون أي إجراء واعي من جانبنا، تتم تنقية معظم أصوات الخلفية التي قد تشتت انتباهنا أثناء حياتنا اليومية، مما يسمح لنا بالتركيز على الأحداث – أو الأصوات – التي تتطلب اهتمامنا الحقيقي.

لكن التلوث الضوضائي الحديث يحاصر هذه الفلاتر الدماغية التي وهبنا الله اياها. والتلوث الضوضائي يعني الصوت الخطأ الذي يصدر في الوقت الخطأ وفي المكان الخطأ أو بمستوى خطأ. وهو في كل مكان حولنا.

تنطلق السيارات بضجيج هائل على الطرق. ويتعالى صوت الطائرات التي تحلق في السماء. وتتدفق القطارات على طول خطوط السكك الحديدية بجلبة لا تنتهي. وتتصاعد القعقعات والصلصلات من الآلات الثقيلة في المصانع ومواقع البناء. ويتسرب الصوت ليلاً نهاراً من الساحات الرياضية والملاعب. ودعونا لا ننسى الصفير والرنين وكل تلك الأصوات التي تنبعث من هواتف من حولك طوال الوقت.

ووسط كل هذه العاصفة من الأصوات، يفترض للإنسان أن يعيش ويعمل ويتأمل ويفكر – وإذا حالفه الحظ. . . ينام – وهذه الأخيرة قد تعتمد على المكان الذي يتخذه مسكنا له.

الأماكن الأكثر صخبا في هذا الكوكب

يعيش أكثر من نصف سكان العالم في المدن. ومن المتوقع أن يستمر هذا الاتجاه ويتضاعف عدد سكان الحضر بحلول عام [4]2050. لكن المدن تمثل نقطة لالتقاء كل اشكال الصخب. وتوصي منظمة الصحة العالمية بأن لا تتخطى معدلات الضوضاء على الطرق 53 ديسيبل في اليوم[5]. لكن الإحصاءات الفعلية لضوضاء الطرق تفاجأنا بأرقام جد مرتفعة.

ففي آسيا، سجلت مدينة دكا، عاصمة بنجلاديش، مستويات عالية لضوضاء الطرق وصلت إلى 119 ديسيبل؛ في حين سجلت مراد آباد بالهند 114 ديسيبل؛ وإسلام أباد في باكستان 105 ديسيبل؛ وسجلت بعض أجزاء من مدينة هوشي بفيتنام 103 ديسيبل.

وفي إفريقيا سجلت مستويات الضوضاء في إبادان بنيجيريا 101 ديسيبل وفي الجزائر وصلت إلى حوالي 100 ديسيبل.

وعلى الرغم من أن المدن في العالم الغربي لم تشهد مثل هذه الارقام المرتفعة، إلا أن بها حركة مرورية هائلة تتجاوز بجلبتها المستويات الموصى بها.

فقد وصلت مستويات ضوضاء الطرق في نيويورك بالولايات المتحدة الأمريكية 95 ديسيبل؛ وفي ويرتو فالارتا بالمكسيك 85 ديسيبل؛ وفي بوجوتا بكولومبيا 83 ديسيبل. وعبر المحيط الأطلسي سجلت لندن بالمملكة المتحدة مستويات من الضوضاء تصل إلى 86 ديسيبل؛ وسجلت توكات بتركيا 82 ديسيبل، في حين سجلت باريس في فرنسا 89 ديسيبل.

ومن أبرز مظاهر التلوث الضوضائي تجلياً زيادة حالات ضعف السمع. فمن بين ما يقرب من أربعة ملايين شخص في الولايات المتحدة يعانون من ضعف السمع، تعزى حوالي 25٪ من الحالات إلى الضوضاء[6]. وهذه ليست مفاجأة، فحوالي 30 مليون أمريكي يتعرضون لمستويات خطيرة من الضوضاء والصخب في أماكن عملهم كل يوم.[7]

وقد أظهرت إحدى الدراسات الحديثة أن الأشخاص الذين يعيشون في المدن تتراجع لديهم القدرات السمعية إلى مستويات من هم أكبر منهم بـ 10 إلى 20 عاماً – ويوضح ذلك العلاقة الوثيقة بين الضوضاء في الأماكن الحضرية والأضرار التي قد تلحق بالجهاز السمعي البشري[8].

وبالطبع، لا تقتصر تأثيرات فرط الضوضاء على الجهاز السمعي وحسب. فالتلوث الضوضائي يؤثر على كامل الجسد، ومن بعده العقل البشري – وغالباً ما يكون لذلك عواقب وخيمة.

 الضوضاء تضر بجسد الإنسان وعقله

يرتبط التعرض المستمر للتلوث الضوضائي بمجموعة من الأعراض تبدأ من الانزعاج واضطرابات النوم وقد تصل إلى أمراض القلب والأوعية الدموية والتمثيل الغذائي – بل وضعف الإدراك[9].

وتوضح دراستا حالة قامت بهما الأمم المتحدة أن الاضطرابات النفسية الناجمة عن الضوضاء قد تظهر على المرء في صورة أمراض جسدية خطيرة[10]. ففي إحدى الدراستين، أظهرت البيانات المتعلقة بالضوضاء، وكذا البيانات الطبية في كوريا الجنوبية أن حالات أمراض القلب والأوعية الدموية الدماغية قد ارتفعت بنسبة تتراوح بين 0.17٪ و0.66٪ لكل زيادة تقدر بـ 1 ديسيبل من الضوضاء النهارية. وفي دراسة الحالة الأخرى، وجد أن سكان تورنتو بكندا والذين يتعرضون لضوضاء مرورية متزايدة أكثر عرضة للإصابة بالنوبات القلبية وفشل القلب ومرض السكري وارتفاع ضغط الدم.

وينطوي التلوث الضوضائي الليلي على أضرار من نوع خاص. إذ تتداخل أنماط النوم المضطربة مع منظومة هرمونات الجسد وعمل القلب والأوعية الدموية، مما يتمخض عنه تأثيرات سلبية نفسية أوفسيولوجية ترتبط بالتوتر.

ووفقا للتقديرات تعتبر الضوضاء الليلية السبب الرئيس وراء معاناة حوالي 22 مليون شخص في أوروبا من الانزعاج، في حين يعاني 6.5 مليون شخص من اضطرابات النوم. وفي جميع أنحاء الاتحاد الأوروبي، وجد أن حوالي واحد من كل خمسة أشخاص يتعرض بشكل منتظم لمستويات ضوضاء تصنف على أنها ضارة بالصحة[11].

وتستهدف الضوضاء الزائدة عقل الإنسان وجسده على حد سواء. فقد اكتشف باحثون في المركز الوطني الأمريكي لمعلومات التكنولوجيا الحيوية (NCBI) أن ثمة علاقة وثيقة بين التلوث الضوضائي والاكتئاب. فقد وجدوا أن “الانزعاج القوي بسبب الضوضاء” ارتبط بزيادة الاكتئاب والقلق بمقدار الضعفين لدى عامة السكان[12].

ويقع الصغار وكبار السن خاصة ضمن الفئات الأكثر عرضة لمخاطر التلوث الضوضائي. وينطبق الأمر نفسه على الفقراء، إذ تضطر العائلات الفقيرة – في كثير من الأحيان – للعيش بالقرب من الأماكن الأكثر ضجيجاً كالمناطق الصناعية أو الطرق المزدحمة أو مقالب النفايات.[13]

من ناحية أخرى، يجعل الحمل النساء أكثر عرضة لخطر التلوث الضوضائي. فقد وجدت دراسة أجريت عام 2018 أن الأمهات الحوامل اللائي يتعرضن لمستويات عالية من التلوث الضوضائي أكثر عرضة للإصابة بمقدمات الارتعاج، وهي حالة خطيرة تسبب ارتفاع ضغط الدم.[14]

وتمتد تأثيرات التلوث الضوضائي إلى النمو العقلي للأطفال. إذ يذهب البعض إلى أن حوالي 12500 تلميذ في جميع أنحاء أوروبا يعانون من صعوبات في القراءة على وجه التحديد بسبب ضوضاء الطائرات[15]. حتى أن الأطفال الذين يعيشون بالقرب من المطارات تظهر عليهم علامات فقدان الذاكرة على المدى الطويل.[16]

والإنسان لا يعاني وحده من مخاطر الضوضاء… فاللعنة تنزل على الكائنات الأخرى التي تشاركه المحيط الحيوي.

يظهر التلوث الضوضائي الناتج عن الأنشطة البشرية في كثير من الأحيان عند ترددات أقل من 4 كيلو هرتز، فيتداخل مع الترددات التي تستخدمها الحيوانات في الاتصال والبحث عن الطعام[17]. فالخفافيش – على سبيل – تستخدم تحديد الموقع اعتماداً على صدى الصوت في اصطياد الفريسة، لذا فإن الضجيج يعني أنها ستطير لمسافات أطول للعثور على قوتها.

والكائنات التي تعتمد على الاصوات للقيام بمجموعة من المهام الأساسية الأخرى، كاجتذاب الأنثى أو حماية المأوى أو التحذير من الخطر، تُحرم من هذه القدرات الطبيعية المهمة. ويشمل ذلك كل الكائنات بدءاً من الطيور التي تحلق في السماء ووصولاً إلى الحشرات والبرمائيات التي تعيش على طول الطرق السريعة. وكل تلك الكائنات قد تتعرض للموت المبكر بسبب الضوضاء، ناهيك عن تراجع فرص التكاثر.

وحتى الكائنات التي تعيش في البحار لم تنجو من التأثيرات السلبية للضوضاء. فالضجيج الذي يصدر عن محركات القوارب، وأجهزة الاستشعار، ومعدات التعدين التي تستخدم في أعماق البحار تعيق قدرة الكائنات البحرية على التحرك والتواصل. فالسفن التي تحمل حاويات ضخمة تصدر ضجيج يقدر بـ 190 ديسيبل، وهو ما يقلص نطاقات تحديد الموقع بالصدى بنسبة تصل إلى 95٪. وفي مياه شمال المحيط الهادئ قبالة الساحل الكندي، انخفضت أعداد الأوركا وتراجعت أعداد أسماك السلمون بنسبة 60٪ خلال العقود الأربعة الماضية.[18]

ولم تسلم عملية انتاج المواد الغذائية أيضاً من تأثيرات التلوث الضوضائي. فإذا كانت الكائنات المسؤولة عن عملية تلقيح النباتات، كالنحل والخنافس والفراشات والعث، تبتعد عن الأماكن التي تنمو فيها النباتات بسبب الضوضاء الزائدة، فإن الحياة النباتية تتدهور – وهو ما يعني أن تأثيرات التلوث الضوضائي تمتد لتشمل أنظمة الزراعة والبستنة.

ويظل التلوث الضوضائي العدو المستتر. فيوميًا، تتسرب الضوضاء وتطن في طبلة الآذان دون أن يلاحظها أحد. ولكن لا يزال بإمكاننا رصد هذا العدو الخفي والتصدي له.

 

وبينما تعمل العقول البشرية حول العالم على مواجهة تهديدات تلوث الهواء والماء، تبقى الضوضاء بعيدة عن جداول الأعمال. فعلينا أن نتصدى للضوضاء غير المرغوب فيها كي نستعيد نوعية حياتنا.

خلق بيئة صوتية أكثر انسجاماً

هناك خطوات كثيرة يمكن اتباعها من أجل التصدي لمشكلة التلوث الضوضائى. والأمر لا يتطلب سوى المزج بين الابتكار والإرادة والاستثمار.

فمع تزايد مخاطر التلوث الضوضائى بشكل غير مسبوق، يواجه مخططو المدن ضغوطات من نوع جديد من أجل خلق بيئة صوتية أكثر انسجاماً. فقد أصبح تصميم البيئات الصوتية مجالاً مستقلاً بذاته تحكمه سمات طبيعية مميزة للمشهد العام والبنية التحتية القائمة والغرض منها.

ولا يقتصر الأمر على ذلك، حيث تتداخل بعض أساليب التصميم لجعل بيئتنا أكثر نظافة وخضاراً وابهاراً للناظرين.

فعلى سبيل المثال، عندما تزرع الأشجار بكثافة تصبح عازلاً صوتياً فعالاً على جوانب الطرق. يقوم هذا العازل بامتصاص ضوضاء المرور قبل أن تصل إلى المناطق السكنية. وبخلاف الأسطح الصلبة التي نراها في المدن، تمتص الشجيرات والحوائط التي تغطيها النباتات وحدائق الأسطح الضوضاء فتتراجع الأصوات المرتفعة، ناهيك عن دورها المهم والفعال في امتصاص ثاني أكسيد الكربون.

إن التأثير الإيجابي للأسطح المزروعة على التلوث الضوضائي جد هائل. فوفقاً لتقرير آفاق 2022 الصادر عن برنامج الأمم المتحدة للبيئة حول التلوث الضوضائي[19] ،”قد ينتج عن تخصيص أماكن معينة لصفوف الأشجار خلف حواجز ضوضاء الطرق السريعة التقليدية، أو وضع طبقات من الغطاء النباتي على الجدران الصلبة، قد ينتج عن ذلك تراجع في مستويات الضوضاء بما يصل إلى 12 ديسيبل”.

وعندما لا يأتي كل ذلك بالنتائج المرجوة، يمكن استحداث حلول هندسية. أنظر إلى الأنواع المختلفة من الحواجز التي يمكن استعمالها لفصل مصدر الضوضاء عن السكان والمارة الأبرياء. فالسواتر الترابية (وهي عبارة عن حواجز مرتفعة من التربة المضغوطة) وأكياس الحجارة (المملوءة بالتراب أو الصخور) تعد حواجز فعالة وطويلة الأمد وغير مكلفة لعزل الأصوات. من ناحية أخرى، أثبتت المنتجات المعاد تدويرها مثل البلاستيك وإطارات السيارات فاعليتها في عزل الضوضاء. كما اتضح أن الزجاج الليفي الموجود في شفرات توربينات الرياح القديمة له القدرة على خفض مستويات ضوضاء الطرق بما يتراوح بين 6 و7 ديسيبل.[20]

ولما لا نتعامل مع المشكلة من زاوية أخرى، ونحاول خفض مستويات الضوضاء التي تصدر عن أنشطتنا من المصدر بدلاً من البحث عن سبل لعزلها عن الأماكن العامة والخاصة التي نرتادها؟

جهاز قياس شدة الضوضاء بالقرب من أحد المصانع يسجل 63 ديسيبل

التصدي للتلوث الضوضائي

ماذا عن الطرق نفسها؟ أتذكر ذلك الصوت الصاخب المصاحب لاحتكاك اطارات السيارات المطاطية أثناء مرورها في الطريق السريع؟ لابد أنه ثمة حل لهذه اللعنة التي حلت علينا في عالمنا المعاصر.

أوضحت الدراسات العلمية أن خفض السرعة يقلل من انبعاث الطاقة التي تتحول إلى صوت. لذلك فإن تطبيق قوانين داخلية على المستوى المحلى لخفض الحد الأقصى للسرعة – وبالتالي خفض مستويات الضوضاء وزيادة السلامة – قد يكون حلاً سريعاً وغير مكلفاً.

ومن منظور تكنولوجي، يعتبر التوجه بخطى ثابتة نحو التحول إلى المركبات الكهربائية من عوامل الحد من عبء ضوضاء الطرق تدريجياً. فعادة ما تصدر المركبات الكهربائية عند السير بسرعة منخفضة داخل المدن ضوضاء أقل من نظيرتها التي تعمل بمحرك الاحتراق الداخلي بما يتراوح بين 4 و5 ديسيبل.[21]

من ناحية أخرى، تسهم المواد المستخدمة حديثاً في رصف الطرق – مثل الأسفلت المسامي – في خفض انبعاثات الضوضاء عند سير المركبات بسرعات كبيرة.

وقد لعبت التكنولوجيا كذلك دورا ملحوظاً في التصدي للتلوث الضوضائي الناتج عن السكك الحديدية. فعلى سبيل المثال، بدأت شركة تاتا استيل في تركيب قضبان لا يصدر عنها صوت في شبكات السكة الحديد.

قطاع عرضي من القضيب الخافض لضوضاء السكة الحديد من إنتاج شركة تاتا استيل (حقوق الصورة: شركة تاتا استيل)

وتصنع الشركة مخمدات خاصة مصنوعة عن طريق تغليف الصلب بمادة مطاطية تمتص اهتزازات القضبان، مما قد يقلل من الضوضاء بما يصل إلى 50%.[22]

وتمتد مساعي التصدي للضوضاء من السكك الحديدية إلى الخطوط الجوية. فالتلوث الضوضائي الذي يصدر عن المركبات الجوية من الممكن أن يتراجع من خلال التطوير المستمر في الديناميكا الهوائية ومكونات الطائرات. كما يمكن تغيير مسار الرحلات الجوية كي تكون بعيدة عن المناطق المأهولة بالسكان. وعلى الرغم من ذلك، فإن اشراك المجتمع في كل ذلك يعد أمراً ضرورياً؛ إذ تنبغي استشارة المواطنين قبل تطبيق أية تغييرات في منظومة رحلات الطيران بالقرب من المناطق الحضرية.

وفي المبان التي يصدر عنها ضوضاء مثل المصانع والوحدات الصناعية، يمكن الاستعانة بأساليب خاصة لعزل الصوت لمنع الضوضاء من الانتقال من داخل المبنى إلى خارجه. كما يمكن توفير المنح لتمكين المصانع من استبدال المعدات المتهالكة بمعدات أحدث يصدر عنها ضوضاء أقل. إذ تكون هذه المعدات الحديثة ذات كفاءة أكبر، مما قد يقلل من الطاقة التي تستهلكها، وكذا الملوثات التي تصدر عنها.

ويمكن أن يعمل المشرعون حول العالم سوياً من أجل خفض الطلب على الأنشطة التي يصدر عنها ضوضاء.

كذلك من المنتظر أن يسهم التوسع في إنشاء شبكة وطنية لممرات الدرجات الهوائية في الحد من الاعتماد على المركبات الخاصة، وكذا في زيادة الأماكن الخالية من السيارات في المجمعات السكنية. كما سيكون لتخصيص مناطق للمشاة في المراكز الحيوية في المدن أثر مماثل. وفي عالم مثالي، لن يصدر عن الشوارع الأكثر ازدحاماً سوى أصوات وقع أقدام المارة.

من ناحية أخرى، من المنتظر أن يشجع تأجير الدراجات الهوائية الأفراد على استبدال المركبات ذات الأربعة إطارات بأخرى ذات إطارين. وخير مثال على ذلك، منظومة تأجير الدراجات الهوائية في مدينة نيويورك التي تشمل 25 ألف دراجة وما يزيد عن 1500 محطة موزعة على مناطق مختلفة في مانهاتن، وبروكلين، وكوينز وغيرها.      

وقد لعبت مبادرة منطقة الانبعاثات المنخفضة للغاية التي أطلقتها لندن في عام 2019 دوراً مهماً في خفض الضوضاء من خلال تقديم حوافز مالية للتشجيع على استخدام المركبات الهجينة أو الكهربائية يصدر عنها ضوضاء أقل. ووفقا للقوانين الجديدة، تفرض رسوم يومية بقيمة 12.50 يورو على المركبات التي لا تفي بمعايير الانبعاثات الأوروبية. وحسب التقديرات، من المنتظر أن تغطى هذه الخطة منطقة يسكنها حوالي 3.8 مليون شخص، وبحلول أغسطس 2023 ستتوسع لتشمل لندن الكبرى بأكملها. [23]

وفي برلين، حيث يتعرض أكثر من نصف مليون شخص يومياً لمستويات ضوضاء تفوق الحد الموصي به والمقدر بـ 53 ديسيبل، تم تحويل الكثير من الطرق المكونة من ممرين إلي طرق تتألف من ممرٍ واحد مما أدى إلي انخفاض سريع في مستويات الضوضاء أثناء الليل في مناطق يسكنها حوالى 50 ألف شخص.

وعلي المستوي العالمي يشجع توجيه الضوضاء البيئية الصادر عن الاتحاد الأوروبي على رصد التلوث الضوضائي والحد منه في جميع أنحاء المجتمع. فهو يلزم البلدان بإعداد خرائط للضوضاء وخطط عمل خمسية لجميع المدن التي يزيد عدد سكانها عن 100 ألف نسمة ولكل الطرق التي يمر بها أكثر من 3 مليون مركبة سنوياً.[24]

 

وأحياناً يكون أفضل علاج للتلوث الضوضائي هو … الهروب.

ففي وقتنا الحاضر، أصبحت الفوائد النفسية للأصوات الطبيعية والأماكن الهادئة أمراً راسخاً في وعينا. فالمساحات الخضراء (والتي تشمل المتنزهات والحدائق العامة، وممرات القنوات، والمحميات الطبيعية، والمناطق الترفيهية) تحقق آثاراً نفسية إيجابية عن طريق توفير الراحة من صخب المدن المعاصرة. وهذه الأماكن لن تطور أو تحمي نفسها. فهي تحتاج لتنفيذ إجراءات تنظيمية وتوفير التمويل والدعم المستمر على المستويين المحلي والإقليمي. ولا ينبغي أن تكون المصالح التجارية هي المتحكم الأول والوحيد في استمتاعنا بالطبيعة والهواء النقي والهدوء والسلام النفسي.

فعلينا أن ندرك أنه كلما ازدادت المساحات الخضراء الموجودة في مجتمعنا، زاد شعورنا بالتوازن في عالمنا المعاصر.

يبدو أننا نحتاج إلى خطة

والآن وبعد أن تعرفنا على مخاطر التلوث الضوضائي، والذي يمكن أن يتجاوز مجرد الانزعاج ويصبح مهدداً لصحة الإنسان وحياته، يجدر بنا أن نسعى جاهدين كي نحيا في عالم أكثر تناغماً فيما يصدره من أصوات.

ومن المنتظر أن يشمل هذا المسعى كافة طبقات المجتمع: بدء من المشرعين الذين يقومون بصياغة السياسات والمخططين والمهندسين المعماريين الحضريين، ووصولاً للقائمين على مجال الصناعة، والذين يتحكمون في المصانع والتقنيات والآلات التي تشكل مستقبلنا.

والجدير بالذكر أن مسألة التلوث الضوضائي تقع علينا كأفراد أيضاً. فعليك أن تسأل نفسك ما نوع السيارة التي يجب أن تشتريها؟ وهل من الأفضل استخدام وسائل النقل العام للذهاب إلى العمل؟ وهل يجب أن تأخذ هذه العطلة الخارجية الإضافية هذا العام؟ وما هي أولويات الحزب السياسي الذي تصوت له؟

فكل هذه القرارات وغيرها ستحدد مقدار الضوضاء التي ستصدر عن مدننا خلال السنوات والعقود القادمة – وكذا المعنى الجديد الذي سيرتبط بتحقيق “السلام على الأرض”.

[1] https://wedocs.unep.org/bitstream/handle/20.500.11822/38060/Frontiers_2022CH1.pdf

[2] https://wedocs.unep.org/bitstream/handle/20.500.11822/38060/Frontiers_2022CH1.pdf

[3] [3] https://www.inverse.com/article/15229-why-can-t-we-hear-our-hearts-beat-here-s-how-our-brain-turns-down-the-volume

[4] https://www.worldbank.org/en/topic/urbandevelopment/overview#1

[5] [5] https://wedocs.unep.org/bitstream/handle/20.500.11822/38060/Frontiers_2022CH1.pdf

[6] https://blog.arcadia.com/15-facts-stats-noise-pollution/

[7] https://www.ncbi.nlm.nih.gov/pmc/articles/PMC1253729/

[8] https://www.weforum.org/agenda/2017/03/these-are-the-cities-with-the-worst-noise-pollution/

[9] https://www.eea.europa.eu/articles/noise-pollution-is-a-major

[10] https://wedocs.unep.org/bitstream/handle/20.500.11822/38060/Frontiers_2022CH1.pdf

[11] https://wedocs.unep.org/bitstream/handle/20.500.11822/38060/Frontiers_2022CH1.pdf

[12] https://www.ncbi.nlm.nih.gov/pmc/articles/PMC4873188/

[13] https://wedocs.unep.org/bitstream/handle/20.500.11822/38060/Frontiers_2022CH1.pdf

[14] https://www.sciencedirect.com/science/article/abs/pii/S0269749118300988

[15] https://www.eea.europa.eu/articles/noise-pollution-is-a-major

[16] https://www.newscientist.com/article/dn2944-airport-noise-damages-childrens-reading/

[17] https://www.theguardian.com/environment/2019/nov/20/noise-pollution-wild-life-better-regulation

[18] https://www.theguardian.com/environment/2022/apr/12/ocean-of-noise-sonic-pollution-hurting-marine-life

[19]https://wedocs.unep.org/bitstream/handle/20.500.11822/38060/Frontiers_2022CH1.pdf

[20]https://wedocs.unep.org/bitstream/handle/20.500.11822/38060/Frontiers_2022CH1.pdf

[21]https://www.toi.no/getfile.php/1340825-1434373783/mmarkiv/Forside%202015/compett-foredrag/Lykke%20-Silent%20Urban%20Driving.pdf

[22]https://www.railway-technology.com/uncategorized/newstata-steels-silenttrack-noise-levels-blackfriars/

[23]https://wedocs.unep.org/bitstream/handle/20.500.11822/38060/Frontiers_2022CH1.pdf

[24]https://environment.ec.europa.eu/topics/noise/environmental-noise-directive_en