حقوق الصورة  NNASA/CXC/INAF/Argiroffi, C. et al./S. Wiessinger

التحول إلى طاقة الاندماج

لطالما اعتبر العلماء الاندماج النووي ضربا من الخيال الفيزيائي حتى اعتدنا سماع مقولة: “إننا نبعد عنه بثلاثين عاماً … وسنظل هكذا دائماً”[1]. على الرغم من ذلك، ثمة دلائل دامغة اليوم تؤكد أن طاقة الاندماج، لن تعد خيالاً، وقد تصبح حقيقة واقعة قريباً، لتسهم بذلك في تغيير اعتماد العالم على الوقود الحفري.

تعكس عناوين الأخبار في الوقت الحالي شغفاً متنامياً بأن طاقة الإندماج قد تصبح أخيراً جزءاً من حياتنا واستخداماتنا اليومية. فقد قرأنا في “بلومبيرغ إنتيليجانس” بأن “سوق الاندماج النووي قد يحقق تقييماً بقيمة 40 تريليون دولار أمريكي”[2] كما قرأنا في “فوربس” بأن  “الاندماج النووي يدخل عصراً جديداً” [3]. فما الذي حدث حتى تنقلب الأمور رأساً على عقب؟ وكيف تغيرت الاعتقادات الراسخة؟ والأهم من كل ذلك ما يتعلق بأزمة المناخ والطاقة: فمتى يمكن أن تصبح طاقة الاندماج جزءاً معتمداً من مزيج الطاقة العالمي؟

بتصريح من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا ومركزعلوم البلازما والاندماج بمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا  

أهي إمكانات غير مستغلة؟

ينطوي الاندماج على إيجابيات جمة – ولكن المعوقات التكنولوجية كثيرة أيضاً. وما تم إحرازه من تقدم خلال نصف القرن الماضي اتسم بالبطء الشديد – وإن كان مشجعاً ومثيراً للحماسة.

ففي شهر فبراير من العام 2022، أعلن باحثون في منشأة تورس الأوروبية المشتركة (JET) التي يديرها مركز كولهام لطاقة الاندماج في أوكسفوردشاير بالمملكة المتحدة، عن رقم قياسي جديد للاندماج النووي بعد أن نجحوا في إنتاج 59 ميجا جول من الطاقة – وهو ما يكفي لتشغيل لمبات بقدرة 60 واط لمدة 11 يوماً. وعلى الرغم من أن ذلك يعتبر بالكاد نموذجا لتغيير قواعد اللعبة بالنظر إلى كمية الطاقة المنتجة، فقد لاقى الحدث ترحيباً وإطراءاً باعتباره دليلاً على أن الاندماج، والذي يعتبر عملية تعد بطاقة نظيفة لا حدود لها، أضحى يتجه بخطوات ثابتة – وإن كانت بطيئة – نحو تحول الحلم إلى حقيقة. والجدير بالذكر أن الرقم القياسي السابق الذي تم تسجيله من قبل منشأة تورس الأوروبية المشتركة أيضاً كان  قبل 25 عاماً عندما تم إطلاق 22 ميجا جول في عام 1997.

صور ثابتة للحظة إنطلاق طاقة الاندماج من داخل آلة توكاماك في منشأة تورس الأوروبية المشتركة (JET) – مركز كولهام لطاقة الاندماج التابع لهيئة الطاقة الذرية بالمملكة المتحدة في أوكسفوردشاير بالمملكة المتحدة  والذي يضم مشروع JET . حقوق الصورة UKAEA

وفي الوقت نفسه، مازال المفاعل النووي الحراري التجريبي الدولي (ITER)  الذي يجري بناؤه في جنوب شرق فرنسا قيد الإنشاء منذ 11 عاماً، وقد تجاوز ميزانيته الأولية البالغة 6 مليارات دولار بعشرات المليارات من الدولارات حتى الآن. وتتم تغطية تكلفة بناء المفاعل الحالية والبالغة 22 مليار دولار أمريكي من قبل حكومات ثلثي سكان العالم، بما في ذلك الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة والصين وروسيا.[4]

موقع محطة المفاعل النووي الحراري التجريبي الدولي ITER في فرنسا. ساهم آلاف المهندسين والعلماء في تصميم محطة ITER منذ أن تم إطلاق فكرة تجربة دولية مشتركة فيما يتعلق بالاندماج لأول مرة في عام 1985. ويشارك في محطة ITER – الصين والاتحاد الأوروبي والهند واليابان وكوريا وروسيا والولايات المتحدة – وتلك الدول تعتبر الآن جزء من عمل تعاوني مدته 35 عاماً يهدف إلى بناء وتشغيل محطة ITER التجريبية والوصول معا بالاندماج إلى النقطة التي يمكن عندها تصميم مفاعل الاندماج التجريبي.  حقوق الصورة ITER/EUROFusion

 لا شك أن هناك العديد من البدائل الأخرى لطاقة الوقود الحفري. ويشمل ذلك: الطاقة الشمسية المركزة، والطاقة الشمسية الكهروضوئية، ومزارع الرياح البرية  والبحرية، وطاقة الكتلة الحيوية والطاقة الحرارية الأرضية – وذلك على سبيل المثال لا الحصر. وكل تلك الأنواع وغيرها تسهم بالفعل في إحداث التحول المطلوب في مجال الطاقة من أجل بلوغ صافي الانبعاثات الصفرية. ولا تزال الفوائد المحتملة للاندماج النووي تجتذب استثمارات من كبرى المؤسسات أمثال جيف بيزوس[5]، وبيل جيتس[6]، وبالطبع الذراع الاستثماري لشركة عبداللطيف جميل، جيمكو JIMCO والتي تعكس جزءاً من التزام عبد اللطيف جميل Abdul Latif Jameel’ الطويل الأمد بالأشكال المستدامة للطاقة، مثل طاقة الرياح والطاقة الشمسية.

فوائد طاقة الاندماج

تعتبر انبعاثات الكربون، التي تشمل غازات الاحتباس الحراري  مثل ثاني أكسيد الكربون والميثان، من أبرز العوامل المسببة لتغير مناخ كوكب الأرض. فكلما زادت غازات الدفيئة في الغلاف الجوي، أصبح المناخ أكثر دفئاً. وعلى الرغم من بذلنا قصارى الجهد، فإن الوضع يزداد سوءاً. فقد سجل المتوسط العالمي لثاني أكسيد الكربون رقماً قياسياً جديداً في عام 2021  بلغ 414.72 جزء في المليون.[7]

تكمن روعة تكنولوجيا الاندماج النووي في خلوها من الانبعاثات الكربونية. وعلى عكس الطاقة المعروفة التي تصدر عن الانشطار النووي، لا تنتج مفاعلات الاندماج نفايات نووية طويلة الأجل أو عالية النشاط. فالنشاط الإشعاعي الوحيد يقتصر على المكونات الفعلية لمفاعل الاندماج نفسه، والتي يمكن إعادة تدويرها أو إعادة استخدامها في أقل من 100 عام.[8]

وعلى عكس أنواع الوقود الناتجة عن عمليات الانشطار النووي – ونعني هنا “المواد الانشطارية”  – والتي تشمل على سبيل المثال اليورانيوم أو البلوتونيوم –  تعتبر المواد الخام المستخدمة في الاندماج النووي متوفرة وغير ضارة على الإطلاق (فهي ليست قابلة للانشطار أو مخصبة بأي شكل من الأشكال). ويعني ذلك عدم وجود أية مخاطر فيما يتعلق بالتسليح. كما يسهل الحصول على تلك المواد، فالديوتيريوم يمكن استخراجه من الماء، بينما يمكن إنتاج التريتيوم داخل محطة الطاقة من الليثيوم، وهو عنصر يوجد بوفرة في القشرة الأرضية ومياه البحر.

كما أن هذه العملية وفيرة الانتاج للغاية: إذ يمكن لكيلوجرام واحد من وقود الاندماج أن يوفر كمية الطاقة نفسها التي نحصل عليها من 10 ملايين كيلوجرام من الوقود الحفري. كما يمكن لمحطة طاقة اندماج بسعة 1 جيجاوات أن تستهلك أقل من طن واحد من الوقود خلال التشغيل لمدة عام كامل. ويمكن لجرام واحد من الوقود أن ينتج  90 ألف كيلوواط / ساعة من الطاقة. وتقع السلامة كذلك ضمن الاعتبارات الرئيسة. فتاريخ طاقة الانشطار النووي التقليدية يعج بالحوادث وحالات الإخفاق. ولذا تخشى السلطات و الحكومات من وقوع المكونات الرئيسة في الأيدي الخطأ واستخدامها في صنع أسلحة نووية. ولكن الأمر ليس كذلك مع طاقة الاندماج. فكما أوضحنا سالفاً، كميات الوقود المستخدمة ضئيلة للغاية – فهي بالكاد تعادل وزن طابع بريدي – كما أنها ليست “قابلة للانشطار” أو مخصبة – لذا لا توجد أية فرصة للانصهار أو التفاعل الجامح.

ويقول كريستوفر موري، الرئيس التنفيذي السابق لأحدى كبرى المؤسسات الرئيسة في هذا القطاع، جنرال فيوجن الكندية[9]أود أن أؤكد أن الانشطار النووي يسهل بدءه ويصعب إيقافه. أما طاقة الاندماج فهي عكس ذلك تماما” .

ويؤكد المدافعون عن محطات توليد طاقة الاندماج إن لديهم القدرة على إنتاج إمدادات غير محدودة من الطاقة بتكلفة منخفضة وبأقل قدر من المخاطر[10] – وكلها إيجابيات تستحق الدراسة والتدقيق.

الاندماج في مقابل الانشطار

تعتمد محطات الطاقة النووية التقليدية على عملية الانشطار، ونعني بها انقسام ذرات العناصر الثقيلة، والتي غالباً ما تتمثل في اليورانيوم، إلى ذرات أخف. وتُستخدم الطاقة التي تنبعث نتيجة لهذه العملية في غلي الماء من أجل توليد البخار، والذي يقوم بدوره بتشغيل التوربينات التي تنتج الكهرباء.

أما الاندماج فهو العكس تماماً. إذ تتولد الحرارة عن طريق دمج (أو اندماج) ذرات خفيفة لغرض تكوين ذرات أثقل. ويرجع السبب في الطاقة الهائلة التي تتولد نتيجة الاندماج في أن العنصر الجديد يزن أقل بقليل من مجموع أجزائه. وهذا الجزء الضئيل المفقود من المادة يتم تحويله إلى طاقة وفقاً لقاعدة ألبرت أينشتاين الشهيرة   E = mc2  . وهذه هي العملية نفسها التي بها تتولد طاقة الشمس والنجوم. وفي قاعدة أو معادلة أينشتاين ، يرمز الحرف “E” إلى الطاقة والحرف “m”  إلى الكتلة. ويضم الجزء الأخير من القاعدة الحرف  “c” والذي يرمز إلى  ثابت يقيس سرعة الضوء – 300000 كيلومتر في الثانية. ثم يتم تربيع ذلك – وهو مضاعف هائل للمادة التي يتم تحويلها إلى طاقة، مما يجعل الاندماج تفاعلاً قوياً للغاية.[11]

لكن هذه العملية ليست بالبسيطة. فلكي ينجح الاندماج، يجب أن تتصادم الذرات. والمشكلة (أو إحدى المشكلات) تكمن في أن نواتها – ونعني الجزء الموجب من الذرة والذي يقع  داخل سحابة إلكترونات سالبة – تتنافر عادة مع بعضها البعض. ومن أجل التغلب على قوة التنافر هذه، يجب أن تتحرك الذرات بسرعة هائلة في مكان ضيق. وتستطيع شمسنا والنجوم الأخرى القيام بذلك لأن كتلتها الفلكية تولد قوى جاذبية هائلة تجعل الذرات تندفع نحو مركزها.

أما هنا على الأرض، فنحن نحتاج إلى نهج مختلف تماماً. وهذا ما كان يشغل بال خيرة الفيزيائيين والمهندسين منذ عقود. لقد تم إثبات جدوى عملية الاندماج على نطاق ضيق داخل  المختبرات، ولكن مازال عليها توليد كمية من الطاقة  تفوق ما تستهلكه – وهنا تكمن المعضلة.

يتطلب التفاعل خلق حالة عالية الطاقة للمادة: البلازما. وهي حالة متأينة للمادة تشبه الغاز. وتتكون البلازما من جسيمات مشحونة (نوى موجبة وإلكترونات سالبة)، وهي بذلك تمثل بيئات هشة للغاية، فهي تقريباً أقل كثافة من الهواء الذي نتنفسه بمليون مرة[12]. وتحتاج البلازما إلى درجات حرارة عالية جداً – 50 مليون درجة مئوية – ويجب أن تظل مستقرة تحت ضغط شديد، وأن تكون كثيفة بدرجة كافية ومحصورة لفترة كافية كي تسمح للنواة بالاندماج.

طرائق مختلفة للانصهار

تشمل مكونات التوكاماك على ملفات المجال الحلقي (الأزرق)، والملف اللولبي المركزي (الأخضر)، وملفات المجال متعددة الألوان (الرمادي). ويحدد المجال المغناطيسي الكلي (باللون الأسود) حول الحلقة مسار انتقال جزيئات البلازما المشحونة.
رسم توضيحي  بتصريح من يوروفيوجن – وزارة الطاقة الأمريكية

لكي تكون عملية الاندماج مجدية، لابد من تكوين البلازما بطريقة صحيحة تسمح بحصاد الطاقة المنبعثة. وفي الوقت الحالي، ثمة طريقتين أساسيتين للقيام بذلك بينهما بعض الاختلافات. تتمثل الطريقة الأولى، والتي اعتمدها مرفق الإشعال الوطني في مختبر لورانس ليفرمور الوطني في كاليفورنيا، في حصر وقود الاندماج وضغطه باستخدام الليزر. ويطلق على هذه الطريقة الاندماج بحصر القصور الذاتي (ICF).

أما الطريقة الثانية فيشار إليها بشكل عام باسم الاندماج بالحصر المغناطيسي (MCF) حيث يتم استخدام مغناطيسات قوية للغاية لغرض خلق مجالاً مغناطيسياً – “زجاجة” – لعزل البلازما واحتوائها. ويقع في الصميم من هذه الطريقة نوع من مفاعلات الاندماج بالحصر المغناطيسي بشكل كعكة يسمى توكاماك. حيث يتم استخدام حقولاً مغناطيسية عالية الكثافة لغرض تسخين بلازما الهيدروجين إلى مئات الملايين من الدرجات المئوية، ثم الحفاظ على استقرار البلازما بينما تتحد ذراتها. ويتمثل الهدف الرئيس من ذلك في الحفاظ على تماسك  البلازما لفترة كافية لحدوث قدر كبير من الاندماج. وأطول فترة تحقق فيها ذلك حتى الآن كانت ست دقائق فقط.

وثمة نهج يختلف عن هاتين الطريقتين وهو اندماج الهدف الممغنط (MTF) ، والذي يجمع بين ميزات كل من الاندماج بحصر القصور الذاتي  (ICF)والاندماج بالحصر المغناطيسي (MCF) ، ولكن هذا النهج  يتطلب أعمال هندسية وموارد أقل. فعلى غرار الطريقة المغناطيسية، يتم حصر وقود الاندماج بكثافة منخفضة بواسطة حقول مغناطيسية قوية أثناء تسخينه في البلازما. ويبدأ تفاعل الاندماج عن طريق الضغط السريع على الهدف لزيادة كثافة الوقود ودرجة الحرارة بشكل كبير كما هو الحال في نهج القصور الذاتي. وتكون الكثافة الناتجة أقل مقارنة بطريقة الاندماج بحصر القصور الذاتي.  ويرى بعض العلماء أن هذا النهج الهجين، الذي يوفر وقتاً ممتداً للحصر والاحتفاظ بالحرارة، سيسمح بتحقيق اندماج الهدف الممغنط  MTF في نهاية المطاف وسيكون أسهل في البناء.

وهم يعتقدون أن حلم مفاعل الاندماج الكامل ذو المزايا التجارية يمكن تحقيقه وبالشكل الذي يسمح له بالتنافس مع الأنواع الأخرى من الكهرباء. ويتمثل الهدف في بلوغ التكلفة 50 دولاراً أمريكياً لكل ميجاواط / ساعة، وهو ما يعادل تكلفة الفحم. وعلى الرغم من أن بعض أشكال الطاقة المتجددة الأخرى قد تكون أقل تكلفة، إلا أنها ليست بالقدر نفسه من الموثوقية و المرونة.

الاستثمار في طاقة الغد

تعد شركة عبداللطيف جميل من أبرز المستثمرين الملتزمين بمجال الطاقة المستدامة والتوجه نحو صافي الانبعاثات الصفرية. وقد اختارت الشركة – من خلال شركة جميل لإدارة الاستثمار جيمكو (JIMCO) – الاستثمار في اثنتين من المؤسسات العالمية الرائدة في قطاع طاقة الاندماج الذي يشهد تطورا سريعا وهما: كومنولث فيوجن سيستمز (CFS) ومشروع لمركزعلوم البلازما والاندماج بمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا  مقره بوسطن، و يضم داعميه كل من جيف بيزوس وبيل جيتس[13]. وذلك بالإضافة إلى جنرال فيوجن  والتي يقع مقرها في كندا وهي مدعومة أيضا من بيزوس.

بوب مومجارد (إلى اليمين) المؤسس المشارك والرئيس التنفيذي لشركة كومنولث فيوجن سيستمز  وفادي جميل (إلى اليسار) نائب الرئيس ونائب رئيس مجلس الإدارة بمؤسسة عبد اللطيف جميل  في مقر شركة كومنولث فيوجن سيستمز

وفي ديسمبر 2021 ، شارك صندوق  جيمكو للتكنولوجيا في جولة تمويل من الفئة “ب” لكومنولث فيوجن سيستمز بقيمة 1.8 مليار دولار أمريكي لغرض دفع عجلة تسويق طاقة الاندماج. وفي الشهر نفسه، أعلن أيضاً عن مشاركته في جولة تمويلية من الفئة “ي”  لشركة جنرال فيوجن بقيمة 130 مليون دولار أمريكي.

وتعتمد تكنولوجيا جنرال فيوجن على نهج  اندماج الهدف الممغنط  (MTF)الموضح أعلاه  لتكون بذلك في مركز يتوسط الاندماج بالحصر المغناطيسي (MCF) والاندماج بحصر القصور الذاتي (ICF). وفي هذه العملية، يتجنب المفاعل الحاجة إلى الحصر المغناطيسي من خلال استخدام نبضات كهربائية قوية لغرض تكوين نفثات من البلازما ذاتية الاستقرار يتم حقنها بعد ذلك في قلب المفاعل. فالأمر أشبه بحلقة دخان تحافظ فيها التيارات الهوائية داخل الحلقة على شكلها لبضع ثوان قبل أن تختفي. ونفثات البلازما لا تدوم لأكثر من  20 مللي ثانية تقريبا، لكن هذه المدة تكفي لضغطها.

ويتم تبطين قلب مفاعل جنرال فيوجن بالليثيوم والرصاص المنصهر. وبمجرد حقن نفثة من البلازما، فإن صفوف المكابس التي تعمل بالغاز ستضغط القلب، وهو ما يغيرشكله من الشكل الأسطواني إلى الشكل الكروي، وهو ما يعزز معدل الاندماج بصورة كبيرة.

ولا يقتصر دور الغلاف المعدني السائل للمفاعل على ضغط البلازما فحسب، بل يمتد لالتقاط الطاقة الناتجة عن التفاعل. ويتم توصيل المعدن الذي تم تسخينه من خلال أنابيب إلى مبادل حراري ويستخدم في رفع البخار. وفي الوقت نفسه، تقوم النيوترونات الناتجة عن تفاعل الاندماج بتحويل بعض الليثيوم إلى المزيد من وقود التريتيوم، والذي يعتبر نادراً ومكلفاً عند الحصول عليه بأية طريقة أخرى. ويمكن للمفاعل أيضاً زيادة مخرجات الطاقة أو خفضها بمعدل عشرة أضعاف عن طريق تغيير سرعة دورات قلب المفاعل.

فريق العمل  في شركة جنرال فيوجن الكندية مع بعض مكونات مفاعل MTF. حقوق الصورة © General Fusion

والجدير بالذكر أن ذلك سيسمح بمتابعة الأحمال، وزيادة الإنتاج عند ارتفاع الطلب على الكهرباء وخفضه مع تراجع الطلب.

وتستغرق عملية ضغط الليزر، والتي يتم استخدامها في منشأة الإشعال الوطنية، جزءًا من المليار من الثانية. لكن الضغط في مفاعل الاندماج العام يستغرق جزءاً من ألف من الثواني، وهو ما يجعله في نطاق الإلكترونيات الرقمية الأقل تكلفة. ويجب أن تكون النتيجة مفاعلاً أرخص وأسهل في التشييد والتشغيل مقارنة بمفاعلات الاندماج بالحصر المغناطيسي (MCF) والاندماج بحصر القصور الذاتي  (ICF).

وتقوم شركة جنرال فيوجن ببناء محطة تجريبية في كولهام، بالقرب من لندن – والتي تعتبر مركزا لأبحاث الاندماج في المملكة المتحدة منذ عقود. ومن المقرر أن يبدأ العمل في هذه المحطة في  عام 2025. وتهدف الشركة إلى طرح مفاعلاتها الأولى في الأسواق  في أوائل العقد الثالث من القرن الحالي.

الاستعانة بالتوكاماك

Bob Mumgaard
بوب مومجارد، الرئيس التنفيذي والمؤسس المشارك لشركة كومنولث فيوجن سيستمز

 وتنتهج شركة كومنولث فيوجن سيستمز، والتي يقع مقرها في بوسطن،  نهجاً مختلفاً يعتمد على تقنية التوكاماك. ويقول بوب مومجارد، الرئيس التنفيذي والمؤسس المشارك لشركة كومنولث فيوجن سيستمز، إن الشركة تهدف إلى امتلاك مفاعل يكون قد دخل إلى مرحلة التشغيل في غضون ست سنوات.

وفي لقاء تم إجرائه مع بوب مومجارد مؤخراً لصالح أحدى مقالات وجهات نظر التي تصدر عن مؤسسة تابعة لشركة عبداللطيف جميل، أوضح مومجارد كيف استخدمت شركته الموصلات المبتكرة الفائقة عالية الحرارة (HTS) المصنوعة من أكسيد الباريوم النحاسي الأرضي النادر لصنع مغناطيسات قوية وأصغر بكثير من أي وقت مضى.

ويعني ذلك أن التوكاماك المستخدم في المفاعل يمكن أن يكون أصغر بكثير.

ويقول مومجارد: “تتطلب تقنية التوكاماك الحالية مغناطيسات كبيرة الحجم لغرض توفير مجال مغناطيسي هائل يسمح بتحقيق صافي الطاقة للاندماج”. وأشار  إلى أن موقع محطة  ITER في فرنسا يبلغ طوله كيلومتراً واحداً وعرضه 400 متر. “ من خلال تطوير المغناطيسات فائقة الموصلية وعالية الحرارة بالشكل الصحيح، يمكننا الحصول على  آلات توكاماك أصغر بكثير – حوالي 40 مرة أصغر من الموجودة في محطة  ITER ، على سبيل المثال – وهو ما يغير قواعد اللعبة فيما يتعلق بأنظمة الاندماج.”

بوب مومجارد الرئيس التنفيذي لشركة كومنولث فيوجن سيستمز يتوجه مع فادي جميل، نائب الرئيس ونائب رئيس مجلس الإدارة بمؤسسة عبد اللطيف جميل، وإلى جواره دينيس جي وايت من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا،  إلى ورشة كومنولث فيوجن سيستمز – يمكن رؤية مغناطيس فائق الموصلية وعالي الحرارة HTS واحد في علبته أسفل اليسار.

ومن أجل تكوين فكرة عن قوة المغناطيسات فائقة الموصلية وعالية الحرارة HTS ، يتم قياس قوة المغناطيسات – شدة المجال المغناطيسي –  من خلال وحدة تسمى تسلا . [14] والمغناطيسات التي تستخدمها شركة كومنولث فيوجن سيستمز  في مفاعلاتها 20 تسلا – وبذلك فهي كبيرة بما يكفي لرفع سفينة حربية. ويعتبر مومجارد  التوكاماك “زجاجة مغناطيسية كبيرة” تتحكم فيها الحقول المغناطيسية القوية في كرات بلازما تبلغ 100 مليون درجة – “والأمر بذلك أشبه بالنجوم”.

وبعد النجاح في  إثبات الفكرة في سبتمبر 2021 ، يعكف معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا وشركة كومنولث فيوجن سيستمز على العمل معا من أجل تشييد ما وصفه مومجارد بـ “أول جهازاندماج لانتاج صافي الطاقة” – وهو ما يعني أول محطة اندماج تنتج طاقة أكثر مما تستهلكه؛ فهي، ووفقاً للسيد/ مومجارد، تنتج 10 أضعاف الطاقة المستهلكة بمخرجات طاقة تقدر بـ 100 ميجاوات[15]. وقد أطلق على هذا الابتكار اسم SPARC ، ويتم تشييده في ديفنز، بماساتشوستس. ومن المقرر أن يدخل مرحلة التشغيل بحلول نهاية عام 2025.

رسم توضيحي ل SPARC  بتصريح من كومنولث فيوجن سيستمز

قوة رأس المال الخاص

دفعت الحاجة إلى الاستثمارات الضخمة من أجل تطوير تقنية طاقة الاندماج، وما لها من مردود على المدى البعيد، دفعت فادي جميل، نائب الرئيس ونائب رئيس مجلس إدارة مؤسسة عبد اللطيف جميل، للقول بأن وجود مستثمرين من القطاع الخاص يعد أمراً حيوياً لتحقيق نجاح طويل الأمد لقطاع طاقة الاندماج.

يقول فادي جميل ” إن رأس المال الخاص و كذا الشركات العائلية تتمتع بميزة الصبر. حيث يمكنها تحمل تكلفة الاستثمار على المدى الطويل لأن ليس لديها مجموعة كبيرة من المساهمين يطالبون بالحصول على أرباح في غضون ثلاث إلى خمس سنوات، ولذا، فإنني أرى أن لديهم فرصة فريدة – وتقع على  عاتقهم مسؤولية – للاستثمار في مثل هذه الأنواع من التقنيات المستقبلية الرائعة باعتبار ذلك جزءاً من استمرارية أعمالهم، ومسؤولية تجاه الأجيال القادمة.”

وتتمتع عبداللطيف جميل بسجل حافل من الاستثمار في تقنيات الطاقة المستدامة. كما أن لديها أعمالها الخاصة في قطاع الطاقة المتجددة، ويشمل ذلك – على سبيل المثال  – شركة آلمار لحلول المياه، والتي تعد  شركة رائدة في مجال تطوير وإدارة البنية التحتية والخدمات المائية، و هناك شركة فوتواتيو لمشاريع الطاقة المتجددة  (FRV) وكلاهما جزءاً من شركة عبداللطيف جميل للطاقة. وتمتلك فوتواتيو لمشاريع الطاقة المتجددة مجموعة من المشروعات الخاصة بتطوير الطاقة المستدامة، وذلك بداية من التسع مزارع التي تملكها والمخصصة لانتاج الطاقة الشمسية في أستراليا ووصولا إلى كلاي تاي، والذي يمثل  أكبر مشروع لتطوير بطاريات تخزين الطاقة في المملكة المتحدة، والذي من شأنه أن يساهم في إزالة الكربون من شبكة الطاقة البريطانية.

أرباح هائلة

مع وصول الاستثمارات في مجال طاقة الاندماج إلى مستويات قياسية من خلال رأس المال الخاص لا الدعم الحكومي وحسب، نطرح هنا سؤالا: ما قيمة كل ذلك؟

ترى مؤسسة بلومبيرج إنتليجنس[16] أن النجاح – ونعني به وجود مفاعل ذي جدوى من الناحية التجارية – بات قريباً جداً لدرجة تدفعنا للبحث عن إجابة. فدراستها حول هذا الموضوع تؤكد أن طاقة الاندماج العملية والمجدية من الناحية التجارية سوف تمثل إنجازاً “يفوق نطاق ريختر للتطورات الحديثة”. فهي تعتقد أن تسلا (الشركة المصنعة للمحرك) هي المقارن الأقرب، وذلك على الرغم من أن توابع طاقة الاندماج أكبر بكثير.

وقد خلصت إلى أنه بافتراض أن طاقة الاندماج يمكن أن تحل محل 1٪ من إجمالي الانتاج العالمي من الطاقة، فإن هذا يعني ما يقدر بقيمة 40 تريليون دولار أمريكي. والأكثر من ذلك، أن طاقة الاندماج ستقلب سوق الطاقة رأساً على عقب، وخلال هذه العملية، سوف تقوم بتغيير أفكارنا عما كنا نظن أنه ممكن أو غير ممكن. إنها طاقة بلا حدود ونظيفة ومتجددة و متاحة بأسعار معقولة للجميع.

حقاً … إنه مستقبل يستحق الاستثمار.

 

[1] https://www.economist.com/science-and-technology/2021/06/24/the-race-to-build-a-commercial-fusion-reactor-hots-up

[2] https://www.bloomberg.com/professional/blog/nuclear-fusion-market-could-achieve-a-40-trillion-valuation/

[3] https://www.forbes.com/sites/christopherhelman/2022/01/02/fueled-by-billionaire-dollars-nuclear-fusion-enters-a-new-age/

[4] https://www.sciencefocus.com/future-technology/fusion-power-future/

[5] https://www.cnbc.com/2019/03/06/bezos-microsoft-bet-on-a-10-trillion-energy-fix-for-the-planet.html

[6] https://www.nasdaq.com/articles/bill-gates-and-big-oil-are-chasing-the-nuclear-fusion-dream-2020-06-03

[7] https://www.climate.gov/news-features/understanding-climate/climate-change-atmospheric-carbon-dioxide

[8] https://www.iter.org/sci/Fusion

[9] https://www.economist.com/science-and-technology/2021/06/24/the-race-to-build-a-commercial-fusion-reactor-hots-up

[10] https://ccfe.ukaea.uk/fusion-energy/fusion-in-brief/

[11] https://www.vox.com/22801265/fusion-energy-electricity-power-climate-change-research-iter

[12] https://www.iter.org/sci/MakingitWork

[13] https://www.economist.com/the-economist-explains/2022/02/09/what-is-nuclear-fusion

[14] تسلا (T) هي وحدة مشتقة من شدة المجال المغناطيسي B في النظام الدولي للوحدات. ,والتسلا تساوي ويبر واحد لكل متر مربع. 1 تسلا : يساوي وحدات SI الأساسية: 1 kg⋅s−2⋅A−1 Symbol: T Derivation: 1 T = 1 Wb/m2

[15] https://www.nature.com/immersive/d41586-021-03401-w/index.html

[16] https://www.bloomberg.com/professional/blog/nuclear-fusion-market-could-achieve-a-40-trillion-valuation/