تشبه محاولاتنا للتنبؤ بمستقبل تطورعالم الميتافيرس  محاولات التنبؤ بتطور … لنقل. . . أي طفل  صغير! فكلاهما يبعد كل البعد عن شكله النهائي، ولذا تصعب صياغة إجابات شافية عندما تطرح مثل هذه التساؤلات. بإمكاننا بالطبع وصف أشكالهما الحالية، وقد نستطيع أيضا تحديد اللبنات الأساسية لأنظمة أكثر تعقيدًا قادمة – أما عن كيف ستكون أشكالهما النهائية، فهذا أمر ضبابي غامض في الحالتين.

فهل سيستمر الميتافيرس في التطور إلى الأبد؟ وإلى أي مدى؟ وما هي الأبواب التي سيفتحها؟ وما هي التحولات (وهل للأفضل أم للأسوأ) التي سيكون ورائها؟ بعبارة أخرى، ما هي إمكاناته النهائية؟

لا نملك سوى القليل من الإجابات القاطعة لهذا التساؤلات. لكن كافة  التوقعات القائمة على الوقائع تشير إلى أن هذا الطفل – على وجه الخصوص –  قد يؤدي إلى تغيرات هائلة في الطريقة التي نحيا بها.

ما هو الميتافيرس؟

ظهر الميتافيرس كفكرة خلال فترة الثمانينيات، حيث كان مادة للأعمال الخيالية التي قدمته كملاذ افتراضي للشخصيات يساعدها على الهروب من المجتمعات القمعية. ومع ذلك، لم يقتحم المصطلح الوعي العام إلا في أكتوبر 2021 ، عندما قام رئيس فيسبوك، مارك زوكربيرغ ، بتغيير اسم الشركة الأم لـ فيسبوك رسميًا إلى “ميتا””Meta”  . وهو من خلال القيام بذلك، وجه تركيز موارد الشركة بقوة نحو إنشاء أول  ميتافيرس عالمي مترابط للوجود والتواجد المشترك يقوم على البكسل وقابل للتوسع بشكل لا محدود ولا نهائي.

وقد وصف زوكربيرغ رؤيته عن الميتافيرس قائلا “إنه خليفة تقنية الإنترنت عبر الهاتف المحمول – سنشعر وكأننا موجودين مع الآخرين، بغض النظر عن مدى التباعد الفعلي للمسافات.”[1]

وقد ترتب على إعلان زوربيرج نتيجة فورية واحدة: أصبح مصطلح الميتافيرس  “metaverse” من المصطلحات الأكثر بحثاً على   جوجل ليرفع من تصنيفه كمحرك بحث.[2]

وبالنسبة لأولئك الذين قاوموا رغبتهم في أكتوبر الماضي في البحث عن المستقبل على جوجل، فعليهم اليوم أن ينظروا إلى الميتافيرس كمضمار  للتصادم بين العالم  الحقيقي والعالم الرقمي. فالميتافيرس  – في أبسط صوره – يمثل تقنية تتيح للمستخدم التفاعل افتراضياً عبر وسائل التواصل الاجتماعي والألعاب والبيئات الرقمية والعملات المشفرة. وعلاوة على ذلك، وخلال مسار تطوره، من المنتظر أن يصبح الميتافيرس  بمثابة تجربة متعددة الأبعاد، مما يسمح للمستخدمين بالانغماس في محاكاة جماعية لعالمنا.

نعم، يوماً ما سيمكنك (أو بالأحرى سيمكن للصورة الرمزية التي تمثلك) الدخول إلى مجال افتراضي والتفاعل مع الآخرين على غرار ما يحدث في الحياة “العادية”. فقد تجتمع معهم للعمل في مشروع مشترك، أو للاسترخاء أثناء مشاهدة فيلم أو لعبة رياضية، أو لتجربة سيارة قبل الإقدام على شرائها أو لتجربة أماكن لقضاء العطلة قبل الحجز.

والتقنية في طور التحول التدريجي من مرحلة التصميمات إلى مراحل التنفيذ. فتطبيق Horizon Workrooms من Facebook موجود بالفعل على شبكة الإنترنت، وهو يمثل بيئة مكتبية افتراضية لزملاء العمل تستخدم في عقد الاجتماعات.[3]

الاجتماع مع الآخرين في عالم الميتافيرس: Horizon Workrooms  من Meta  . حقوق الصورة: أذكر المصدر

وليس هذا سوى القليل. فما قد ينطوي عليه عالم الميتافيرس metaverse  قد لا يأتي بمخيلة أي من متنبئي اليوم الحاذقين. فإننا حتى لا نعرف ما إذا كان هذا الميتافيرس  سيصبح كياناً مركزياً واحداً أم نظاماً أكثر تعقيدًا من  مجموعة منصات متداخلة ومستقلة.

ولكن من منظور فلسفي بحت، لا شك أن الميتافيرس بإمكانه إعادة رسم ملامح عالمنا من خلال إطلاق عالم جديد كلية.

ومع ذلك، وبالنظر إلى المعدل الهائل للتطور التكنولوجي الذي يؤكده قانون مور[4] والمعايير الأخرى، فمن الطبيعي أن نفترض أنه بمرور الوقت لن يمكننا التميز بين عالم  الميتافيرس وعالمنا الفعلي الذي نستيقظ عليه حاليًا كل صباح. فخلاصة القول، أن هذا الطفل قد يكبر ليصبح وحشاً  يفتخر بقوة بناء عالم لصانع رقمي.

إذن، ما هي تحديدا التقنيات التي ستدعم تطور هذا الميتافيرس  الثوري؟ تبدأ رحلتنا بأربعة أحرف:  VR  (الواقع الافتراضي) ، و AR  (الواقع المعزز)

الواقع الافتراضي والواقع المعززة: لمحة عن عوالم بديلة

في المستقبل القريب، سيعني دخول المرء وانغماسه في عالم الميتافيرس المرئي ارتداء واجهة أساسية مثل سماعة الواقع الافتراضي ((VR،  والتي اقتصرت في البداية على  سماعة Oculus من Facebook ، ولكن من المحتمل أن يمتد الأمر ليشمل أنواع أخرى منافسة من سوني و”إتش تي سي” و”فالف” وغيرها.

تشتمل هذه السماعات، وملحقاتها التي لا تزال في طور الإعداد، على شاشتين صغيرتين، واحدة لكل عين، وعند مشاهدتهما معا تعطيان انطباعاً بعمق الصورة. وعند اتصالها بالإنترنت، يمكن لسماعات الواقع الافتراضي أن تفتح المساحة المشتركة  للميتافيرس،  بل و تسمح لنا بتقديم عناصر ممسوحة ضوئياً من عالمنا مثل المكاتب والملفات.

أما الواقع المعزز (AR) فيمثل تقنية موازية مختلفة في طبيعتها. فبدلاً من انغماسنا في عالم ثانٍ، تعمل مشروعات الواقع المعزز  CGI  (الصور المولدة بالحاسوب) على بيئتنا الواقعية عن طريق إرسال الضوء الرقمي مباشرة إلى العين البشرية. فعلى سبيل المثال، يمكن للمرء استدعاء سبورة بيضاء إلى مكتب فارغ  من أجل تقديم عرض تقديمي، أو تجسيد زملاء بعيدين حول طاولة لعقد مؤتمر عبر الإنترنت. ومع وجود عدد قليل فقط من سماعات الواقع المعزز  المتاحة حاليًا ، بما في ذلك “مايكروسوفت هولولينز” و”ماجيك ليب”، لا يزال الواقع المعزز في مرحلة مبدئية مقارنة بالواقع الافتراضي.

ولكن سواءً تم تصميم سماعة لابتكار واقع جديد (الواقع الافتراضي VR) أو لاستكمال ما هو قائم (الواقع المعزز  (AR ، فإن مثل هذه الأجهزة التي تتمتع بالدقة العالية والمهلة الزمنية القصيرة ستكون بلا شك بواباتنا الأولى لعالم الميتافيرس.

وتشير أرقام المبيعات إلى  أن المستهلكين يقبلون على شراء ما يناسبهم من الناحية المادية. وقد قامت Meta بإطلاق مليوني سماعة رأس في عيد الميلاد الماضي (2021) فقط[5]. وبالطبع يهتم المستثمروتن بالأمر، فقد قامو بتوجيه مئات الملايين من الدولارات على مدار الـ 12 شهراً الماضية إلى شركات تقوم بتطوير البرامج والأجهزة ذات الصلة بالميتافيرس.

من ناحية أخرى سجلت  منصة الواقع المعززNiantic ، وهي شركة فرعية تابعة لشركة Google ،  تقييما ب 9 مليارات دولار أمريكي في نوفمبر 2021 بعد جولة تمويل جديدة.[6]

قد تكون هذه الثقة في محلها. فمن المتوقع أن تتجاوز مبيعات وحدات الواقع الافتراضي والواقع المعزز مجتمعة وحدات التحكم التقليدية ذات الشاشات المسطحة بحلول عام 2024.[7]

ويلوح في الأفق أن تطور عالم الميتافيرس بات أمرًا مؤكدًا  نظرًا لأن التقنيات التكميلية له آخذة في التطور بسرعة في العديد من المجالات الأساسية:[8]

  • وحدات معالجة الرسومات (GPU) من الجيل التالي: والتي تسمح بمحاكاة أسرع من أي وقت مضى للبيئات المشاركة في الوقت الفعلي.
  • محركات ثلاثية الأبعاد ذات صور واقعية: ويتمثل الغرض منها في إنشاء عوالم أكثر اتساعًا بدقة لا مثيل لها.
  • الفيديو الحجمي: والذي يمثل نظاما لالتقاط الأداء لتقديم صور رمزية واقعية في الواقع الافتراضي أو الواقع المعزز.
  • الذكاء الاصطناعي: توفير سلوك بشري فطري ويمكن تمييزه للشخصيات الافتراضية.
  • الحوسبة السحابية و الجيل الخامس: تقنيات جديدة لتخزين ونقل جميع البيانات المطلوبة لتشغيل عالم بديل معقد.

وبالنظر إلى المستقبل، ماذا لو كان بإمكان المرء الاستغناء بالكامل عن سماعات الرأس والشاشات وأجهزة التحكم، واستخدام الحواس بما يتجاوز مجرد البصر والصوت؟

إن هذا هو المستقبل الذي تتجه صوبه واجهات الدماغ والحاسوب (BCIs). فمن خلال أجهزة متصلة مباشرة بالدماغ البشري، يمكننا بلوغ تجربة جديدة تماما: عالم يعج بالأذواق والروائح والحركات  – وبعيدا عن أية أدوات ملموسة – وقد تكون تلك هي النقطة التي عندها يتحول الحلم إلى حقيقة.

وبالفعل، تعمل الأشكال الأولية من تقنية واجهات الدماغ والحاسوب BCI على تمكين مرضى فقدان الكلام من التواصل مرة أخرى[9]، كما تسمح لضعاف الحركة بالتفاعل مع الأجهزة الذكية.[10]

قد يكون عالم الميتافيرس المعزز بهذه التقنية مجرد فكرة في الوقت الحالي ولكنه هدف نهائي بلا شك.

يا لها من لحظة فارقة… وقد تتحقق بالفعل عندما يطغو الخيال العلمي على عالم الواقع.

عالم الأعمال كالمعتاد؟ ليس في الميتافيرس

ما من أحد يستطيع أن يتنبأ بالموعد الذي عنده سيصل الميتافيرس – كما هو متعارف عليه اليوم –  إلى مرحلة النضج. لا شك أن هذا العالم يحمل في طياته إمكانيات ستغير قواعد اللعبة بالنسبة لعالمي التجارة والسياسة على حد سواء: فهو يقدم طرائق جديدة للبيع والشراء، وقنوات جديدة للتواصل وتوسيع شبكاتنا، وأساليب جديدة للتعلم، وسبل جديدة للتأثير على الرأي.

ومن منظور القطاعين العام أو الخاص، إذا لم تكن مشاركاً في عالم الميتافيرس من البداية، فإنك تخاطر بفقدان عدد لا يحصى من الفرص المستقبلية المحتملة .

لقد شهد عام 2021  إنفاق ما يقرب من 100 مليون دولار أمريكي لشراء سلع افتراضية من منصات الألعاب. ويتوقع الخبراء أن يرتفع هذا الرقم ليسجل تريليون دولار أمريكي أو أكثر سنويًا بحلول عام 2024 ، مع إنطلاق نماذج تجارية جديدة كلية تدور حول عمليات الشراء المادية – الافتراضية ( ونعني هنا تلك العمليات التي تتم في العالم الحقيقي ولكن من أجل منتج أو خدمة افتراضية) وكذا المشتريات الافتراضية – المادية (وهي العمليات التي تتم في العالم الافتراضي ولكنها تنعكس على منتج أو خدمة في العالم الحقيقي).[11]

فعلى سبيل المثال، تقوم شركة LOL Surprise  المتخصصة في العاب الاطفال ببيع بطاقات تداول بأكواد QR   (رموز الاستجابة السريعة) في العالم الحقيقي لغرض فتح تجارب افتراضية. وعلى النقيض، أطلقت سلسلة المطاعم “تشيبوتل مكسيكان جريل” مطعمًا افتراضيًا على شبكة الإنترنت يسمح للاعبين بالقيام بإعداد الوصفات لكسب وجبات بوريتو يمكن تناولها في مطاعم حقيقية [12].

حقوق الصورة:  © Chipotle

وواقع الأمر أنه بإمكاننا أن ننظر إلى عالم الميتافيرس لا كعالم منفصل بل كبوتقة واحدة تجمع بين عالمنا المادي والعالم الرقمي.  أي أنه عالم مادي رقمي phygital.

ويتعين على  الشركات ذات التفكير المستقبلي أن تشرع اليوم في التفكير في مدى إمكانية دخول ما تقدمه من خدمات إلى العالم الافتراضي. فبالنسبة للشركات الكبرى والعلامات التجارية البارزة القائمة، فإن هذا يعني الاستثمارات المبكرة، وتحقيق تواجد على المنصات قبل أن يكون السبق لصغار المنافسين. وفي غضون ذلك، يمكن للشركات الناشئة أن تسعى إلى القيام بدور فاعل، من خلال استغلال ما تتمتع به من مرونة نسبية لمواجهة هيمنة العلامات التجارية واكتشاف مجالات مناسبة في هذا السوق الجديد الواسع.

لا شك أن أية قفزة نحو عالم جديد شجاع ستأتي محملة بالمخاطر … وعالم الميتافيرس ليس استثناءً. إذن، فما هي الموضوعات التي تتطلب من رواد هذه الطفرة الرقمية – ومنا كمستهلكين – التوقف والتفكير؟

الحد من المخاطر في عالم الميتافيرس

بالنظر إلى السجل المثير للجدل لوسائل الإعلام الاجتماعية فيما يتعلق بمراقبة الحقائق، وتشجيع النقاش المحايد، وتعزيز التماسك المجتمعي، يتساءل الكثيرون عن كيفية حماية عالم الميتافيرس من إساءة الاستخدام. فهل سيصبح مجرد أحدث مضمار للمتصيدين والمتسللين والناشطين السياسيين والمجرمين؟ أم هل يمكننا أن نتعلم شيئًا من سلبيات الإنترنت من أجل الحد من إساءة الاستخدام والتحرش والتطرف والمعلومات المضللة؟

لا نملك إجابات شافية عن كل تلك التساؤلات، وهو ما يجعل حسم القضية بعيد المنال. ولكنها على الأقل تُناقش على نطاق واسع وبحماس  داخل المجتمع، حيث يوجد اتفاق على أن قوانين حماية البيانات والأمن ستحتاج إلى التطوير جنباً إلى جنب مع التكنولوجيات لضمان إطلاق عالم ميتافيرس ايجابي وفعال.

في الوقت الحالي، تعكس قواعد البيانات مزيجا من القوانين الدولية، التي تضم – على سبيل المثال –  اللائحة العامة لحماية البيانات (GDPR)  في الاتحاد الأوروبي، و قانون حماية المعلومات الشخصية والوثائق الإلكترونية الكندي. وتفتقر الولايات المتحدة الأمريكية إلى اللوائح الفيدرالية التي تحكم العديد من الشركات وتعتمد بدلاً عن ذلك على مجموعة من القوانين التي تشمل قانون الإبلاغ عن الائتمان العادل وقانون الخصوصية والحقوق التعليمية للأسرة وقانون حماية خصوصية الأطفال على الإنترنت. في الوقت نفسه، تعمل الصين بموجب قانون حماية المعلومات الشخصية الخاص بها  (PIPL).

ومن جانبه، سيتعين على المستهلك الحذر، وكذا إدراك أن أجزاء كبيرة من البيانات التي كانت مخفية (لغة الجسد، والتأثير الصوتي، والاستجابات الفسيولوجية، وأنماط السلوك) ستكون متاحة بسهولة للمعلنين والمحتالين على حد سواء.

وتمثل كندا حالة تستحق الدراسة. ففي العام الماضي، خلص مفوض الخصوصية في البلاد إلى أن الشركة الأمريكية “أميريكان أيه آي” American AI قد انتهكت حقوق الخصوصية من خلال قيامها بجمع المليارات من لقطات الرأس من الإنترنت لاستخدامها كجزء من برنامج التعرف على الوجوه الخاص بها. وعلى الرغم من أن الغرض من قاعدة البيانات البيومترية تمثل في المساعدة في إنفاذ القانون، إلا أن المفوض الكندي ذهب إلى  أن هذا يرقى إلى مستوى المراقبة وتحديد هوية الأفراد ذي الخصوصية – ويعتبر ذلك اكتشاف يسلط الضوء على أهمية الموازنة بين متطلبات العمل وحق الأفراد في التمتع بالخصوصية.

وبدون تنسيق دولي أوسع نطاقاً للقواعد، كيف يمكننا أن نبدأ في حل مما سيواجهنا من ألغاز أعمق: فمن “سيمتلك” الميتافيرس؟ وهل ستتحكم هيئة مركزية واحدة في إمكانية النفاذ إلى بياناته وتوزيعها؟ أم أن مجرد المشاركة ستمكن عدداً لا يحصى من الكيانات، العامة والخاصة، من جمع البيانات وتبادلها من أجل وسائل متنافسة في كثير من الأحيان؟

 ليست هذه بالقضايا الجديدة على المجتمع. فهي دائما ما تطرح عندما ينزل الإنسان بأرض لم تطأها قدم، أو عند تبنى تقنيات جديدة. فعلى سبيل المثال، من الذي سيسيطر على المحيطات؟ القطب الجنوبي والقطب الشمالي، والقمر، والفضاء نفسه؟ وبالطبع ، شبكة الإنترنت التي نعرفها اليوم. ناهيك عن المناقشات التي ستتناول الأخلاقيات والحوكمة في الطب والجراحة والذكاء الاصطناعي.

يبدو أن فيسبوك نفسه على دراية كاملة  بتلك الموضوعات الشائكة – أو على الأقل بقيمة النهوض لمعالجتها. ففي شهر مايو من هذا العام، كشف  فيسبوك النقاب عن استثمارات بقيمة 50 مليون دولار أمريكي موجهة للمساعدة في التأسيس لميتافيرس مسؤول[13]. فما هو الهدف الذي يكمن خلف ذلك؟ إنه السعي لإنشاء نظام مشترك للقيم في البيئة الافتراضية المنتظرة.

ومن المنتظر أن يتم توجيه هذه الأموال نحو تغطية تكاليف تنمية المهارات وبحوث الأخلاقيات التي تقع في الصميم من هذه التقنية، والتي تجرى في مجموعة متنوعة من المؤسسات حول العالم، بما في ذلك جامعة سيول الوطنية ومنظمة الدول الأمريكية ومركز التكنولوجيا والروبوتات والذكاء الاصطناعي والقانون في جامعة سنغافورة الوطنية. ونأمل أن يعزز ذلك التعاون النشط بين الصناعة والقطاع العام والأوساط الأكاديمية.

ويؤكد ماثيو بول – صاحب فكرة الميتافيرس وأحد خبراء المجال أنه نظرًا للتفاعل المعقد والمطلوب بين المنصات والمطورين والعلامات التجارية والعملاء، قد يصبح لزاما علينا أن نبذل جهد تعاوني ضخم على غرار منظمة التجارة العالمية من أجل إطلاق كامل إمكانيات تقنية الميتافيرس. [14]

على الرغم من ذلك، يعتقد بول أن الميتافيرس يعكس “تغيير جيلي عميق”، وهو يرى أن المستخدمين الأوائل يشملون قطاعين يجسدان إمكانات الثورة الرقمية – التعليم والرعاية الصحية.

ففي الفصول الدراسية ، تسمح تطبيقات الميتافيرس للطلاب بالفعل بالمشاركة في تجارب علمية افتراضية، ودراسة الانفجارات البركانية بدقة. في الوقت نفسه، خضع مريضان في مستشفى جونز هوبكنز في ولاية ماريلاند بالولايات المتحدة الأمريكية ، لعمليات جراحية أجراها جراحون يرتدون سماعات رأس الواقع المعزز.

وبالمثل، فإن استثماراً من قبل شركة عبد اللطيف جميل للرعاية الصحية في شركة هولوايز Holoeyes اليابانية للتكنولوجيا الطبية قد سلط الضوء على فرصة طبية أخرى في عالم الميتافيرس الذي لا يتوقف عند التطور والتوسع.

خطوة صغيرة  واحدة تفصلنا عن تكنولوجيا الغد

يسمح نظام الدعم الجراحي الرائد الذي يستعين بتكنولوجيا الواقع الافتراضي في “هولوايز” للأطباء بالنظر داخل جسد المريض بوضوح غير مسبوق، مما يعني تشخيصات أسرع وأكثر دقة للجميع. فمن خلال عرض منطقة مستهدفة للجراحة  في صورة ثلاثية الأبعاد قابلة للملاحة، تسمح “هولوايز” للجراحين بتحديد أماكن الأعضاء والأوعية الدموية القريبة، والتخطيط المسبق بما يتوافق مع حالة كل مريض، وهو ما يقلل من فرص حدوث مضاعفات غير متوقعة قد تنشأ أثناء العمليات. كما يمكن أيضاً تسجيل الإجراءات واستخدامها للأغراض التعليمية.

فالنظام لا يهتم بالتفاصيل وحسب ولكنه أيضا سريع. فبعد 15 دقيقة فقط من تحميل التصوير المقطعي المحوسب على موقع “هولوايز”، تكون صورة ثلاثية الأبعاد وتطبيق الواقع الافتراضي جاهزين للتنزيل على جهاز عرض.

Holoeyes VR in surgery

وفي الوقت الحالي، تساعد شركة عبد اللطيف جميل للرعاية الصحية شركة “هولوايز” في توزيع تقنية الواقع الافتراضي المنقذة للحياة على أكثر من 2.4 مليون جراح في جميع أنحاء الشرق الأوسط وأفريقيا.

ووفقا لأحد المستشفيات اليابانية التي استخدمت بالفعل “هولوايز” “تساعد هذه التقنية على  فهم الأماكن و تحديد العناصر المهمة بشكل أفضل مقارنة بمشاهدة الصور ثنائية الأبعاد على الشاشة. كما يمكن مشاركة هذه المعلومات بسهولة مع أطباء آخرين. وهذا يقلل من المخاطر التي تحدث أثناء الجراحة كما أنه فعال للغاية في تعليم الأطباء الشباب والأقل خبرة. “[15]

إن هذه الفكرة التي تقوم على البيانات الحية ومشاركتها عبر الأنظمة الأساسية الآمنة، وتحويل الأكواد إلى صور مجسدة، وتوفير مساحة مشتركة للمتخصصين لتوحيدهم في مشروع له عواقب حقيقية في الوقت الفعلي لا تعكس سوى جزء صغير من غزو الميتافيرس لحياتنا. فهي توضح اندماج التقنيات الجديدة التي ستساعد الميتافيرس على اكتشاف أهدافه وبلوغه مرحلة النضج. كما أنها تعد مؤشراً آخر على كيفية تداخل الميتافيرس  بشكل أكبر في حياتنا المادية.

ولكن ماذا عن أنشطتنا الرقمية اليومية: اجتماعات العمل التي نجريها بواسطة “زووم”، أو اللقاءات العائلية التي نتمتع من خلال تطبيق “واتس آب”؟ كم من الوقت نحتاج قبل أن تنتقل هذه المؤتمرات من أشكالها الحالية إلى شكل أقرب إلى الواقع؟ يمكن لاستثمار آخر من شركة عبد اللطيف جميل أن يلقي بعض الضوء هنا أيضاً.

الميتافيرس: موعد مع المستقبل

في بداية عام 2022 ، قررت شركة تويوتا تركيا، وهي جزء من شركة عبد اللطيف جميل للسيارات في تركيا، اختيار مكان غير عادي لاجتماعها الاستراتيجي السنوي – الميتافيرس. حيث اجتمع أكثر من 100 من أصحاب المصلحة فعلياً باستخدام مجموعة متنوعة من صور الواقع الافتراضي والواقع المعزز والصور المجسمة ثلاثية الأبعاد وغيرها من أدوات عقد المؤتمرات المطورة.

ويقول  علي حيدر بوزكورت، الرئيس والمدير التنفيذي لشركة عبد اللطيف جميل تركيا، معلقا على الحدث: “من المهم أن نواصل تبني تكنولوجيات جديدة ، وأن نفهم كيف يمكننا الاستفادة من الابتكارات وتطبيقها على ممارسات أعمالنا”.[16]

وبعد بضعة أشهر، وتحديدا في يونيو 2022، أطلقت علامة السيارات الفاخرة “لكزس تركيا” سيارة “لكزس إن إكس”، من خلال حدث يقوم على تجربة الميتافيرس  الرائدة و تقنية الـ  “Special NX NFT Artwork”  لينطلق حدث إعلامي مادي رقمي فريد من نوعه.

كانت لكزس محطا للإطراء والإعجاب لخروجها عن الإطار التقليدي لإطلاق السيارات الجديدة بهذا الحدث، حيث التقى رجال الإعلام في قاعة كبيرة في بيليك بأنطاليا وجلسوا على طاولات متباعدة. وخلال الأسابيع التي سبقت الحدث، تم طلب صور للمشاركين لإنشاء صورهم الرمزية الفريدة الأشبه بالحقيقة خصيصًا لميتافيرس. حصل كل مشارك على أحدث نظارات الواقع الافتراضي عالية التقنية والتي سمحت للجميع بالدخول بسهولة إلى هذا العالم الرقمي، والذي تم إعداده خصيصاً من أجل لكزس في عالم الميتافيرس.

التقى المشاركون مع المديرين التنفيذيين لشركة لكزس، وتحدثوا مع زملائهم، وأجروا مقابلات مع المديرين التنفيذيين لأول مرة في عالم الميتافيرس. استمتع الضيوف بعناصر الألعاب التفاعلية، مثل بناء NX الجديدة في بيئات مختلفة متنوعة، مصممة خصيصاً مع أخذ تصميم لكزس في الاعتبار.

إذن، وبطريقتنا الخاصة في عبد اللطيف جميل، نحن نساعد في رسم  ملامح هذا المولود الجديد – الميتافيرس – الذي مازال في مراحل نموه الأولى.

فإلى أين قد يأخذنا كل ذلك؟

قد يمثل استيعاب مقال مثل هذا تجربة مختلفة في المستقبل القريب.

قد تكتشف ذلك ليس من خلال متابعة  رابط على الهاتف المحمول أو تمرير الأخبار على الكمبيوتر المحمول الخاص بك، ولكن أثناء تصفح بعض المكتبات الافتراضية في بيئة ثقافية تغمرك بالكامل من خلال عالم الميتافيرس المتطور. وقد ترغب في استدعاء بعض الأصدقاء للجلوس معك حول طاولة القهوة الافتراضية للقراءة والدردشة معًا، فتتفاعل صوركم الرمزية بشكل طبيعي تماما كما يحدث في الحياة المادية. وبعد مغادرتهم، ربما ستقرر إنهاء استيعاب المقال ببعض الألحان الموسيقية المصاحبة. لكن ماذا ستستمع؟ تشعر قليلا بالكآبة، لذلك فقد تقرأ واجهة الدماغ والحاسوب BCI إشارات دماغك وتعد لك سيمفونية خاصة، استجابة  لمشاعرك فتخلق “لحظة” رقمية متسامية.

وتظل مدينة الميتافيرس الفاضلة مجرد حلم… ففي النهاية، عالم الميتافيرس هو عالم من صنع الإنسان وسيقطنه الإنسان،  والإنسان لا يخلو من المآخذ والعيوب على  الرغم من كل صفاته الرائعة.

وكل ذلك لا يعفينا من مسؤوليتنا لضمان أن يكون الميتافيرس، بمجرد خروجه من مرحلة المراهقة المضطربة المحتملة، مكاناً شاملاً آمناً تتسع من خلاله الأفاق وتولد الفرص وتتفتح العقول.

يبدو أن مسؤولية وضع اللبنة الأولى  لهذا المشروع الضخم تقع على عاتق جيلنا. فعلينا أن ندعم الميتافيرس، والذي يعتبر بمثابة أول تجربة حقيقية لنا في بناء العالم، كي يصبح رمزاً دائماً لإبداع البشرية وتعاونها.

 

[1] https://www.theguardian.com/technology/2021/oct/28/facebook-mark-zuckerberg-meta-metaverse

[2] https://trends.google.com/trends/explore?q=metaverse&geo=GB

[3] https://about.fb.com/news/2021/08/introducing-horizon-workrooms-remote-collaboration-reimagined/

[4]  يمثل قانون مور ملاحظة صدرت في عام 1965 عن جوردون مور، المؤسس المشارك لشركة ntel ، تقول بأن عدد الترانزستورات (وبالتالي قوة المعالجة) في دائرة متكاملة كثيفة يتضاعف كل عامين تقريبًا.

[5] https://www.forbes.com/sites/charliefink/2021/12/30/this-week-in-xr-its-beginning-to-look-a-lot-like-questmas/?sh=22c4f7802580

[6] https://www.reuters.com/markets/us/pokemon-go-creator-niantic-valued-9-bln-after-coatues-investment-2021-11-22/

[7] https://www.bitkraft.vc/reality-check/ 

[8] https://www.weforum.org/agenda/2022/02/future-of-the-metaverse-vr-ar-and-brain-computer

[9] https://www.scientificamerican.com/article/new-brain-implant-transmits-full-words-from-neural-signals/

[10] https://www.forbes.com/sites/saibala/2020/09/21/elon-musks-neuralink-is-attempting–to-make-brain-machine-interfaces-to-help-individuals-with-paralysis/?sh=75a891365a6a

[11] https://www.mckinsey.com/business-functions/mckinsey-digital/our-insights/what-is-the-metaverse-and-what-does-it-mean-for-business?cid=eml-web

[12] https://www.businessinsider.com/chipotle-mcdonalds-wendys-metaverse-virtual-worlds-photos-2022-4?r=US&IR=T

[13] https://about.fb.com/news/2021/09/building-the-metaverse-responsibly/

[14] https://www.mckinsey.com/business-functions/mckinsey-digital/our-insights/the-promise-and-peril-of-the-metaverse

[15] https://holoeyes.jp/wp-content/uploads/2021/08/hiroshima.pdf

[16] https://alj.com/en/perspective/sharing-a-vision-of-a-virtual-future/