سيكون التعاون ضرورياً لدفع الجهود العالمية الرامية إلى إدارة استخدام المياه بشكل مستدام ومسؤول.

أصبح مفهوم الحياد الكربوني شائعاً اليوم بعد ما صادقت العديد من الحكومات وقادة الصناعة حول العالم على اتفاقية تحقيق هدف صافي الانبعاثات الصفرية بحلول عام 2050. بيد أن هذا الإجماع يبدو غائباً في حالة الحياد المائي الذي لا يقل أهمية أبداً عن الحياد الكربوني. لكن الآمال ما زالت منعقدة على أن يشغل هذا المفهوم حيزاً كبيراً ومتزايداً في أروقة عالم الأعمال والسياسة الدولية. فما هو الحياد المائي وما الذي يعنيه بالضبط؟ 

بدايةً، علينا أن نلقي نظرة على الدور الذي يلعبه الماء في حياتنا. غني عن البيان أن شرب الماء بكميات كافية لهو حاجة ضرورية لاستمرارية الحياة نفسها. كما أن الماء يلعب دوراً جوهرياً في نواحٍ أخرى عديدة أيضاً، فنحن نستخدمه في منازلنا كل يوم في أعمال الغسيل والطبخ والتنظيف، ويحتاجه المزارعون لري المحاصيل وإنتاج الغذاء، فضلاً عن أنه يشكل مكوناً أساسياً في العديد من الصناعات – من المعادن إلى المواد الكيميائية إلى الورق. 

ومن المفارقات العجيبة أن المياه تغطي نحو 70% من كوكبنا، لكن المياه العذبة منها –  ورغم حاجتنا الملحة إليها –  نادرة جداً، إلى حد أنها تشكل 3% فقط من مجمل مياه الكوكب. والمؤسف كذلك أن ثلثي هذه المياه إما أنه غير متاح للاستخدام أو تحتبسه الأنهار الجليدية المتجمدة1. وما يُفاقم من هذه المشكلة هو أن استهلاك المياه آخذ في الارتفاع بمعدلات متزايدة. فعلى الصعيد العالمي، ووفقاً لتقرير تنمية المياه في العالم لعام 2023 الصادر عن اليونسكو2، ارتفع استهلاك المياه بنحو 1% كل عام على مدى السنوات الأربعين عاماً الماضية. ويرجع ذلك بالأساس إلى عوامل عديدة أبرزها النمو السكاني، وتغيّر أنماط الاستهلاك، والتنمية الاجتماعية والاقتصادية. كما تشير التقديرات إلى أن الطلب العالمي الإجمالي على المياه سيستمر في النمو بنسبة 1% سنوياً – فيما يُتوقع أن تتراوح الزيادة ما بين 20% و 30% بحلول عام 2050.

ندرة المياه المتفاقمة

إن تزايد الطلب على المياه يشكل أزمة في حد ذاته، ومن البديهي أن تغيّر المناخ وارتفاع درجة حرارة الكوكب في العديد من الأماكن من شأنهما أن يفاقما هذه الأزمة على نحو يجعل المياه أكثر ندرة. ولنا أن نعرف مثلاً أن العام 2023 شهد جفافاً شتوياً غير مسبوق في معظم أنحاء أوروبا – بعدما كان يُعتقد أن صيف عام 2022 هو الأكثر جفافاً في القارة منذ 500 عام3. إن النتيجة المباشرة لتراجع منسوب المياه إلى أقل بكثير من المعتاد هي أن القوارب في ألمانيا لن تتمكن من تحميل جميع حمولتها في بعض الموانئ، وأن الحدائق العامة في برشلونة لن تجد ما يكفي من المياه لريها. وثمة دراسة دولية حديثة كشفت عن أن تغير المناخ يؤدي إلى تفاقم الجفاف في القرن الأفريقي4.، مما يتسبب في تلف المحاصيل، ونفوق الماشية، وانخفاض كميات المياه السطحية، وتزايد خطر النزاعات المسلحة، والتي ستخلف وراءها أكثر من أربعة ملايين شخص في المنطقة بحاجة إلى مساعدات إنسانية.

ومن البديهي أيضاً أن عالماً يعاني من نقص في المياه سيواجه حتماً مشكلات خطيرة تتراوح بين الأزمات المالية الحادة إلى المجاعات والصراعات المسلحة. في واقع الأمر، باتت هذه الأزمات جزءاً من حياة كثير من الناس حول العالم، إذ يعاني ما بين مليارين إلى ثلاثة مليارات شخص على مستوى العالم بالفعل من نقص المياه لمدة شهر واحد على الأقل في السنة. ومن المتوقع أن يتضاعف عدد سكان المدن الذين يواجهون شُح المياه ليصل إلى 2.4 مليار شخص بحلول عام 2050 5. ويشير تقرير اليونسكو بشأن تنمية المياه في العالم لعام 2023 6 – الذي صدر على هامش مؤتمر الأمم المتحدة للمياه في نيويورك في وقت سابق من هذا العام – أن ندرة المياه التي تفاقمت بسبب تغيّر المناخ في بعض المناطق يمكن أن تؤدي إلى خسارة 6% من الناتج المحلي الإجمالي بحلول عام 2050.

ما هي البصمة المائية؟

إن مشكلة بحجم ندرة المياه تستلزم تكاتفاً جماعياً من أجل معالجة هذه الأزمة الملحة، ولا بد أن تكون البداية عبر إذكاء الوعي بين الأفراد والشركات والحكومات بشأن استخدام المياه والطرق الأمثل لإدارة استهلاكها. وهذا بدوره يتطرق بنا إلى مفهوم “البصمة المائية”. فعلى غرار البصمة الكربونية، يشير مفهوم البصمة المائية إلى كمية المياه التي يستهلكها شخص أو مبنى أو مؤسسة – أو المستخدمة في أنشطة معينة.

وفقاً لشبكة البصمة المائية، فإن البصمة المائية هي مؤشر “يقيس كمية المياه المستخدمة في إنتاج كلاً من السلع والخدمات التي نستخدمها. ويمكن قياس هذه الكمية في مجال واحد، مثل زراعة الأرز، أو منتج معين مثل بنطال من قماش الجينز، أو الوقود الذي نضخه في سيارتنا، أو لدى شركة متعددة الجنسيات”. وطبقاً لهذا المقياس، تبلغ البصمة المائية للفرد الواحد في دولة الإمارات العربية المتحدة، على سبيل المثال، 2,270 جالوناً في اليوم. وعلى سبيل المقارنة، تبلغ البصمة المائية للفرد الواحد في بنغلاديش 557 جالون في اليوم 7.

على المستوى المحلي، يمكن تقليل هذا الاستهلاك بطرق مختلفة، أهمها تغيير سلوكنا الاستهلاكي عن طريق تقصير مدة الاستحمام، مثلاً، أو إغلاق الصنبور أثناء تنظيف أسناننا، ما يؤدي إلى استخدام كميات أقل من المياه في منازلنا. ومن الممكن أيضاً تحقيق ذات الهدف عن طريق تركيب أجهزة حديثة مثل الصنابير الذكية أو المراحيض الموفر للمياه. وثمة أيضاً طرق أخرى لتقليل الاستهلاك تتمثل في إعادة استخدام المياه المنزلية. على سبيل المثال، يستخدم بعض الأشخاص دلواً لتجميع مياه الاستحمام ومن ثم إعادة استخدامها لاحقاً في تنظيف السيارة. كما أن تجميع مياه الأمطار لاستخدامها في الأغراض المنزلية يمكن أن يقلل أيضاً من استهلاك المياه بشكل عام.

وبالإمكان أيضاً التوسع في تطبيق مبدأ تقليل الاستهلاك وإعادة الاستخدام إلى المجال التجاري والصناعي، كما هو الحال لدى بعض الشركات التي تضرب لنا أمثلة مشجعة في هذا الصدد. فعلى سبيل المثال، خفضت شركة المنتجات الاستهلاكية متعددة الجنسيات كولجيت بالموليف استخدام المياه في عملياتها الإنتاجية بنسبة 52% بين عامي 2002 و 2022 – أي ما يعادل حوالي 26,000 حمام سباحة بحجم أولمبي. وتسعى الشركة الآن إلى تحقيق الحياد المائي في جميع مرافق التصنيع التابعة لها في المناطق التي تعاني من الإجهاد المائي بحلول عام 2025، وسائر المواقع الأخرى بحلول عام 2030. 8  

وفي قطاع التكنولوجيا، نرى جهوداً محمودة من جانب عدد من الأسماء البارزة للحد من استهلاكها للمياه. فمثلاً، تتبنى «جوجل» بمقراتها في ماونت فيو في خليج سان فرانسيسكو بالولايات المتحدة الأمريكية، مجموعة من تقنيات ترشيد استخدام المياه مثل تجميع مياه الأمطار وإعادة تدوير مياه الصرف الصحي، (يمكن للأبنية الأكبر حجماً، مثل المكاتب، الاستفادة من أنظمة تجميع مياه الصرف الصحي ومعالجتها ثم إعادة استخدامها، والتي يكون تركيبها في المنازل غيرمجدٍ اقتصادياً بشكل عام). كما تستخدم الشركة تقنية المضخات الحرارية الأرضية لتقليل الاستهلاك السنوي لطاقة التبريد في مقرها بنسبة 60%، وتقليل الطلب المباشر على المياه للتبريد بنسبة 90%. وتعمل «جوجل» أيضاً على تقليل كمية المياه التي تستخدمها لتبريد مراكز البيانات التابعة لها، من خلال تدبير المياه من أماكن مثل المنشآت الصناعية والبحر والقنوات المائية – أو حتى استبدال التبريد المائي تماماً بتقنية التبريد بالهواء.

لكن العديد من الشركات والمؤسسات الأخرى ستواجه حتماً صعوبات بالغة في تقليل البصمة المائية إلى الصفر من خلال الاعتماد فقط على تدابير تقليل الاستهلاك وإعادة الاستخدام وحدها. فمن الناحية العملية، وكما هو الحال في مجال تعويض الكربون، فإن الوصول إلى ما يمكن أن نسميه “الحياد المائي” غالباً ما ينطوي على تعويض أي استخدام للمياه نتيجة تنفيذ هذه التدابير، وذلك من خلال الاستثمار في مبادرات تسهم في توفير المياه أو استعادتها أو تجددها.

على سبيل المثال، ساهمت «جوجل» في مشروع لتقليل كمية المياه المسحوبة من خزان بحيرة ميد في ولايتي نيفادا وأريزونا الأمريكيتين. كما أنها تستثمر في أنظمة تجميع مياه الأمطار في أيرلندا، وفي جهود إزالة النباتات الأكثر استهلاكاً للمياه من جبال سان غابرييل بالقرب من لوس أنجلوس لدعم النظام البيئي المحلي. ومن خلال مثل هذه المخططات، تأمل الشركة إلى تحقيق الاستهلاك “الإيجابي للمياه” بحلول عام 2030 – وهو ما يعني أنها ستُعوض 120% من المياه التي تستهلكها في مكاتبها ومراكز بياناتها9. وعلى صعيد آخر، قدمت كلاً من «فيسبوك» و «مايكروسوفت» تعهدات مماثلة لتعويض المياه بكميات تفوق استهلاكها بحلول عام 2030 10، 11.

العمل في إطار منظومة متكاملة

قد تبدو فكرة الحياد المائي وسيلة سهلة لتقليل البصمة المائية إلى الصفر. لكن الواقع العملي أكثر تعقيداً، لأسباب ليس أقلها أن جزءاً كبيراً من البصمات المائية – سواء من الأفراد أو الشركات – غير مباشر.

وهذا لأن الطلب على المياه لا يُعزى فقط إلى كمية المياه التي نستخدمها في منازلنا، بل ينشأ أيضاً من المياه المستخدمة في زراعة طعامنا أو صنع ملابسنا أو العديد من المنتجات والخدمات الأخرى التي نحتاجها كضرورات في حياتنا. فبحسب شبكة البصمة المائية، “يستهلك” كل فرد على مستوى العالم في المتوسط 5,000 لتر من المياه يومياً. ويبلغ متوسط البصمة المائية للنسيج القطني 10,000 لتر لكل كيلوغرام – ما يعني أن بنطال واحد من قماش الجينز قد يكلف 8,000 لتر من الماء لصنعه! فيما تتطلب زراعة كمية من الشاي الأسود بحجم كوب واحد ما يصل إلى 120 كوباً من الماء 12.

أما تأثير الأنشطة التجارية على استخدام المياه فهو بالتأكيد أكثر تعقيداً. وفي هذا الصدد، يرى الخبراء في شركة ماكنزي وشركاه 13 أن البصمة المائية لأي شركة تتأثر بأربعة عوامل رئيسية في سلسلة القيمة: المواد الخام والموردين والعمليات المباشرة واستخدام المنتج. ولنأخذ مثلاً دورة إنتاج قميص قطني، حيث يتم استخدام الماء أولاً في زراعة القطن الضروري لحياكة القميص، ثم من قبل المورد الذي يعالج القطن لتحويله إلى قماش، ثم من قبل الشركات التي تصنع القميص وتنقله وتبيعه – وبعد ذلك كله من قبل الشخص الذي يشتري القميص ويغسله في المنزل.

في كثير من الأحيان، تنصب طموحات الشركات تجاه الاستهلاك الإيجابي للمياه فقط على العمليات المباشرة. على سبيل المثال، يقتصر تعهد «جوجل» على المياه المستهلكة في مكاتبها ومراكز بياناتها، لكنه لا يشمل المياه المستخدمة في أماكن أخرى ضمن سلسلة القيمة الخاصة بها، مثل تصنيع الأجهزة ومعدات مركز البيانات. وبالنسبة لبعض الشركات الأخرى – كما هو الحال في قطاعيّ التصنيع أو الزراعة – نجد أن البصمات المائية، المباشرة وغير المباشرة، تتسم بقدر كبير من التعقيد. والخلاصة أن ثمة العديد من الأسباب التي تدفعنا إلى التفكير في مفهوم بصمة المياه على المستوى المنظومي من أجل تحقيق نتائج ملموسة في ملف الحياد المائي.

الحاجة إلى تعزيز إدارة المياه

تأتي المياه العذبة من مستجمعات الأمطار، والمعروفة أيضاً باسم أحواض الصرف، وهي المناطق التي تتجمع فيها مياه الأمطار وتتدفق منها إلى المسطحات المائية مثل الأنهار أو البحيرات. لكن العديد من هذه الأحواض والمسطحات تتعرض للإجهاد الذي يستنزف نسبة عالية من المياه. وتتطلب حماية مستجمعات المياه وتعزيزها زيادة التركيز على إدارة المياه – الذي تُعرفه منظمة الأمم المتحدة للتنمية الصناعية (اليونيدو) بأنه ” استخدام المياه بطريقة عادلة اجتماعياً ومستدامة بيئياً ومجدية اقتصادياً”14.

وتتطلب العديد من مشاريع إدارة المياه تعزيز التعاون مع المنظمات والمجتمعات الأخرى للحفاظ على مستجمعات المياه وتعزيزها. ففي عام 2017، على سبيل المثال، دخلت «فيسبوك» في شراكة مع مؤسسة «بونفيل البيئية» و «منظمة تراوت أنلميتيد» غير الربحية لدعم تدفق المياه وصرفها في “آبر ريو غراندي” في نيو مكسيكو، باستخدام وسائل مبتكرة لإدارة المياه وتخزينها وتوصيلها. كما تتعاون الشركة مع بلدية مدينة إيجل ماونتن في ولاية يوتا، لإنشاء نظام يسمح لحدائق المدينة بإعادة استخدام مياه الصرف الصحي المعالجة من قبل شركة فيسبوك.

وثمة شركات تعمل مع الموردين والعملاء لغرض دعم الممارسات المسؤولة عبر سلسلة القيمة الخاصة بها وكذلك في عملياتها المباشرة، ومنها شركة كولجيت بالموليف التي شرعت بالفعل في اتخاذ تدابير في ضوء توقعات زيادة الإجهاد المائي في المناطق التي يعمل فيها موردوها. ويأتي على رأس هذه التدابير التعاون مع مجلس أبحاث صناعة النعناع لاستكشاف أساليب مبتكرة مثل الري الذكي الذي يُساعد في تعزيز الاستخدام المسؤول للمياه بين مزارعيّ النعناع الطبيعي. كما نظمت الشركة ندوات عبر الإنترنت لتسليط الضوء على أفضل ممارسات الإشراف على المياه بين الموردين الهنود. وبحلول عام 2025، تسعى الشركة إلى إشراك 100% من موردي المواد في المناطق المجهدة مائياً في تصميم التدابير الوقائية الرامية إلى تحقيق الأمن المائي15.

وجاء التعهد المثير للاهتمام بشكل خاص العام الماضي من شركة بروكتور آند غامبل الأمريكية متعددة الجنسيات (P&G)، التي تأخذ في الاعتبار سلسلة القيمة بأكملها في استراتيجيتها نحو مستقبل إيجابي للمياه. وبحسب هذه الاستراتيجية المنشورة في عام 2022 16، وضعت بروكتر آند غامبل هدفاً لعام 2030 يتمثل في استعادة كميات من المياه تفوق ما يتم استهلاكه من مواقع التصنيع التابعة لها في 18 منطقة تعاني من الإجهاد المائي في جميع أنحاء العالم. والأكثر من ذلك أن الشركة تستهدف بحلول العام نفسه استعادة كمية من المياه تتجاوز بكثير ما يتم استهلاكه عند استخدام منتجات بروكتر آند غامبل في منطقتين حضريتيّن تعانيان من الإجهاد المائي: لوس أنجلوس ومكسيكو سيتي. وتقدر بروكتر آند غامبل أن هاتيّن المنطقتيّن تمثلان أكثر من نصف إجمالي استهلاك المياه المرتبط بمنتجات بروكتر آند جامبل في جميع المناطق الـ 18 ذات الأولوية.

التعريف والقياس

يقودنا كل ما سبق إلى استنتاج أن الجهود المبذولة في ملف إدارة المياه تكتسب زخماً متسارعاً، لكن التحديات لا تزال جسيمة، وبعضها يتعلق بتحديد المفاهيم والطموحات. على سبيل المثال، لا يشير “استهلاك” المياه بالضرورة إلى جميع استخدامات المياه، والذي يتم تعريفه عادةً بأنه كمية المياه التي لا تعود إلى الحوض المحلي، ولكنها تُفقد من خلال التسرب أو التبخر أو الاندماج في المنتجات. وهذا هو تحديداً التعريف الذي تتبناه «بروكتور آند غامبل» و «فيسبوك» لمصطلح الاستهلاك، في حين أنه يتسم بعدم الوضوح في حالات أخرى.

وسرعان ما تصبح الأمور أكثر تعقيداً عندما يتعلق الأمر بتعريف “استعادة” المياه، ذلك أنه ربما يُشير إلى أشياء متفرقة في أماكن مختلفة. مثلاً، تقول بروكتر آند غامبل، في استراتيجيتها المائية، أن أفضل تعريف للاستعادة هو “تحسين المياه أو إدارتها أو حمايتها” عبر مشاريع قابلة للتنفيذ مثل إدارة الأراضي الرطبة، وإعادة تشجير الأراضي، وتحسين أنظمة الري، فضلا عن وقف التسرب ودعم برامج الحفاظ على الموارد المائية الطبيعية. وتقول بروكتر آند غامبل أيضاً أن مثل هذه التدابير تساعد على حماية النظم البيئية، وإعادة تغذية إمدادات المياه الجوفية، وتقليل كمية المياه المسحوبة، وتحسين جودة المياه.

وثمة عائق آخر يتمثل في قياس فعالية مثل هذه التدابير، وهو التحدي الذي يتصدى له معهد الموارد العالمية (WRI)، الذي يُركز ضمن أولوياته الرئيسية على بناء مستقبل آمن مائياً. وفي هذا الصدد، أرسى المعهد منهجية موحدة لتحديد أنشطة إدارة المياه والترويج لها 17، على غرار تلك التي تستخدمها شركات مثل فيسبوك. كما يتعاون المعهد مع شركات فردية، أبرزها بروكتر آند غامبل وشركة كارجيل العملاقة للأغذية، في سبيل تطوير استراتيجيات وأهداف متعلقة بالمياه.

التحديات السياسية

بصرف النظر عن التحديات التقنية، تواجه الجهود العالمية أيضاً عقبات سياسية هائلة أمام تحقيق الإدارة الجيدة للمياه والحياد المائي، وهي تحديات تبدو جلية بوضوح عند استعراض حقائق قطاع الزراعة، الذي يستحوذ على الحصة الأكبر من استهلاك المياه في العالم بواقع 70%، بحسب دراسات شركة ماكينزي 18، مقارنة بـ 19% للاستهلاك الصناعي و11% فقط للاستهلاك المنزلي. وبالتبعية، يواجه قطاع الزراعة بعض من أصعب التحديات التي تشكلها أزمة المياه.

ويقول البنك الدولي أن العوامل التي تعيق تحسين إدارة المياه في الزراعة تشمل “قصور السياسات العامة، وضعف الأداء المؤسسي، وقيود التمويل” 19. على سبيل المثال، غالباً ما تعاني السلطات المختصة بإدارة أحواض المياه من قصور في إنفاذ مخصصات المياه، يصاحبه ضعف في الاستثمار من جانب الحكومات ومستخدمي المياه في أنظمة الري والصرف. وفي حين أن المشاريع الفردية التي يمولها البنك الدولي قد أدت إلى تحسينات ملموسة، إلا أن البنك نفسه يقر بأن مواجهة التحديات المستقبلية ستتطلب “مراجعة شاملة لآلية إدارة المياه في القطاع الزراعي”. وعلى نفس المنوال، تحذر منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية من أن التحديات المقبلة المتعلقة بإدارة المياه في الزراعة قد تكون”معقدة إلى حد كبير ومتنوعة بحسب المنطقة” 20، وهي بذلك تدعو الحكومات إلى العمل على تحسين الأطر التشريعية، وإيجاد حوافز للمزارعين، والحد من الاستخدام المفرط للمياه.

لا بديل عن التعاون

من الواضح أن العقبات ما تزال هائلة أمام جهود تحسين إدارة المياه وتحقيق الحياد المائي، لكن التطورات مع ذلك تبدو مبشرة وواعدة.

Illustration by Graeme Mackay

ونحن، في عبد اللطيف جميل، نفخر بدورنا الجوهري في ابتكار بعض من هذه الحلول، من خلال ألمار لحلول المياه، التي تكرس نفسها لتطوير حلول تكنولوجية تستجيب للتحديات المتعلقة بالمياه وإدارة موارد المياه بكفاءة في سبيل بناء مجتمعات أكثر صموداً واستدامة.

تُركز ألمار لحلول المياه بالأساس على إيجاد حلول غير تقليدية لمشكلة ندرة المياه، مثل تحلية المياه وإعادة استخدامها، في كل من القطاعيّن السكني والصناعي، مع التزام راسخ بالجودة والابتكار والاستدامة. ففي مارس 2023، على سبيل المثال، أبرمت الشركة عقداً مع شركاء آخرين لبناء محطة لمعالجة المياه تخدم مشروع منشآت حقل الزلف النفطي البحري في الخليج العربي، مما قلل بشكل كبير من البصمة المائية للحقل. ويأتي ذلك في أعقاب نجاحها في إكمال مشاريع أخرى هامة في قطاع البنية التحتية للمياه، مثل محطة الشقيق 3 الواقعة على ساحل البحر الأحمر في المملكة العربية السعودية، وهي إحدى أكبر محطات تحلية المياه بالتناضح العكسي في العالم، وتم تكريمها مؤخراً بجائزة أفضل محطة لتحلية المياه للعام في حفل توزيع جوائز المياه العالمية لعام 2023.

محطة الشقيق 3 المستقلة لتحلية المياه، على ساحل البحر الأحمر بالمملكة العربية السعودية، هي واحدة من أكبر محطات تحلية المياه بالتناضح العكسي في العالم، بسعة تصل إلى 450,000 متر مكعب / يوم، وتخدم القطاع السكني والزراعي والصناعي في محافظتيّ عسير وجازان، اللتان يقطنهما ما يقرب من 4 ملايين نسمة.

صحيح أن تسخير إمكانات التكنولوجيا مثل تحلية المياه ومعالجتها يتصدى لجزء جوهري من تحديات المياه العالمية، لكن الحاجة إلى حلول سياساتية وتقنية فعالة تبقى ملحة، مع الأخذ في الاعتبار أن الإدارة الناجحة للمياه تعتمد وبشكل جوهري على التعاون الفعال بين مختلف الجهات المعنية مثل شركات المياه الوطنية، ومرافق المياه، والهيئات التنظيمية، والمنتجين الزراعيين. وهذا تحديداً ما أكدته اليونسكو في بيانها الصادر عقب مؤتمر الأمم المتحدة للمياه لعام 2023، والذي جاء فيه أن “كل تدخل متعلق بالمياه يستلزم نوعاً من التعاون”، وأن تعزيز التعاون الدولي هو “السبيل الوحيد للحيلولة دون وقوع أزمة مياه عالمية في العقود القادمة” 21.

والواقع أن التعاون في هذه القضية شهد في السنوات الأخيرة زخماً متزايداً على الصعيد الدولي، ومن أبرز أمثلته مبادرة الرؤساء التنفيذيون للمياه ضمن الميثاق العالمي للأمم المتحدة، وهي مبادرة تلتزم فيها الشركات بالعمل في ستة مجالات تتعلق بإدارة المياه ورفع تقارير سنوية بشأن التقدم الذي تحرزه. ومن بين الشركات التي وقعت على المبادرة وعددها 240 شركة كوكا كولا ونستله وشركات كبرى أخرى. كما انضم العشرات من تلك الشركات إلى تحالف الصمود المائي  التابع للمبادرة، وهي مبادرة تم إطلاقها في عام 2020 تهدف إلى تحقيق تأثير إيجابي على المياه بحلول عام 2030 من خلال تدابير مشتركة في أكثر من 100 حوض يعاني من الإجهاد المائي.

بالطبع، تشير برامج كهذه إلى أن الشركات العالمية الكبرى باتت تدرك بشكل متزايد أهمية الإدارة الفعالة للمياه، لكن تقرير اليونسكو بشأن تنمية المياه في العالم22 يؤكد أن الحلول الناجحة لا بد وأن تأتي ثمرة التعاون الحكومات والمجتمعات والمواطنين وكذلك الشركات.

وصناديق المياه هي أحد هذه الوسائل التعاونية، وهي عبارة عن خطط تمويلية تقوم على تجميع مستخدمي المياه – مثل الشركات والمدن والمرافق الخدمية العمومية – للاستثمار في مشاريع التحسين في “المنابع”، وقد حققت بالفعل نجاحاً لافتاً في بلدان مثل كينيا والمكسيك. وفي الأخيرة، ساعد صندوق مونتيري للمياه منذ عام 2013 في الحفاظ على جودة المياه، والحد من الفيضانات، واستعادة الموائل الطبيعية.

ومع كل هذا، فإن التوسع في أوجه التعاون على غرار الحالة السابقة لا يمكن أن يتحقق في القريب العاجل، لكن الحل ربما يكمن في تصريح أودري أزولاي، المديرة العامة لليونسكو، في مؤتمر الأمم المتحدة للمياه لعام 2023 23: “المياه هي مستقبلنا المشترك وعلينا العمل معاً لتقاسمها بشكل منصف وإدارتها بصورة مستدامة”.

وبرأيي أن الخطوة الضرورية التالية قد تكون مرهقة لكنها واضحة، وهي تتمثل في إيجاد نوع من التوافق بين مختلف الجهات المعنية بتأمين مصادر نظيفة وموثوقة للمياه، والتوصل إلى رؤية مشتركة لما ينبغي عليهم بذله من جهود لمعالجة هذه الأزمة الملحة بالسرعة التي تتطلبها وقبل فوات الفرصة.

  

[1] https://www.worldwildlife.org/threats/water-scarcity

[2] https://www.unesco.org/reports/wwdr/2023/en/download

[3] https://www.theguardian.com/weather/2023/mar/04/very-precarious-europe-faces-growing-water-crisis-as-winter-drought-worsens

[4] https://www.worldweatherattribution.org/human-induced-climate-change-increased-drought-severity-in-southern-horn-of-africa/

[5] https://www.unesco.org/en/articles/imminent-risk-global-water-crisis-warns-un-world-water-development-report-2023

[6] https://www.unesco.org/reports/wwdr/2023/en/download

[7] https://www.watercalculator.org/footprint/water-footprints-by-country/

[8] https://www.colgatepalmolive.com/content/dam/cp-sites/corporate/corporate/common/pdf/sustainability/colgate-palmolive-sustainability-and-social-impact-final-report-2022.pdf

[9] https://blog.google/outreach-initiatives/sustainability/replenishing-water/

[10] https://tech.facebook.com/engineering/2021/8/facebook-is-committed-to-being-water-positive-by-2030/

[11] https://blogs.microsoft.com/blog/2020/09/21/microsoft-will-replenish-more-water-than-it-consumes-by-2030/

[12] https://www.waterfootprint.org/resources/interactive-tools/product-gallery/

[13] https://www.mckinsey.com/capabilities/sustainability/our-insights/water-a-human-and-business-priority

[14] https://www.unido.org/our-focus/safeguarding-environment/resource-efficient-and-low-carbon-industrial-production/industry-and-adaptation/water-stewardship

[15] https://www.colgatepalmolive.com/content/dam/cp-sites/corporate/corporate/common/pdf/sustainability/colgate-palmolive-sustainability-and-social-impact-final-report-2022.pdf

[16] https://s1.q4cdn.com/695946674/files/doc_downloads/esg/2022/water/P-G-Strategy-Toward-a-Water-Positive-Future.pdf

[17] https://www.wri.org/research/volumetric-water-benefit-accounting-vwba-method-implementing-and-valuing-water-stewardship

[18] https://www.mckinsey.com/capabilities/sustainability/our-insights/water-a-human-and-business-priority

[19] https://www.worldbank.org/en/topic/water-in-agriculture

[20] https://www.oecd.org/agriculture/topics/water-and-agriculture/

[21] https://www.unesco.org/en/articles/imminent-risk-global-water-crisis-warns-un-world-water-development-report-2023

[22] https://www.unesco.org/reports/wwdr/2023/en/download

[23] https://www.unesco.org/en/articles/imminent-risk-global-water-crisis-warns-un-world-water-development-report-2023