هل يخلو أي من جوانب حياتك من المواد الكيميائية؟ تتغلغل المواد الكيميائية في كل ما هو حولك بدءاً من الملابس التي ترتديها والأطعمة التي تتناولها، ووصولاً إلى الوقود الذي تستخدمه في تدفئة منزلك وتوفير الطاقة اللازمة لقيام الصناعة. ففي العالم الحديث، باتت المواد الكيميائية كالماء والهواء – لا يمكن العيش بدونها.

وتعد علاقة الإنسان بالمواد الكيميائية جد معقدة.

فاعتمادنا على المواد الكيميائية – والذي قد يصل إلى حد الإدمان كما يرى البعض – ينطوي على ثمن باهظ تتكبده البشرية. فهذه المواد لها سلبيات بقدر ما لها من ايجابيات، وتعد من أبرز مسببات الأضرار التي الحقناها ببيئتنا الغالية.

وبالطبع يبدو مستحيلاً أن نقطع علاقتنا بالمواد الكيميائية دون أن يؤثر ذلك على كل أوجه حياتنا.

تعد صناعة المواد الكيميائية مسؤولة عن تحويل المواد الخام الطبيعية – مثل الوقود الأحفوري والمعادن والفلزات والمياه – إلى العديد من المنتجات الاستهلاكية والصناعية. فإذا اختفت المواد الكيميائية اختلفت حياتنا تماماً: فبدونها لن نجد مواد كيميائية زراعية للأسمدة والمبيدات الحشرية؛ ولن تكون هناك مستحضرات صيدلانية، أو بتروكيماويات للمواد البلاستيكية والمواد الاصطناعية. وبالمثل، لن يكون هناك راتنجات أو مواد مانعة للتسرب أو مواد لاصقة للصناعات؛ ولن يكون هناك أية من المركبات غير العضوية التي لا توجد بشكل طبيعي في القشرة الأرضية.

نعم سنعيش … ولكننا سنعيش حياة جامدة يظل فيها عالمنا عالقاً بالعصر البدائي.

فما هو حجم صناعة المواد الكيميائية، وما هو حجم بصمتها السامة؟

التأثير على الناتج المحلي الإجمالي

تعكس أنماط حياتنا وسلوكياتنا الشرائية دعمنا الهائل لصناعة المواد الكيميائية. فمن الناحية التجارية، يشهد هذا القطاع ازدهاراً كبيراً. فقد حقق إيرادات تجاوزت 5.7 تريليون دولار أمريكي خلال عام 2022، مقارنة ب 5.1 تريليون دولار أمريكي في عام 2021 و 3.9 تريليون دولار أمريكي في العام الأسبق، عندما توقف النمو بسبب جائحة كوفيد -19. ومن المتوقع أن يتنامى القطاع بحوالي 1.8٪ خلال عام [1]2024.

وعالمياً، تهيمن الصين على القطاع بقاعدتها الصناعية الضخمة والمتنامية. فقد استحوذت على 43٪ من عائدات صناعة المواد الكيميائية عالمياً في عام 2021، وتلاها الاتحاد الأوروبي بنسبة 14.7٪ ثم الولايات المتحدة بنسبة 10.9٪..[2]

Illustration of map showing chemical producers by country

وتعكس أكبر الشركات من حيث الإيرادات في تلك السنة المالية نطاق الصناعة دولياً: شركة باسف (BASF) (ألمانيا، 93 مليون دولار أمريكي)، وشركة داو (الولايات المتحدة، 55 مليون دولار أمريكي)، الشركة السعودية للصناعات الأساسية (المملكة العربية السعودية، 47 مليون دولار أمريكي)، وشركة ليونديلبازل ايندستريز (المملكة المتحدة، 46 مليون دولار أمريكي) وشركة ميتسوبيشي للمواد الكيميائية (اليابان، 35 مليون دولار أمريكي).[3]

إننا نصنع المواد الكيميائية بكميات هائلة وعلى نطاق واسع يصعب على العقل البشري تصوره. ففي كل عام، يخرج أكثر من 250 مليار طن من المواد الكيميائية من مختبراتنا ومصانعنا لتلبية الطلب العالمي. وعلاوة على ذلك، ووفقاً لتقديرات منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، من المنتظر أن يتزايد الإنتاج العالمي من المواد الكيميائية الاصطناعية ستة أضعاف خلال الفترة الممتدة بين عامي 2000 و2050.[4]

وإذا كانت المواد الكيميائية الرئيسة التي يتم إنتاجها بشكل واسع – مثل الإيثيلين، والبروبيلين، والبنزين، والتولوين، والزيلين المختلط، والأمونيا، والميثانول – تبدو مخيفة، فربما لأنها كذلك بالفعل. وتشير الدراسات إلى وجود حوالي 700 مادة كيميائية خطيرة في جسم الإنسان العادي، وأكثر من 400 من هذه المواد ترتبط بالسرطانات، بينما تعد باقي المواد مسؤولة عن اضطرابات الجهاز العصبي أو الإخصاب.

Warning Symbol on a Chemical Bottle. Hazardous Chemicals

ومع تزايد معدلات الاحترار العالمي وانقراض الأنواع، بات التأثير الكلي للمواد الكيميائية على بيئتنا المهددة جديراً بالدراسة.

وفي نهاية المطاف، يمكن القول بأنه لو كان قطاع المواد الكيميائية دولة، لاحتل المركز الخامس بين أكبر الدول المسؤولة عن انبعاثات ثاني أكسيد الكربون في العالم.[5]

ثمن اعتمادنا على المواد الكيميائية

عندما نتطرق إلى الحديث عن مواجهة تغير المناخ، لا يمكننا أن نغفل المواد الكيميائية. فمنذ عام 2021، مثلت صناعة المواد الكيميائية العالمية حوالي 2% من إجمالي حجم انبعاثات الكربون عالمياً – أي ما يعادل حوالي 925 مليون طن متري من ثاني أكسيد الكربون.[6]

وبينما تعد المناحي التي تعتمد في الأساس على المستهلك في إزالة الكربون من قطاع المواد الكيميائية مهمة وفعالة، فهي لن تأتي بالنتائج المرجوة وحدها. فعلى سبيل المثال، يتم إعادة تدوير 10% فقط من المواد البلاستيكية سنوياً، وهو ما يمثل قطرة في المحيط – ومن المؤسف أن نذكر هنا المحيط وهو المكان الذي يطفو فيه الكثير من البلاستيك الذي نستخدمه ولا يعاد تدويره.

إننا نحتاج إلى رؤية أشمل، إذا كنا نرغب في تحقيق هدف بلوغ صافي الانبعاثات الصفرية الذي حددته الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ (IPCC) بحلول عام 2050. نحتاج إلى رؤية تعالج انبعاثات ثاني أكسيد الكربون الصادرة عن المواد الكيميائية خلال مراحل إنتاجها واستخدامها والتخلص منها.

وتشير تقديرات وكالة الطاقة الدولية إلى ضرورة خفض الانبعاثات التي يطلقها قطاع المواد الكيميائية بنسبة 15٪ بحلول عام 2030، حتى يظل أمل تحقيق هدف بلوغ صافي الانبعاثات الصفرية قائماً، ويمكن تلبية الطلب المتزايد على المنتجات في الوقت نفسه. لا شك أن هذا يعد تحدياً يتطلب ابداعات وابتكارات غير مسبوقة من القطاعين العام والخاص.

وبينما لا يعد قطاع المواد الكيميائية “سوى” ثالث أكبر المصادر الصناعية لانبعاثات ثاني أكسيد الكربون، يعتبر هذا القطاع في الوقت نفسه المستهلك الرئيس للطاقة. فلما هذا التناقض؟ لأن حوالي نصف مدخلات الطاقة في القطاع يتم استخدامها مباشرة كمواد خام للمنتجات (ونطلق عليها  المواد الأولية) لا مصادر الطاقة المعالجة.[7]

وبينما يتعين علينا زيادة الإنتاج من المواد الكيميائية من أجل تلبية الطلب المتزايد في المستقبل، تشير التوقعات إلى أنه لن تكون هناك حاجة إلى زيادة طاقة المعالجة بالتوازي. بل أنه من الممكن أن تشهد معدلات طاقة المعالجة استقراراً من الآن وحتى نهاية العقد عند حوالي 9 إكساجول سنوياً، مع استبدال الفحم جزئياً بالكهرباء والطاقة الحيوية.

وعلى صعيد آخر، تمثل إزالة الكربون من المواد الأولية تحدياً أكبر. ويعزى ذلك إلى أن النفط والغاز يمثلان مصادر مباشرة للهيدروجين والكربون، وهما المكونات الخام الأساسية للمواد الكيميائية التي نستخدمها في حياتنا اليومية مثل الأمونيا والإيثيلين والبروبيلين.

ونظراً لاعتمادنا عالمياً على المواد الكيميائية، فكيف يمكن للمبتكرين وصانعي السياسات مد يد العون لتوجيه القطاع نحو مستقبل أكثر مراعاة للبيئة وأكثر استدامة؟

الكفاء تعني الاستدامة

ولحسن الحظ، تنطوي صناعة المواد الكيميائية على العديد من طرائق إزالة الكربون التي تستحق الدراسة.

فيمكن إنتاج نسبة هائلة من الهيدروجين، وهو مكون كيميائي رئيس، من خلال عملية التحليل الكهربائي المطورة.

فخلال التحليل الكهربائي، يتم تحليل الماء إلى عنصري الهيدروجين والأكسجين داخل وحدة تسمى المحلل الكهربائي، وتحدث هذه العملية دون أن ينتج عنها أية انبعاثات لغازات الدفيئة. ويهدف مشروع “إيرثشوت” للطاقة الهيدروجينية الذي انطلق في الولايات المتحدة إلى خفض تكلفة الهيدروجين الأخضر بنسبة 80% لتصل  إلى دولار أمريكي واحد للكيلوجرام في غضون عقد من الزمن[8].

وتجدر الإشارة إلى أن قطاع المواد الكيميائية مهيأ لاستيعاب جيل جديد من المضخات الحرارية ذات درجات الحرارة المرتفعة. فحوالي ربع إجمالي حرارة المعالجة الكيميائية التي تتطلبها الصناعة لا تتجاوز ال 200 درجة مئوية، وهي المستويات التي تسمح للمضخات الحرارية أن تعمل. تلتقط هذه الأجهزة الطاقة الحرارية من النفايات الصناعية أو مصادر الطاقة الحرارية الأرضية الطبيعية وتعيد توزيعها للأغراض الصناعية. ويؤدي ذلك إلى زيادة كفاءة العمليات وتعزيز التحول إلى الكهرباء – فيعد ذلك نصراً مزدوجاً للقطاع.

ومن المنتظر أن تسهم الابتكارات في إحداث تحول في إنتاج المواد مثل الأمونيا والميثانول والبلاستيك الحيوي.

وتعد الدنمارك في طليعة منتجي الأمونيا النظيفة والخضراء. فمحطتها التجريبية الخاصة بتحويل الطاقة إلى أمونيا في ليمفيج – وهي قيد الإنشاء حالياً – تنتج الأمونيا عن طريق إضافة النيتروجين إلى الهيدروجين الناتج عن عملية التحليل الكهربائي[9]. ويمكن استخدام الأمونيا المنتجة كسماد زراعي، مما يساعد في تعويض ما يقدر بنحو 1% من الانبعاثات العالمية الناتجة عن تقنيات إنتاج الأمونيا التقليدية.

وقد شهد هذا العام إطلاق محطة شونلي للميثانول في مدينة أنيانج بالصين – وهي تمثل أول مرفق كبير على مستوى العالم لتحويل ثاني أكسيد الكربون إلى ميثانول[10]. تعتمد المحطة على تقنية تحويل الانبعاثات إلى سوائل الخاصة بشركة كربون ريسيكلنج انترناشونال، وتستخدم ثاني أكسيد الكربون المستعاد والهيدروجين لإنتاج حوالي 110.000 طن من الميثانول كل عام. وقد وقع مستثمرو المحطة بالفعل عقودا لتوريد 300 شاحنة ثقيلة من طراز “فاريزون أوتو” تعمل بالميثانول. ومن المتوقع أن تسهم هذه الصفقة في خفض الاستهلاك السنوي للديزل بمقدار 15 ألف طن.

ويستمر إجراء البحوث والدراسات فيما يتعلق ببديل البلاستيك الصديق للكربون، والمعروف باسم البلاستيك الحيوي. وقد تكون هذه المنتجات ذات أساس حيوي (أي مصنوعة من مواد متجددة)، أو قابلة للتحلل الحيوي، أو كليهما. وتشمل المواد القابلة للتحلل الحيوي ذات الأساس الحيوي حمض البوليلاكتيك (PLA)، والبولي هيدروكسي ألكانوات (PHAs)، والبولي بيوتيلين سكسينات (PBS)، وخلائط النشا المختلفة. وفي الوقت الحالي، لا تتجاوز نسبة البلاستيك الحيوي الـ 1% من البلاستيك الذي ينتج سنوياً ويقدر ب 390 مليون طن.[11]

وحتى مع قلقنا بشأن توافر المواد الخام وجودة التحلل الحيوي، من المتوقع أن تتضاعف القدرة الإنتاجية العالمية من البلاستيك الحيوي ثلاث مرات خلال خمس سنوات اعتباراً من عام 2022.

Illustration showing global

وتجدر الإشارة إلى أن الدول منفردة بإمكانها أن تلعب دوراً مؤثراً فيما يتعلق بخفض انبعاثات ثاني أكسيد الكربون من خلال إزالة الكربون من قطاع المواد الكيميائية.

ويركز تقرير هذا العام الصادر عن شركة ماكينزي لاستشارات الأعمال على خطة ألمانيا للحد من انبعاثات الكربون الصادرة عن جميع الصناعات (181 طن متري من ثاني أكسيد الكربون اعتباراً من عام 2021) بنسبة 35٪ بحلول عام 2030. ومن المنتظر أن يتم تحقيق ذلك جزئياً من خلال معالجة 40 طن متري من انبعاثات ثاني أكسيد الكربون الصادرة عن قطاع المواد الكيميائية[12]. وتهدف الدولة إلى خفض انبعاثات ثاني أكسيد الكربون التي يطلقها قطاع المواد الكيميائية بنسبة 50-60% من خلال استغلال أربع “أدوات لإزالة الكربون”:

  •  التخلص التدريجي من الفحم لصالح توليد البخار اعتماداً على الكتلة الحيوية، والطاقة الشمسية الحرارية، والهيدروجين، والغاز الحيوي، والتخزين الحراري، والمضخات الحرارية، وتقنيات الغلايات الإلكترونية (خفض الانبعاثات بنسبة 25-30٪)؛
  •  استخدام المضخات الحرارية ذات درجة الحرارة العالية، و إعادة ضغط البخار الميكانيكي و استخدام تقنيات فصل الحرارة (خفض الانبعاثات بنسبة 10-15٪)؛
  •  شراء الكهرباء الخضراء من خلال إبرام اتفاقيات شراء الطاقة مع منتجي الطاقة المتجددة (إمكانية خفض الانبعاثات بنسبة 10-15%)؛
  •  تحسين كفاءة استخدام الطاقة في مصانع المواد الكيميائية من خلال بعض الطرائق مثل صيانة المعدات بشكل أفضل، واستخدام وسائل الإضاءة التي لا تحتاج إلى الكثير من الطاقة وزيادة العزل (إمكانية خفض الانبعاثات بنسبة 1-3%).

Image showing how an electrolyzer works

وبالنظر إلى التحديات الكامنة في هذا القطاع، من المنتظر أن تكون مثل هذه الاستراتيجيات المنسقة جد مجدية فيما يتعلق بإزالة الكربون من قطاع المواد الكيميائية.

ولا تخلو إزالة الكربون من قطاع المواد الكيميائية من التحديات

تعتمد عملية إزالة الكربون من قطاع المواد الكيميائية، جزئيا على الأقل، على توافر الكهرباء الخضراء والهيدروجين الأخضر بسهولة ويسر. والخبر السار هنا هو أن إنتاج مثل هذه الموارد المستدامة يتزايد سنوياً، حيث تشير تقديرات وكالة الطاقة الدولية إلى أن نسبة الطاقة المتجددة المولدة في مختلف أنحاء العالم من المنتظر أن ترتفع من 29% – وهي نسبتها في الوقت الحالي – لتصل إلى 35% بحلول عام [13]2025.

على الرغم من ذلك، فإن كل صناعة في العالم تمر بمرحلة تحول بيئي سوف تتنافس من أجل الحصول على مصادر الطاقة الخضراء نفسها، وهو ما يعني أنه من المرجح أن يفوق الطلب العرض – وتزداد التكلفة بالتبعية.

وبذلك، ستظل مصادر الطاقة الحفرية خياراً اقتصادياً مغرياً في المستقبل المنظور، وهو ما يضع ضغوطاً تجارية هائلة على القائمين على المواد الكيميائية.

من ناحية أخرى قد تشعر بعض الشركات المصنعة للمواد الكيميائية بأنها مضطرة إلى نقل الإنتاج إلى بلدان لا تطبق سياسات صارمة بشأن الكربون. وحتى لو تم التوصل إلى اتفاق دولي بشأن الكربون، فإن أي تكاليف إضافية لابد أن يتم تمريرها إلى المستهلك، والذي سيظل له حرية الاختيار بين الضرورات الاقتصادية والنماذج البيئية.

وتظل هناك علامات استفهام داخل القطاع حول أطر قياس نسب الكربون والإبلاغ عنها. فعلى الرغم من وجود خطط أولية لوضع معايير عالمية للقياس والإبلاغ، إلا أنه لم يتم التوصل بعد إلى اتفاق عالمي، وهو ما يجعل عدم الاتساق يحل محل الثقة والمعيارية.

ويتعين على اللاعبين الرئيسيين أو العناصر المؤثرة في هذا القطاع إحراز المزيد من التقدم فيما يتعلق بإزالة الكربون من سلسلة قيمة المواد الكيميائية بأكملها، بما في ذلك معالجة المواد التي انتهى عمرها الافتراضي. ولا تزال النفايات تؤثر سلباً على القطاع بسبب نماذج الأعمال القديمة التي تفتقر إلى المرونة، كما أن إعادة تدوير المواد الكيميائية لا تتم بحجم إعادة التدوير في الصناعات الأخرى.

وسوف يتطلب الحد من الانبعاثات والتقاطها وإعادة استخدامها بطريقة مجدية اقتصادياً تقنيات ومهارات جديدة، تشمل كل شيء بدءاً من الكيمياء الكهربائية ووصولاً إلى الذكاء الاصطناعي. على الرغم من ذلك، يفتقر العالم إلى كل من الاستثمارات التكنولوجية والعمالة الماهرة، وقد تؤدي المنافسة مع القطاعات الأخرى إلى كبح الأمل في التحول السريع نحو إزالة الكربون في قطاع المواد الكيميائية.[14]

في ضوء كل هذه التحديات، ما هي البيئة التي تساعد على إزالة الكربون في قطاع المواد الكيميائية؟ تشمل الإجابة – لا محالة – البنية التحتية القوية والدعم السياسي.

محفزات النجاح: البنية التحتية والسياسات

لاتزال عملية نشر تقنيات التقاط الكربون واحتجازه (أي سحب ثاني أكسيد الكربون من الغلاف الجوي وتخزينه بشكل دائم) تمثل العامل الأساسي في عملية إزالة الكربون من قطاع المواد الكيميائية.

ووفقاً لاستراتيجية صافي الانبعاثات الصفرية الصادرة عن وكالة الطاقة الدولية، يتعين أن يأتي ما يقرب من 5% من إجمالي الكربون المحتجز من قطاع المواد الكيميائية بحلول عام 2030. ومع ذلك، فإن البنية التحتية لاحتجاز الكربون لا تزال تحاول اللحاق بركب التكنولوجيا.

وعالمياً، يوجد ما يقرب من 40 منشأة لاحتجاز الكربون قيد التشغيل. وحتى مع إطلاق المنشآت السبع الجديدة الهائلة والتي بدأت العمل منذ بداية عام 2022 (أربعة في الصين، واثنتان في الولايات المتحدة، وواحدة في أوروبا[15])، فإن العجز يتجلى واضحاً. فلا تمثل سعة تخزين الكربون المتوقع تحقيقها بحلول عام 2030 والتي تبلغ 110 مليون طن من ثاني أكسيد الكربون في السنة سوى عُشر الكمية اللازمة لتحقيق أهداف صافي الانبعاثات الصفرية بحلول ذلك الموعد.[16]

ولحسن الحظ، تشير الجهود التي يبذلها المشرعون والجهات التنظيمية إلى تضافر السياسات بشكل تدريجي من أجل إزالة الكربون من قطاع المواد الكيميائية عالمياً.

وفي عام 2020، أطلق الاتحاد الأوروبي برنامج استراتيجية المواد الكيميائية من أجل الاستدامة، كجزء من الصفقة الأوروبية الخضراء، والتي أكد من خلاله على ضرورة الإسراع في إزالة الكربون من القطاع. وتهدف استراتيجية المواد الكيميائية من أجل الاستدامة إلى الحد من الانبعاثات من خلال تطوير المواد الكيميائية وتقنيات الإنتاج التي تحتاج إلى طاقة أقل.

وسوف تقوم الوكالة الأوروبية للمواد الكيميائية التابعة للاتحاد الأوروبي بالتركيز على استراتيجيات متعددة بما في ذلك استراتيجيات حظر المواد الكيميائية الأكثر ضرراً في قطاع المنتجات الاستهلاكية، وقياس “التأثير الكلي” التراكمي للمواد الكيميائية عند تقييم المخاطر، إلى جانب التخلص التدريجي من المواد الضارة التي تحتوي على البيرفلورو ألكيل والبولي فلورو ألكيل – ما لم تكن ضرورية.[17]

وإلى جانب ذلك، تعمل العديد من البلدان في جميع أنحاء أوروبا على إضفاء الطابع الرسمي على مبادراتها الخاصة بإزالة الكربون من المواد الكيميائية. وتعد فرنسا أحدث الدول التي استهدفت القطاع في عام 2021، وقد تمثل هدفها في خفض الانبعاثات الصادرة عن المواد الكيميائية بنسبة 31٪ بحلول نهاية العقد.[18]

وعالمياً؛ أعلنت أكثر من 60 دولة حرباً غير رسمية على المنتجات البلاستيكية، والتي تعد أبرز العناصر في قطاع صناعة الكيماويات. حيث أعلنت كندا في عام 2022، حظر تصنيع أو استيراد المواد البلاستيكية الضارة ذات الاستخدام الواحد، بما في ذلك الأكياس وأدوات المائدة والماصات والأطباق.[19] كما قامت الهند في وقت سابق من ذلك العام، بإصدار حظر مماثل، شمل أيضاً سماعات الأذن، وعصي الآيس كريم، وأفلام التغليف، وعلب السجائر.[20]

وتتزايد الضغوط الشعبية لدفع الجهود المستمرة لإزالة الكربون من قطاع المواد الكيميائية – وما عليك إلا أن تسأل أي شركة استثمارية لديها أولويات بيئية واجتماعية وإدارية. ويمكن القول إن الاخفاق في إزالة الكربون من قطاع المواد الكيميائية يعد أكثر خطورة من تجاهل الدعوات الواضحة لاتخاذ إجراءات ايجابية وفعالة.

 كيف يمكن للقطاع الخاص معالجة الخلل في قطاع المواد لكيميائية

يتحد كبار لاعبي القطاع الخاص في مجال صناعة المواد الكيميائية خلف نظرائهم في القطاع العام لمواجهة قضية إزالة الكربون بشكل مباشر.

وتهدف مبادرة التقنيات منخفضة الكربون، المقرر إطلاقها في نهاية هذا العام، إلى استخدام التقنيات النظيفة كحافز لإزالة الكربون من قطاع المواد الكيميائية.

Low-Carbon Emitting Technologies logo

وتضم المبادرة أكثر من 70 من كبار المسؤولين التنفيذيين في مجال صناعة المواد الكيميائية، بما في ذلك ممثلين عن شركة باسف، وشركة داو وشركة شركة ليونديلبازل ايندستريز وشركة ميتسوبيشي للمواد الكيميائية.[21] ويتمثل هدفها في دعم ثقافة إزالة الكربون عن طريق معالجة التحديات التكنولوجية والتنظيمية والتمويلية والسوقية؛ وذلك من خلال التعاون خارج نطاق الصناعة من أجل تحقيق المزيد من النمو للتكنولوجيات المنخفضة كربون؛ وكذلك من خلال تطوير مشروعات واقعية لإحداث طفرة في نماذج التشغيل التقليدية.

First Movers Coalition logo

من ناحية أخرى، أطلق تحالف المحركون الأوائل، وهو مجموعة دولية تركز على القطاعات التي يصعب خفض انبعاثات الكربون الصادرة عنها مثل قطاع المواد الكيميائية، أطلق ورقة بيضاء جديدة في يوليو من هذا العام تدعو إلى استخدام تقنيات الإسمنت غير الملوثة في مجال صناعة البناء.[22]

فمن المعروف أن عملية انتاج الأسمنت تعد عملية مدمرة، ففي الوقت الذي يمثل الأسمنت ما يقدر بحوالي 10-15% فقط من كتلة الخرسانة إلا أنه يعد مسؤولاً عما يصل إلى 90% من انبعاثات الغازات الدفيئة التي تصدر عن الصناعة.[22]

لا شك أنه بدون المواد الكيميائية، فإننا لن نتمكن من تحقيق التقدم في مجتمعنا العالمي، أو تحسين مستوى معيشة الإنسان، أو البدء في العديد من المشروعات التي من شأنها أن تحد من أزمة التغير المناخي التي تلوح في الأفق.

إن فكرة “إزالة الكربون من قطاع المواد الكيميائية” أكثر شمولاً وأعمق تأثيراً مما تبدو عليه للوهلة الأولى. فهي تمثل في الواقع حجر الأساس في مجال خفض الانبعاثات التي تصدر عن الصناعات الأخرى التي تلوث البيئة بشكل كبير مثل صناعات الشحن والحديد والصلب وغيرها.

يجب ألا نخشى اتخاذ خطوات كبيرة مثل: إلغاء دعم الوقود الحفري، وسن التشريعات اللازمة للحد من الانبعاثات القاتلة، واستبدال الوقود عالي الكبريت ببدائل منخفضة الكبريت، والتخلص من النفايات البلاستيكية إلى الأبد.

إننا نريد منازل دافئة، وطعاماً لنأكله، ووظائف لكسب قوتنا، وملابس لنرتديها، وأنظمة نقل لربط شبكة الحضارة العالمية. ونريد كذلك أن نضمن حصول الأجيال القادمة على هذه الحقوق بدلاً من أن نعتبرها ترفاً نطل عليه من نافذة ضيقة. وكل ذلك يعني ضرورة إعادة صياغة علاقتنا مع المواد الكيميائية.

 

[1] https://initiatives.weforum.org/low-carbon-emitting-technologies-initiative/about

[2] https://www.mckinsey.com/industries/chemicals/our-insights/decarbonizing-the-chemical-industry

[3] https://www.iea.org/energy-system/industry/chemicals#overview

[4] https://www.energy.gov/eere/fuelcells/hydrogen-production-electrolysis

[5] https://new.abb.com/news/detail/102175/the-worlds-first-dynamic-green-power-to-ammonia-plant-takes-shape

[6] https://www.carbonrecycling.is/news-media/first-large-scale-co2-to-methanol-plant-inaugurated

[7] https://www.european-bioplastics.org/bioplastics-facts-figures/

[8] https://www.mckinsey.com/industries/chemicals/our-insights/decarbonizing-the-chemical-industry

[9] https://www.weforum.org/agenda/2023/03/electricity-generation-renewables-power-iea/

[10] https://www.deloitte.com/content/dam/assets-shared/legacy/docs/perspectives/2022/gx-pathway-to-decarbonization-chemicals.pdf

[11]  https://www.iea.org/energy-system/carbon-capture-utilisation-and-storage

[12]  https://www.iea.org/energy-system/industry/chemicals#overview

[13]  استراتيجية المواد الكيميائية من أجل الاستدامة – ECHA (europa.eu)

[14]https://www.ecologie.gouv.fr/sites/default/files/2021.05.07_Annexe_au_cp_feuille_de_route_decarbonation_chimie.pdf

[15]  https://www.canada.ca/en/environment-climate-change/news/2022/12/change-is-here-canadas-ban-on-certain-harmful-single-use-plastics-starts-to-take-effect-this-month.html

[16]  https://www.weforum.org/agenda/2022/07/india-ban-policy-single-use-plastic-pollution

[17]  https://initiatives.weforum.org/low-carbon-emitting-technologies-initiative/home

[18]https://www3.weforum.org/docs/WEF_Surfacing_Supply_of_Near_Zero_Emissions_Fuels_and_Materials_in_India_2023.pdf

[19]  https://www.nrdc.org/bio/veena-singla/cut-carbon-and-toxic-pollution-make-cement-clean-and-green