لا خلاف على أن التحوّل الوشيك إلى الاقتصاد الأخضر يوفر فرصاً اقتصادية هائلة، لكن الاستفادة من إمكاناتها الكاملة سيتطلب من الحكومات والمستثمرين وأصحاب العمل اتخاذ قرارات أقل ما توصف به أنها جريئة.

البروفيسور جيم سكيا، حامل وسام الامبراطورية البريطانية، زميل الجمعية الملكية في أدنبرة، والأستاذ في كلِّية العلوم الطبيعية، مركز السياسات البيئية، إمبريال كوليدج لندن، ورئيس الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ

وقد أوضح الرئيس الجديد للهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ (IPCC)، البروفيسور جيم سكيا، مدى إلحاح التحدي المناخي الذي يواجه العالم.

:ففي أكتوبر 2023، صرّح لصحيفة الجارديان البريطانية قائلاً:

“كلما تأخرنا في التحرك، ازدادت الانبعاثات المتراكمة من ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي، وبالتالي ارتفع مستوى الاحتباس الحراري. إن الوضع الذي نعايشه عاجل وملح، ويضعنا في ظروف صعبة بمعنى الكلمة، ولكن ما زال بإمكاننا القيام بشيء حيال ذلك إذا ما أردنا”.[1]

وخلاصة تصريح البروفيسور سكيا هو أنه إذا ما أراد العالم مواجهة التحدي الذي يفرضه تغير المناخ، فسيتعين علينا المبادرة إلى إجراء تحوّل كبير عبر جهود متضافرة وسريعة تفضي في نهاية المطاف إلى إبقاء درجات الحرارة العالمية دون المستويات الخطرة.

التحوّل الأخضر

إن إنقاذ كوكب الأرض من الأخطار المحدقة به يتطلب مزيجاً من الإجراءات الجادة تشمل بشكل أساسي تسريع التحوّل إلى الطاقة المتجددة وتطوير تقنيات جديدة لاحتجاز الكربون وتطوير بيئاتنا المعيشية. وهذا تماماً ما يؤكده التقرير الصادر عن ماكينزي في عام 2020، والذي خلص إلى أن” تحقيق انبعاثات صفرية صافية سيتطلب تحولاً جذرياً في الاقتصاد العالمي، وتغييرات واسعة النطاق في القطاعات العالمية المسؤولة عن الحصة الأكبر من الانبعاثات، وهي الطاقة، والصناعة، والتنقل، والبناء، والزراعة، والغابات، واستخدامات الأراضي الأخرى، والنفايات.[2]

واستناداً إلى النماذج التنبؤية التي أعدتها ماكينزي لاستكشاف إمكانية تحقيق انبعاثات صفرية صافية بحلول عام 2050، فمن المتوقع أنه بحلول ذلك العام، سينخفض حجم إنتاج النفط والغاز بنسبة 55% و70% على التوالي عن المستويات الحالية، بينما سيتوقف إنتاج الفحم كمصدر للطاقة تقريباً. وفي الوقت نفسه، سيزداد إنتاج الصلب بحوالي 10% – وسيكون معظمه من الصلب منخفض الانبعاثات، والذي لا يشكل حالياً سوى ربع الإنتاج.

التأثير على فرص العمل

ومن شأن مثل هذه الاتجاهات أن تخلف آثاراَ هائلة على هيكل الاقتصاد العالمي. وفي هذا الصدد، يشير التقرير إلى أن مساعي تحقيق انبعاثات صفرية صافية سينطوي على زيادة في الإنفاق الرأسمالي السنوي على مستوى العالم بنحو 3.5 تريليون دولار أمريكي سنوياً على بناء قطاعات جديدة وإزالة الكربون من القطاعات الحالية. وبطبيعة الحال، سيكون قطاع التوظيف في مرمى تأثيرات هذه التحولات، إذ تشير التوقعات إلى إمكانية توليد ملايين الوظائف الإضافية على مستوى العالم نتيجة الطلب الذي ستخلقه القطاعات المستحدثة لتحقيق انبعاثات صفرية صافية. وهذا من شأنه أن يُحدث أصداءً واسعة في الاقتصاد، ومن ذلك زيادة عدد الوظائف في مجالات مثل الطاقة المتجددة، وانخفاض عدد الوظائف في الصناعات المرتبطة بالوقود الأحفوري، على سبيل المثال.

الأمين التنفيذي لتغير المناخ في الأمم المتحدة سيمون ستيل. مصدر الصورة الأمم المتحدة.

وتأكيداً على حجم التغييرات المطلوبة والفرص الإيجابية التي تجلبها، قال الأمين التنفيذي للأمم المتحدة المعني بتغير المناخ سيمون ستيل في كلمته أمام الصحفيين في مؤتمر المناخ «كوب 28» في دبي في ديسمبر الماضي: “إن التحرك في مواجهة التطرف المناخي بطموح أكبر سيُترجم إلى مزيد من الوظائف، واقتصادات أقوى، ونمو اقتصادي أفضل، وتلوث أقل، وصحة أفضل، ومرونة أكبر بكثير، والأهم حماية الناس في كل بلد من الكوارث المناخية الرابضة على أبوابنا”.[3]

فرص عمل مليونيه

تتوقع منظمة العمل الدولية – وهي وكالة تابعة للأمم المتحدة – أن التحوّل إلى الاقتصاد الأخضر، وإبقاء مستويات الاحتباس الحراري العالمي أقل من درجتين مئويتين، من شأنه أن يؤدي إلى زيادة صافية في الوظائف بحلول عام 2030. ويتوقع تقرير[4] صادر عن منظمة العمل الدولية أنه على الرغم من أن التحوّل سيؤدي إلى فقدان 6 ملايين وظيفة، إلا أنه سيخلق في مقابل ذلك 24 مليون وظيفة – مما سيؤدي إلى زيادة صافية قدرها 18 مليون وظيفة.

وتقول منظمة العمل الدولية إن هذا لن يتأتى إلا “باعتماد ممارسات مستدامة، وتغيير مزيج الطاقة، وزيادة تبني السيارات الكهربائية، وتعزيز كفاءة الطاقة في المباني الحالية والمستقبلية.”

وبشكل عام، تشير توقعات منظمة العمل الدولية إلى أن التحوّل إلى الاقتصاد الأخضر سيجلب معه الكثير من فرص النمو.  فعلى سبيل المثال، من المتوقع أن يكون معدل توليد فرص العمل في قطاع الطاقة المتجددة أعلى بحوالي 11% من “سيناريو العمل المعتاد”. وتقول المنظمة إن الزيادة في فرص العمل ستكون مدفوعة بارتفاع الطلب على العمالة في قطاعات الطاقة المتجددة مقارنة بالوقود الأحفوري، فضلاً عن التوظيف في سلسلة القيمة الأوسع نطاقاً. على سبيل المثال، يشير تحليل المنظمة إلى أنه بالإضافة إلى العمالة المباشرة في الصناعات الخضراء، سيتم استحداث أكثر من مليونيّ وظيفة في تصنيع الآلات اللازمة لإنتاج السيارات الكهربائية وتوليد الكهرباء من مصادر الطاقة المتجددة.

شمل تحليل المنظمة 163 صناعة في 44 بلداً وخمس مناطق، وخلص إلى أن التحوّل الأخضر سيجلب معه 6.5 مليون وظيفة جديدة في قطاع البناء، و2.5 مليون وظيفة في صناعة الآلات والأجهزة الكهربائية. ومن حيث النسبة المئوية، فإن الصناعات الثلاث الأولى التي يُتوقع أن تشهد أكبر نمو في الطلب على الوظائف تتعلق جميعها بإنتاج الكهرباء، وهي الطاقة الشمسية الحرارية (3.0 في المائة)، والطاقة الحرارية الأرضية (0.4 في المائة)، وطاقة الرياح (0.4 في المائة).

ولكن يبقى أن هذه التغييرات لن تعود بالنفع على الجميع.

كما تشير منظمة العمل الدولية إلى أن فرص العمل المتوقعة “تخفي في طياتها ضرورة ملحة لإعادة هيكلة الاقتصاد، جراء فقدان الكثير والكثير من الوظائف في قطاعات الوقود الأحفوري والصناعات المرتبطة به، ولا سيما في المناطق شديدة الاعتماد على هذه القطاعات والصناعات.”

ولذلك، ترى منظمة العمل الدولية أن هذه التغييرات الهيكلية في الاقتصاد العالمي سيكون لها تأثير شديد التفاوت في أجزاء مختلفة من العالم.  ففي حين أن زيادة فرص العمل الجديدة ستكون هائلة في الأمريكيتين وآسيا والمحيط الهادئ (3,14 و12 مليون وظيفة على التوالي)، إلا أن الشرق الأوسط وأفريقيا قد يشهدان معدلات عالية لفقدان الوظائف، ما لم يتم اتخاذ تدابير سريعة لتأهيل القوى العاملة وتجهيزها لمواجهة تحديات الاقتصاد الجديد.

فجوة المهارات الخضراء

بشكل عام، يمثل التحوّل إلى الاقتصاد الأخضر فرصة تحويلية على مستوى العالم، غير أن العالم سيحتاج إلى التغلب على تحديات خطيرة حتى يتسنى له اغتنام هذه الفرصة الثمينة.

وعن ذلك، تقول أولغا ستريتسكا-إيلينا، مسؤولة منظمة العمل الدولية المعنية باستراتيجية تطوير المهارات لأسواق العمل المستقبلية: “من المحتمل أن يؤدي التحوّل إلى نموذج الطاقة المتجددة إلى زيادة فرص العمل، ولكننا بحاجة إلى إعادة تدريب العمالة ورفع مهاراتها، وهذا لا يحدث تلقائياً”.

أولاً، سيتطلب التوسع الهائل المتوقع في الصناعات الخضراء توظيف مزيد من العمالة لشغل الوظائف المستحدثة في هذا القطاع، وهذه مسألة يكتنفها قدر من التعقيد. وخلص تقرير صادر عن وكالة الطاقة الدولية العام الماضي [5]إلى أن إزالة الكربون من قطاع الطاقة العالمي يجري بالفعل على قدم وساق، حيث توظف قطاعات الطاقة النظيفة 50% من إجمالي العاملين في مجال الطاقة.  ويقول التقرير إن التوظيف في مجال الطاقة مستمر في النمو.

ومن حيث الأرقام، تقول وكالة الطاقة الدولية أن إجمالي العمالة في قطاع الطاقة في عام 2021 ارتفع بمقدار 1.3 مليون شخص مقارنة بعام 2019، ومن المتوقع أن يرتفع بنسبة 6% أخرى في عام 2022، مع استحواذ قطاع الطاقة النظيفة على جُل هذا النمو بنسبة متزايدة من العمالة تُعزى إلى دخول مرافق جديدة حيز الخدمة لتصنيع خلايا الطاقة الشمسية والسيارات الكهربائية.

ولأن قطاع الطاقة يحتاج نسبة كبيرة من العمال المهرة، تبقى هنالك شكوك قوية حول قدرة صناعات الطاقة الخضراء على توظيف عدد كافٍ من العمال ذوي المهارات اللازمة للوظائف الجديدة المستحدثة. ولنا أن نعرف مثلاً أن حوالي 45% من العاملين في قطاع الطاقة يعملون في مهن تتطلب مهارات عالية، مقارنة بربع العاملين في قطاعات الاقتصاد ككل. وتتزايد هذه النسبة في وظائف البحث والتطوير التي من المتوقع أن تنمو هي الأخرى بوتيرة سريعة في السنوات القادمة لدفع الابتكارات الجديدة.

وتقول وكالة الطاقة الدولية أن العديد من شركات الطاقة التي أجرت الوكالة معها مقابلات استطلاعية واجهت صعوبات بالغة لتوظيف أفراد يتمتعون بالمهارات المناسبة. وكان هذا هو الحال بشكل خاص في فئة مديري المشاريع، والأدوار الفنية والوظائف المرتبطة بالعلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات.

ولا يقتصر الأمر على المهارات المطلوبة في قطاع الطاقة نفسه فحسب، بل ثمة حاجة ملحة أيضاً إلى مهارات أخرى في القطاعات التي ستدعم التحوّل الأخضر، مثل البنية التحتية والنقل والتخطيط والبيئات الحضرية.

ويشير تقرير آخر لوكالة الطاقة الدولية، صادر في أكتوبر 2023، إلى أن النقص في عمال البناء [6]هدد بالفعل وتيرة زيادة منشآت الطاقة النظيفة في عشرات الأسواق في جميع أنحاء العالم، وأنه من الصعب أيضاً توظيف عدد كافٍ من الأشخاص في بعض المهن (مثل الكهربائيين والسباكين) وفي قطاعات التصنيع اللازمة لتحقيق أهداف إزالة الكربون.

وبالمثل، حذّر “التقرير العالمي للمهارات الخضراء” الصادر عن لينكد إن[7] في عام 2023 من أن “الزيادة في الطلب على المهارات الخضراء تفوق الزيادة في حجم المعروض منها. وخلص التقرير أنه بين عامي 2022 و2023، ارتفعت نسبة “المواهب الخضراء” – أي العمال الذين لديهم وظيفة خضراء أو يدرجون مهارة خضراء واحدة على الأقل في ملفهم الشخصي – بمتوسط 12.3% في 48 دولة شملتها الدراسة. وفي الوقت نفسه، ارتفعت حصة إعلانات الوظائف التي تتطلب مهارة خضراء واحدة على الأقل بنسبة 22.4%. ويقول التقرير إنه على الرغم من وجود بعض المؤشرات على التحرك في الاتجاه الصحيح، “إلا أننا ما زلنا بعيدين بشكل خطير عن حجم التغيير المطلوب”.

تنمية المواهب

ما الذي يمكن أن تفعله الحكومات والصناعات لمواجهة تحديات التحوّل إلى الاقتصاد الأخضر؟ فبالنظر إلى الفجوات المهارية التي تم تحديدها وتؤثر بالفعل على بعض حلقات التحوّل، فإن دعم العمال لاكتساب المهارات اللازمة سيكون عنصراً أساسياً في أي حملة ناجحة لإزالة الكربون.

ووفقاً لمنظمة الأمم المتحدة للتنمية الصناعية (UNIDO)[8]، تُعد المهارات الهندسية والتقنية من بين المهارات التي تكتسب أهمية خاصة بالنسبة للوظائف الخضراء، فضلاً عن القدرات في مجالات العلوم، وإدارة العمليات، والمراقبة. ويشير تقرير التوظيف في مجال الطاقة العالمي الصادر عن وكالة الطاقة الدولية[9]إلى أن التعليم العالي والتعليم الإضافي يمكن أن يلعب دوراً جوهرياً في تطوير مهارات مهمة كهذه، حيث يقول التقرير إن الروابط القوية بين أصحاب العمل والجامعات أو برامج التدريب المهني، بالإضافة إلى المنح البحثية للحصول على درجة الدكتوراه أو التدريب الداخلي أو التلمذة الصناعية، يمكن أن تعمل كخطوط إمداد بالمواهب.

كما أشار أصحاب العمل إلى الحاجة المتزايدة لتجديد مناهج تدريس الدرجات العلمية التي يكثر عليها الطلب، مثل الهندسة، وأعربوا عن ترحيبهم بالتعاون مع الجامعات لصياغة مناهج جديدة.

ومثل هذه المبادرات تجري بالفعل في العديد من الأماكن حول العالم.

ففي لندن، على سبيل المثال، تعمل 12 كلية و11 منظمة محلية وأكثر من 30 صاحب عمل ــ بمن فيهم شركات البناء الكبرى ــ معاً لتعزيز التدريب على المهارات الخضراء من خلال شراكة لندن المحلية للوظائف والمهارات الخضراء.

وتشمل المبادرة “مختبرات خضراء” في ثمانية مواقع جامعية تقدم التدريب في مجالات مهمة مثل التعديل التحديثي والتصميم بمساعدة الحاسوب.

وفي مؤتمر الأمم المتحدة المعني بتغير المناخ (COP28) في دبي، أطلق مركز بان كي مون للمواطنين العالميين دورة عبر الإنترنت مصممة لمساعدة الشباب في الوصول إلى فرص العمل الخضراء، تحت مسمى “مستقبلك في الوظائف الخضراء”. ويهدف البرنامج، المدعوم من دبي العطاء، إلى تمكين الشباب من “مواءمة أهدافهم واهتماماتهم ومهاراتهم مع المهن الخضراء الهادفة التي تعالج أزمة المناخ بشكل مباشر”.[10]

وثمة شركات عالمية في قطاعات أخرى تعلن عن مبادرات مماثلة لبناء المهارات، مثل «إرنست ويونغ» ومايكروسوفت التي أطلقت مبادرة جواز سفر المهارات الخضراء[11]  ــ وهو برنامج مجاني مدته عشر ساعات على الإنترنت يسمح للأشخاص الذين تبلغ أعمارهم 16 سنة أو أكثر بالتعرف على موضوعات مثل الاستدامة وريادة الأعمال.

وتبذل عائلة جميل أيضاً جهوداً لتحسين التعليم العالمي وتحديثه – سواء كان ذلك من خلال دعم الابتكارات في مجال التدريس والتقنيات ذات الصلة، أو من خلال دعم مبادرات المنح الدراسية والتوجيه.

فمنذ عام 1994، على سبيل المثال، ساعدنا أكثر من 200 شاب من حوالي 27 دولة على بلوغ طموحهم من خلال الدراسة في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا في الولايات المتحدة الأمريكية، وذلك من خلال برنامج جميل-تويوتا للمنح الدراسية. وينتقل العديد من خريجي هذا البرنامج إلى وظائف ناجحة في مجال الأعمال والأوساط الأكاديمية، حيث يمكنهم المساهمة في بناء مستقبل مستدام. وبالإضافة إلى ذلك، تدير شركة فوتواتيو لمشاريع الطاقة المتجددة (FRV)، التابعة لعبد اللطيف جميل للطاقة، برنامجاً للمنح الدراسية في جامعة إمبريزا الإسبانية. وتدعم هذه المبادرة الطلاب المقيمين في المواقع القريبة من مشاريع فوتواتيو لمشاريع الطاقة المتجددة للدراسة في الجامعة، وتغطي جميع تكاليف التدريب والتعليم على مدار أربع سنوات.

وتكون مثل هذه المبادرات أكثر فعالية عندما تتمكن الحكومات من وضع سياسات شاملة لتنمية المهارات اللازمة، وهو مجال يحتاج إلى كثير من التحسين والتطوير. وفي عام 2015، ذكر تقرير للاتحاد الأوروبي[12] أن “نقص التنسيق بين المهارات والسياسات البيئية” يحول دون تنفيذ استراتيجيات النمو الأخضر الطموحة، وسلط الضوء على كيفية قيام مؤسسات السياسات بتوفير إطار عمل يدعم المواهب والكفاءات الخضراء في جميع مراحل التعليم وسوق العمل.

ومن المبادرات الحديثة المشجعة التي تلبي هذه الحاجة هي نظام التصنيف الأوروبي للمهن والمهارات والكفاءات  (ESCO)، الذي نشر في عام 2022.[13] ويُحدد نظام التصنيف، المتاح في 27 لغة، المهارات ومجالات المعرفة – مثل كيفية إجراء عمليات تدقيق الطاقة أو قياس الاستدامة – التي تعتبر ضرورية للاقتصاد الأخضر. والهدف النهائي من ذلك هو دعم الحراك الوظيفي من خلال توفير “لغة مشتركة” يمكن استخدامها لمناقشة المهن ذات الصلة والمهارات التي تتطلبها.

وضع غير متكافئ

ومن الواضح أنه حتى في الأماكن والقطاعات التي يؤدي فيها التحوّل الأخضر إلى دفع النمو، لا تزال هناك تحديات خطيرة. وقد تكون هناك عقبات أكبر أمام أولئك الذين قد يتخلفون عن الركب في المستقبل القريب.

فعلى سبيل المثال، يقول تقرير ماكينزي حول التحوّل إلى الصفر الصافي أن عدد الوظائف المباشرة في قطاع استخراج الوقود الأحفوري وإنتاجه قد ينخفض بنحو تسعة ملايين وظيفة بحلول عام 2050.[14]

وهذا يعني أن الكثير من الأشخاص سيضطرون إلى البحث عن وظائف جديدة.

ولن يكون تأثير مثل هذه التغييرات متساوياً، بل سيتركز على مناطق جغرافية محددة تتركز فيها تلك الصناعات حاليا. على سبيل المثال، تقول شركة ماكينزي أنه في 44 مقاطعة أمريكية، تشهد الوظائف حالياً تراجعاً بأكثر من 10% في قطاعات مثل استخراج الوقود الأحفوري وتكريره، والطاقة القائمة على الوقود الأحفوري، وتصنيع السيارات. ويستحوذ قطاع استخراج النفط والغاز على 41% من العمالة في أبتون بولاية تكساس، في حين أن 31% من فرص العمل في كلاي بولاية إلينوي، تتركز في صناعة السيارات. ويضيف التقرير أن قطاع إنتاج السيارات في ألمانيا واليابان والمكسيك وكوريا الجنوبية يوفر “حصة كبيرة نسبياً” من فرص العمل.

ومن المتوقع أن تواجه مثل هذه المناطق اضطرابات كبيرة في السنوات المقبلة.

وعلى المستوى العالمي، من المرجح أن تنشأ هذه الأنواع من المشكلات في البلدان الأقل استعداداً لإدارتها.

وتقول ماكنزي إن البلدان التي تواجه أعلى مستويات المخاطر في التحوّل الصافي الصفري هي تلك التي يقل فيها نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي نسبياً، ومنها بنغلاديش والهند وكينيا.

وعادةً ما تتركز الوظائف ورؤوس الأموال والناتج المحلي الإجمالي في هذه البلدان في القطاعات ذات الانبعاثات العالية التي ستواجه معظم الاضطرابات في ظل الفترة الانتقالية. كما ستواجه البلدان التي تنتج مستويات عالية من الوقود الأحفوري تحديات كبيرة. ولكن بشكل عام، ستواجه البلدان الأكثر ثراءً مخاطر أقل بشكل عام بسبب اقتصاداتها القائمة على الخدمات. وتشير ماكنزي إلى أن هذا الوضع قد يؤدي إلى تزايد المخاوف من عدم المساواة، حيث ستجد البلدان الأقل نمواً التي ساهمت بأقل قدر من الانبعاثات نفسها تدفع ثمناً أكبر لمعالجة آثار تغير المناخ.

“انتقال عادل”؟

أدت هذه المخاوف إلى تنامي الزخم حول مفهوم “الانتقال العادل”. وتعرّف منظمة العمل الدولية، التي أكدت مؤخراً دعمها القوي لهذا المفهوم[15]، ذلك بأنه ” تخضير الاقتصاد بطريقة عادلة وشاملة قدر الإمكان لجميع المعنيين، وخلق فرص عمل لائقة وعدم ترك أحد يتخلف عن الركب”. وهي تضرب مثالاً على ذلك بمصنع يتحول من الوقود الأحفوري إلى الطاقة الشمسية، الأمر الذي قد يتطلب إعادة تدريب بعض الفنيين وتسريح آخرين. وترى منظمة العمل الدولية أن الانتقال العادل في هذه الحالة يتطلب مشاورات دقيقة تشمل أصحاب العمل والعمال من أجل إيجاد الحلول المناسبة. وبدون هذه المقاربات، تحذر المنظمة من أن التغييرات الاقتصادية يمكن أن تزيد من عدم المساواة الاجتماعية وخيبة أمل العمال، مما يؤدي إلى إضرابات أو اضطرابات مدنية، مع ما يترتب على ذلك من آثار ضارة على الشركات والاقتصادات

وتقول منظمة العمل الدولية أيضاً إنه على الرغم من أن جميع المعنيين يتحملون شيئاً من المسؤولية، إلا أن جهود الانتقال العادل عادة ما تقودها الحكومات. ومن أبرز الأمثلة على هذه الجهود هو صندوق الاتحاد الأوروبي للانتقال العادل الذي تبلغ قيمته 19.2 مليار يورو[16 والذي يدعم المناطق والمجتمعات الأكثر تأثراً بالتحوّل الأخضر. وتشمل المشاريع التي يمكن اطلاقها في تلك المناطق والمجتمعات إعادة صقل المهارات وإعادة التأهيل البيئي والبحث والابتكار. وستتلقى إسبانيا، على سبيل المثال، 869 مليون يورو من خلال برنامج لدعم مشاريع مثل مركز الابتكار للطاقة المتجددة البحرية في لاكورونيا ومبادرة استخدام الطحالب الدقيقة لإنتاج الوقود المتجدد في قادس[17].

ورُغم هذه الجهود، لا يزال كثيرون غير مقتنعين بجدوى التحوّل الأخضر. ويشير تقرير صدر هذا العام عن معهد «روكي ماونتن» البحثية ومقره الولايات المتحدة إلى أنه على الرغم من التوقعات الإيجابية، فإن “الوظائف الخضراء مازالت تواجه مشكلة مصداقية”[18]. ويرى التقرير أن مجرد التنبؤ بالمزيد من الوظائف ليس مقياساً كافياً، وأنه “ليس من المصداقية الإيحاء بأن الوظائف الخضراء يمكن أن تحل مباشرة محل الوظائف المحتملة أو الحالية القائمة على الوقود الأحفوري”.

ويُشير معهد «روكي ماونتن» إلى أن العديد من الوظائف الخضراء أقل جودة من تلك التي يُتوقع أن تحل محلها، من حيث الأجر أو الأمن أو السلامة – وقد تتطلب أيضاً انتقال العمال إلى أماكن أخرى. ففي الصين، مثلاً، تقع المناطق المناسبة لمشاريع الطاقة النظيفة، مثل مرافق الطاقة الشمسية وطاقة الرياح، في أماكن مختلفة تماماً عن المواقع الحالية لمناجم الفحم. وفي جميع أنحاء العالم، قد يؤدي التأثير التراكمي لمثل هذه العوامل مجتمعة إلى تدمير مجتمعات واقتصادات بأكملها من خلال تأثيرات متفاوتة مثل انخفاض الأجور والهجرة إلى الخارج وانخفاض الإيرادات الضريبية.

وبالإضافة إلى ذلك، كثيراً ما يكون التمويل اللازم لدعم نمو الصناعات الخضراء، وخاصة في البلدان النامية، غير متوفر. ويؤكد تقرير معهد «روكي ماونتن» أن حجم الاستثمار المطلوب من البلدان الغنية في بلدان الجنوب “ليس قريباً من الحدوث” في الوقت الحالي، وأن الدول الغنية ما زالت بعيدة عن الوفاء بالتزامها بتوجيه 100 مليار دولار أمريكي سنوياً إلى الدول النامية لتمويل مشاريع مواجهة تغير المناخ بحلول عام 2025، وهو الالتزام الذي تم التعهد به لأول مرة في قمة كوبنهاغن للمناخ عام 2009 وأعيد تأكيده في كل مؤتمر للأطراف منذ ذلك الحين. وفي المقابل، أنفقت حكومات مجموعة العشرين من 2017 إلى 2019 مبلغ 290 مليار دولار أمريكي سنوياً لدعم الوقود الأحفوري.

إطار عمل أوسع

ولهذه الأسباب، يمكن أن تجد التوقعات المتفائلة بشأن فوائد التحوّل إلى الاقتصاد الأخضر صعوبة في الاقتناع بها في الأماكن التي تشتد فيها الحاجة إلى الحلول. ويًقال إن العديد من القادة السياسيين الأفارقة يشككون في أعداد الوظائف الخضراء المتوقعة[1]، في حين قال رئيس اتحاد عمال المناجم في أمريكا مؤخراً إنه من المستحيل” الإشارة إلى “انتقال عادل” واحد في هذا البلد  على مدى السنوات الثلاثين الماضية [20].

وفي ضوء ذلك، يدعو معهد «روكي ماونتن» إلى وضع إطار أوسع يأخذ في الاعتبار القضية في سياق أوسع.  ويشير تقريرها إلى أنه بالإضافة إلى التحديات المناخية، يواجه العالم أيضاً مخاطر ناجمة عن اتجاهات اجتماعية واقتصادية كبرى أخرى، مثل الهجرة الدولية والابتكار التكنولوجي – فضلاً عن الأزمات الكبرى مثل جائحة كوفيد-19  والصراع الدائر بين روسيا وأوكرانيا. فعلى سبيل المثال، تقول شركة ماكينزي أنه بحلول عام 2050، من المرجح أن يكون لاتجاهات مثل الأتمتة والعمل عن بُعد تأثير أكبر على التوظيف يفوق تأثير التحوّل إلى اقتصادات خالية تماماً من الكربون [21].

وبالنظر إلى هذه التحديات الأوسع نطاقاً، يسلط معهد «روكي ماونتن» الضوء على الاهتمام المتزايد بفكرة “الرأسمالية المتجددة”، التي تأخذ في الحسبان رأس المال البشري والطبيعي، فضلاً عن الفئات المالية والصناعية الأكثر تقليدية. وهذا يمكن أن يؤدي إلى تفاهمات وفرص جديدة. على سبيل المثال، يمكن أن يكون لتأثير تغير المناخ نفسه تأثير أسوأ على المجتمعات المحلية من فقدان الوظائف المرتبطة بالوقود الأحفوري – من خلال التأثير على البيئات المعيشية للناس وسبل عيشهم وصحتهم. وقد يؤدي الاعتراف بذلك إلى تطوير مشاريع في بعض المناطق، مثل تلك التي تهدف إلى استعادة البيئات المتدهورة أو المساعدة في التكيف مع تغير المناخ، وهي مشاريع من شأنها أن تبني مجتمعات أكثر قدرة على الصمود واستدامة مع خلق فرص عمل محلية جديدة أيضاً.

ففي الولايات المتحدة وحدها، على سبيل المثال، يوجد أكثر من 5,000 منجم فحم مهجور، يُقدر أنها مسؤولة عن أضرار بيئية وصحية تفوق قيمتها 18 مليار دولار أمريكي في المناطق المحيطة. ويمكن أن يوفر إصلاح هذه المواقع وظائف تتطلب مهارات مماثلة لتلك المطلوبة في المنشآت الأصلية مع تحسين البيئات المحلية وتمهيد الطريق لمشاريع جديدة [22].

وسواء اتبعنا هذه الرؤية الجديدة للتحوّل الكبير في الاقتصاد العالمي أم لا، فمن الواضح أن التحوّل الأخضر المطلوب، إلى جانب التصدي للتحديات العالمية الأخرى، سيتطلب حلولاً مبتكرة وطرقاً جديدة للتفكير. وقد بدأت بعض المناطق الأكثر عرضة لتغير المناخ والصدمات الأخرى، مثل الدول الجزرية الصغيرة، بالفعل في اتخاذ القرارات الطموحة التي يتطلبها الوضع.

على سبيل المثال، عانت جزر المالديف مؤخراً بشدة من تأثير الجائحة وارتفاع أسعار الوقود، وهو ما دفع الدولة إلى الاستثمار في مجموعة من المشاريع تشمل استعادة البيئات الطبيعية وتحسين أنظمة الإنذار المبكر، فضلا عن زيادة قدرة الطاقة المتجددة – من أجل تعزيز قدرتها على الصمود[23].

مصدر الصورة: Nattu Adnan

كما أعلنت الحكومة عن هدف طموح يتمثل في الوصول إلى صافي الصفر بحلول عام 2030. وقد أصبحت هذه التطويرات ممكنة بفضل تمويل من القطاع الخاص بأكثر من 140 مليون دولار أمريكي – والذي تم تدبيره من خلال إطار عمل لتخفيف المخاطر تم تصميمه بالتعاون مع البنك الدولي، والذي يُساهم في هذا التمويل بمبلغ 12.4 مليون دولار أمريكي.

وهذه الشراكات التي تجمع بين المبادرة المحلية والاستثمار الخاص والسياسات الاستشرافية هي بالضبط ما نحتاجه في المرحلة الراهنة، إذ أنها تطرح نموذجاً قابلاً للتطبيق لما هو مطلوب على نطاق عالمي إذا ما أراد العالم حقاً أن يُعظم استفادته من فرص التحوّل الأخضر.

[1]https://www.theguardian.com/environment/2023/oct/02/slow-route-to-net-zero-will-worsen-global-climate-crisis-ipcc-chief-warns

[2] https://www.mckinsey.com/capabilities/sustainability/our-insights/the-net-zero-transition-what-it-would-cost-what-it-could-bring

[3] https://unfccc.int/news/as-cop28-enters-its-final-stretch-simon-stiell-calls-for-a-highest-ambition-outcome

[4] https://www.ilo.org/weso-greening/documents/WESO_Greening_EN_web2.pdf

[5]https://iea.blob.core.windows.net/assets/a0432c97-14af-4fc7-b3bf-c409fb7e4ab8/WorldEnergyEmployment.pdf

[6]https://iea.blob.core.windows.net/assets/26ca51d0-4a42-4649-a7c0-552d75ddf9b2/WorldEnergyOutlook2023.pdf

[7]https://economicgraph.linkedin.com/content/dam/me/economicgraph/en-u s/global-green-skills-report/green-skills-report-2023.pdf

[8]https://www.unido.org/stories/what-are-green-skills

[9]https://iea.blob.core.windows.net/assets/a0432c97-14af-4fc7-b3bf-c409fb7e4ab8/WorldEnergyEmployment.pdf

[10] https://bankimooncentre.org/news/your-future-in-green-jobs-press-release/

[11] https://www.ey.com/en_gl/news/2023/10/ey-and-microsoft-expand-social-impact-collaboration-and-advance-sustainability-education-worldwide-with-green-skills-passport

[12] https://www.slideshare.net/MarioVerissimo/green-skills-and-innovation-for-inclusive-growth

[13] https://esco.ec.europa.eu/en/news/green-skills-and-knowledge-concepts-labelling-esco-classification

[14] https://www.mckinsey.com/capabilities/sustainability/our-insights/the-net-zero-transition-what-it-would-cost-what-it-could-bring

[15] https://www.ilo.org/global/topics/green-jobs/news/WCMS_886213/lang–en/index.htm

[16] https://commission.europa.eu/strategy-and-policy/priorities-2019-2024/european-green-deal/finance-and-green-deal/just-transition-mechanism/just-transition-funding-sources_en

[17] https://ec.europa.eu/commission/presscorner/detail/en/ip_22_7868

[18] https://rmi.org/insight/realizing-the-green-jobs-promise

[19] https://www.chathamhouse.org/2022/08/financing-african-just-transition

[20] https://www.weku.org/ohio-valley-resource/2021-04-21/mine-workers-leader-wants-to-save-last-coal-jobs-as-biden-tackles-climate

[21]  https://www.mckinsey.com/capabilities/sustainability/our-insights/the-net-zero-transition-what-it-would-cost-what-it-could-bring

[22] https://rmi.org/insight/realizing-the-green-jobs-promise

[23]https://blogs.worldbank.org/endpovertyinsouthasia/small-island-developing-states-path-renewable-energy-and-resilience-story