المخاطر تتنامى … وكذلك المعرفة
نعيش في عالم محفوف بالمخاطر، لكن هذا لا يعني بالضرورة أننا قد قاربنا من حافة الهاوية، فوعينا بتلك المخاطر – والذي تعززه الدراسات والبحوث كتقرير المنتدى الاقتصادي العالمي السنوي عن المخاطر العالمية لعام 2024 يجنبنا بلوغ هذه المرحلة. فعندما يتسلح المرء بمثل هذا الوعي والمعرفة، يمكنه التخطيط لمواجهة الطوارىء وبناء الحصون التي تساعده في التصدي لما يحدق به من تحديات بينما هو يقطع رحلته نحو بناء حضارة مستدامة بمعنى الكلمة.
يقدم لنا الإصدار التاسع عشر من تقرير المخاطر الذي صدر عن المنتدى الاقتصادي العالمي في يناير 2024 مصفوفة متعددة الأوجه لما يواجه عالمنا من مخاطر على المدى القصير والمدى الطويل. يأتي التقرير بعد عام استحقت أحداثه أن تحتل عناوين الأخبار: فإلى جانب تسجيل أعلى درجات حرارة في تاريخ البشرية[1]، شهد ذلك العام من الصراعات والضبابية ما امتد من أوروبا إلى الشرق الأوسط،[2] وعلت فيه أصوات خبراء الذكاء الاصطناعي محذرة من تحول إمكانات تلك التقنية التي صنعتها أيديهم لتصبح نقمة على الإنسان.[3]
لذا، وبعيداً عن عناوين الأخبار التراجيدية، ما هي القضايا الساخنة التي يعدها محللو المنتدى الاقتصادي العالمي ومن شاركو في استطلاعات الرأي نذير شؤم يلوح في الأفق؟
مستقبل ضبابي … هكذا توقع الخبراء
تتحدث سعدية زاهيدي، المديرة التنفيذية للمنتدى الاقتصادي العالمي عن فترة يغلب عليها “التغير التكنولوجي المتسارع والضبابية الاقتصادية، حيث يرزح العالم تحت وطأة كارثتين: المناخ والصراعات”[4]
ويتجلى كل ذلك في التقرير الذي جاء مستنداً إلى عدد من اللقاءات أجريت مع 1500 خبير من قطاع الأعمال والأوساط الأكاديمية والمجتمع المدني والحكومة.
يتناول التقرير المخاطر التي تعد الأخطر على مدى عامين وتتطلب التحرك الفوري، وتلك التي من المنتظر أن تتصدر المشهد خلال العقد القادم.
ومن جوانب عدة، تتسم التوقعات بالنسبة للعالم على مدى العامين المقبلين بالضبابية، ويتفاقم الاضطراب وعدم التيقن عندما ننظر إلى السنوات العشر المقبلة.
فعلى المدى القصير (عامان)، يتوقع الخبراء فترة غير مستقرة (54%)، أو مضطربة (27%)، أو حتى عاصفة (3%). و16% فقط يتحدثون عن استقرار وهدوء. وعلى المدى الطويل (10 سنوات) يزداد هذا التشاؤم، حيث يتوقع الخبراء أنفسهم فترة غير مستقرة (29%) أو مضطربة (46%) أو عاصفة (17%)، ولا يتوقع الاستقرار والهدوء سوى 9%.
ويمكن تقسيم المخاطر التي شملتها التوقعات إلى خمس فئات:
1 اقتصادية
2 بيئية
3 جيوسياسية
4 مجتمعية
5 تكنولوجية
دعونا نبدأ بالتعمق أكثر في التوقعات التي تشمل العامين.
المعلومات المغلوطة تتصدر قائمة المخاطر على المدى القصير
من منظور سياسي، يعتبر عام 2024 عاما جد مهم، إذ سيشهد إجراء عدد من الانتخابات الكبرى المنتظرة. ففي الولايات المتحدة، قد يقرر الناخبون عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض كرئيس للمرة الثانية، بينما تشهد المملكة المتحدة إنطلاق لعبة السلطة بين حزب المحافظين وحزب العمال من أجل السيطرة على سادس أكبر اقتصاد في العالم ( والمقدر بـ 3,3 تريليون دولار أمريكي اعتباراً من يناير[5] 2024).
وبالمثل، من المقرر أن تجرى الانتخابات في الهند- والتي تمثل كبرى ديمقراطيات العالم – و كذا في المكسيك، وباكستان، وجنوب أفريقيا، وبنجلاديش، وسريلانكا، وإندونيسيا، وكوريا الجنوبية، والاتحاد الأوروبي و غيرها. ويعني ذلك أن 49٪ من سكان العالم سيتوجهون إلى مراكز الاقتراع خلال عام 2024 بخياراتهم المحددة والمؤثرة[6].
وعلى هذه الخلفية، يمكن للمرء أن يفهم سبب إشارة تقرير المنتدى الاقتصادي العالمي إلى خطر “المعلومات المغلوطة والمعلومات المضللة” باعتباره التهديد الأكبر على مدار عامين– وهو الخطر الذي لم يدرج قط ضمن قائمة مخاطر العامين الصادرة عام 2023.
فقد تتأثر نزاهة هذه الانتخابات المهمة سلباً بسبب تضارب المعلومات على وسائل التواصل الاجتماعي، وتداول الأخبار غير الصحيحة ونشر مقاطع الفيديو والمقاطع الصوتية المصطنعة بفعل تقنية الذكاء الاصطناعي.
ووفقاً لتقرير المنتدى الاقتصادي العالمي، تعد تلك العوامل مجتمعة تهديداً بتقويض شرعية الحكومات الجديدة، وهو ما سيترتب عليه اندلاع الاضطرابات التي تشمل “الاحتجاجات العنيفة وجرائم الكراهية، وقد يصل الأمر إلى حد المواجهات المدنية والأعمال الإرهابية”. وقد تنطوي الآثار المحتملة كذلك على زيادة الدعاية الداخلية، وفرض المزيد من القوانين الرقابية الأكثر صرامة على وسائل الإعلام المستقلة، بل وقد يصل الأمر إلى فرض قيود على استخدام شبكة الإنترنت.
وبالنظر إلى مقياس الخطورة المتدرج من واحد إلى سبعة، نرى أن أكثر من نصف المشاركين في استطلاع الرأي (54%) أعطوا “المعلومات المغلوطة والمعلومات المضللة” خمسة أو أكثر.
من ناحية أخرى، تشمل قائمة المخاطر التي تغطي العامين “الظواهر الجوية المتطرفة”، و”الصراعات المسلحة بين الدول”، و”غياب الفرص الاقتصادية”، و”التضخم”، و”الهجرة غير الطوعية”، و”التلوث”. وبالنظر إلى ما هو أبعد من ذلك، نجد أن قائمة المخاطر التي تغطي عشر سنوات يهيمن عليها تهديد كارثي ، ألا وهو أزمة المناخ.
التغيرات المناخية تحتل الصدارة في تقرير المخاطر طويلة الأمد
تتعلق أبرز أربع نقاط أدرجت على قائمة المنتدى الاقتصادي العالمي لمخاطر العشر سنوات بتدهور الظروف البيئية، وهو ما يسلط الضوء على التهديد الوجودي الذي تمثله هذه الكارثة التي لم نشهدها من قبل.
ويمكن ترتيب تلك المخاطر الأربعة وفقاً لشدتها كما يلي: “الأحداث الجوية المتطرفة”، و”التغيرات الهائلة في أنظمة الكوكب”، و”فقدان التنوع البيولوجي وانهيار النظام البيئي”، و”ندرة الموارد الطبيعية”.
وليس ذلك كل شيء. فلا بد من إضافة “التلوث” إلى القائمة، حتى وإن تم الدفع به إلى المركز العاشر، بينما ينبغي أن تحتل “الهجرة غير الطوعية” المركز السابع. ويصنف المنتدى الاقتصادي العالمي الهجرة غير الطوعية باعتبارها خطراً مجتمعياً، بيد أن سبب نشأتها يرجع في الأساس إلى العوامل البيئية أيضاً. وبدون تحركات مؤثرة في مضمار العمل المناخي، تشير بعض التقديرات إلى أن مئات الملايين سيضطرون إلى ترك منازلهم بحلول عام 2050[7]، وتجدر الإشارة إلى أنه “من المتوقع أن يواجه ما بين مليار إلى ثلاثة مليارات شخص خطر التهميش بسبب الظروف المناخية التي كانت قد عادت على البشرية بكل الخير خلال الستة آلاف عام الماضية[8]“. [9]
وبينما تبرز مخاطر أخرى في قائمة المخاطر للعشر سنوات والتي وضعها المنتدى الاقتصادي العالمي (‘المعلومات المغلوطة والمعلومات المضللة’، و’غياب الأمن السيبراني’، و’الاستقطاب المجتمعي’) ، تظل أزمة المناخ السبب الرئيس لتدهور مستويات المعيشة وتقويض التقدم التنموي على المدى الطويل.
وقبل أن ينصب تركيزنا على هذا التحدي الوجودي، يجدر بنا أن نلقي نظرة فاحصة على عاملين من عوامل الخطر يجب أن يتم تناولهما بالمزيد من التحليل في التقرير الجديد ألا وهما: احتمال تفاقم الصراعات بين الدول والتنازل عن حكم العالم لأنظمة الذكاء الاصطناعي التي فاقت قدراتها أي وقت مضى.
التصدي للذكاء الاصطناعي المعادي
تتوالى الأحداث العالمية بسرعة؛ وتجدر الإشارة إلى أن تحليل المنتدى الاقتصادي العالمي للخطر المتنامي بقيام حرب شاملة جاء قبل اندلاع الصراع في منطقة المشرق العربي بين إسرائيل وغزة. وبالنظر إلى ما شهدته منطقة الشرق الأوسط من تطورات منذ تاريخ نشر التقرير، فمن المنتظر أن يتقدم “النزاع المسلح بين الدول” لأول مرة ليحتل المرتبة الخامسة في تصنيفات المخاطر لمدة عامين، و ما ذلك إلا بداية لمزيد من التقدم نحو أعلى قائمة العام المقبل.
ووفقا للتوقعات، تمثل اسرائيل و تايوان وأوكرانيا، الثلاث نقاط الساخنة للتصعيد المحتمل للصراعات، مما يهدد الاقتصاد العالمي وديناميكيات الأمن وسلاسل التوريد الدولية.
ويشير التقرير إلى أن الصراعات المستمرة كانت قد بلغت ذروتها بالفعل خلال العقود الماضية، وتزايدت الوفيات الناجمة عنها بأكثر من أربعة أضعاف بين عامي 2020 و 2022 – ويعزى ذلك بشكل كبير إلى الحروب في أوكرانيا وإثيوبيا.
وفي أسوء السيناريوهات، يمكن أن تؤدي التوترات الحالية إلى”تفشي عدوى الصراعات”، وتفاقم الأزمات الإنسانية.
ومع تغير الظروف الدولية بشكل مستمر، تواجه قوى النظام العالمي القائم تحديات متزايدة. فأوكرانيا لن تستطيع الاعتماد على استمرار الدعم الأمريكي لا سيما بعد الانتخابات المزمع انطلاقها في نوفمبر، والتي قد تشجّع روسيا على اتخاذ مواقف أكثر جرأة. وفي الشرق الأوسط، تهدد الصراعات الدائرة إمدادات الوقود الحفري وطرق التجارة البحرية، خاصة إذا اتسع نطاقها ليشمل دولاً مجاورة. ويمكن لأي من هذه الصراعات أن يتحول إلى عنف “مُتقطع ومطول” يستمر لعقود.
وعلى هذه الخلفية، يصعب استقراء المستقبل. ففي عالم تتعدد فيه الأقطاب بشكل متزايد، يحذرنا المنتدى الاقتصادي العالمي من أن: “تعدد القوى المحورية قد يدخلنا في دائرة مفرغة وينأى بنا عن الواقع، فتتساقط الحصون ويصعب احتواء الصراعات”[10]. وقد تفقد المزيد من الدول، خاصة الغنية بالموارد، “الحوكمة”، مما يجعلها عرضة لحروب الوكالة التي تندلع بين الاقتصادات المجاورة والمجموعات المسلحة وشبكات الجريمة.
وهذا الواقع الجديد المضطرب يهدد بتفاقم الاستياء واسع نطاق إزاء الهيمنة السياسية والاقتصادية المستمرة لشمال الكرة الأرضية. و تلك المآسي يمكن أن تتفاقم إذا أبرزت المكافآت التي وعد بها الذكاء الاصطناعي العالم المتقدم فجوات الثروات.
وبعيداً عن اتساع الهوة بين الأغنياء والفقراء، يأتي الذكاء الاصطناعي بعواقب محتملة خاصة به.
و في عالم مثالي، يتم طرح التقنيات الحديثة التي لاتزال في طور التجربة مثل الذكاء الاصطناعي تدريجياً، ومع اتخاذ تدابير قوية لغرض ضمان الأمن ومنع العواقب غير المتوقعة. ولكننا لسنا في عالم مثالي. فنحن في عالم اطلق فيه العنان للذكاء الاصطناعي على عجل وسيطرت المصلحة الخاصة على الأمر برمته، ويعزى ذلك إلى تصاعد التنافسية بين الدول وغياب الرؤية السديدة فيما يتعلق بالأمن القومي. إنه عالم – كما جاء في تقرير المنتدى الاقتصادي العالمي، “قد يؤدي فيه ولوج الذكاء الاصطناعي إلى قرارات الصراعات بقوة إلى تصعيد غير مقصود، بينما قد تسهم سهولة الوصول إلى تطبيقات الذكاء الاصطناعي إلى تمكين جهات الشر من استغلالها بشكل غير مناسب”[11].
إننا لا نستطيع ببساطة تقييد البحوث في مجال الذكاء الاصطناعي. فالذكاء الاصطناعي موجود معنا بالفعل، وهو لا يزال في طور النمو، وسينطلق من هنا، ويحدث ذلك بالتوازي مع تطور تقنيات أخرى مثل الأحياء الاصطناعية والحوسبة الكمية. ولا ينبغي علينا أن نأمل في منع نموه تماماً، فهو يقدم لنا منافع جمة فيما يتعلق بالإنتاجية، وإحراز التقدم في مضمار تغير المناخ والتعليم والرعاية الصحية. فمن المنتظر أن يصبح مصطلح الرعاية الطبية جزءاً من الماضي بعد عقد من الآن، مع فحص الأشعة السينية بحثاً عن الحالات المرضية من قبل مترجمي الذكاء الاصطناعي، وعلاج العديد من الحالات بأدوية جديدة قد لا تتبادر إلى أذهاننا فكرتها في الوقت الحالي.
وتجدر الإشارة إلى أن السرعة التي بها يتقدم الذكاء الاصطناعي يجب أن تكون ذات أهمية قصوى في أذهان كل عناصر القطاع الخاص الذين يدفعون عجلة التطور التكنولوجي، ومشرعي القطاع العام الذين يتمتعون بالسلطات التنظيمية المهمة. فكل مجموعة قد يكون لها دور محوري في تقييد التأثيرات المحتملة للذكاء الاصطناعي فيما يتعلق بالمعلومات المضللة وفقدان الوظائف والأنشطة الإجرامية والهجمات الإلكترونية والإرهاب والتمييز.
وثمة حقيقة واحدة لا يمكن لأحد إنكارها، وهي أن “انتشار تقنيات الذكاء الاصطناعي التي تتنامى قدراتها وتخدم أغراض عامة دون رقابة أو تقنين من شأنه أن يعيد رسم ملامح الاقتصادات والمجتمعات خلال العقود القادمة – سواء للأفضل أو للأسوء”[12]، وهذا ما حذر منه المنتدى الاقتصادي العالمي.
وبالجهد والاهتمام، يمكننا أن نتعلم كيفية ترويض هذا المارد المتمثل في تجاوزات الذكاء الاصطناعي وتسخيره في نهاية المطاف ليصبح قوة تعمل من أجل الخير. وبجهد مماثل، قد ننجح يوماً ما في ترويض تجاوزاتنا البشرية، وتخطي ذلك الاندفاع نحو الصراعات المسلحة. ويظل خطر واحد يفوق كل هذه المخاطر ويتصدرها، ألا وهو الاحتباس الحراري وانهيار نظم الحياة البيئية.
ناقوس الخطر يدق … أين نحن من عتبة الـ 1.5 درجة؟
يرى البعض أن الحديث عن تأثير تغير المناخ منذ عقد مضى، و ما سيحدث في المستقبل، قد شهد “تحولاً جذريا” في تحليل المخاطر الذي أجراه المنتدى الاقتصادي العالمي لهذا العام. إذ يشير التقرير إلى أن الحد المستهدف لارتفاع معدل درجات الحرارة (الوقوف عند 1.5 درجة مئوية أعلى من معدلات ما قبل الصناعة – كما هو محدد في اتفاقية باريس لعام 2015) بات من المتوقع أن يُنتهك خلال الفترة الممتدة بين أوائل و منتصف ثلاثينات هذا القرن.
وفي الواقع، قد يعكس ذلك نظرة غير متفائلة. فالمنظمة العالمية للأرصاد الجوية، وهي إحدى وكالات الأمم المتحدة، أصدرت تقريراً في العام الماضي تنبأت فيه باحتمال (بنسبة 66%) أن تبدأ الأرض في تجاوز عتبة الـ 1.5 درجة مئوية بشكل متقطع اعتباراً من عام[13] 2027.
وتتفق جميع المجموعات التي شاركت في استطلاع المنتدى الاقتصادي العالمي على أن التغييرات التي حدثت في أنظمة الأرض قد تشكل خطراً هائلاً خلال العقد المقبل. على الرغم من ذلك، تناول التقرير ما إذا كانت المخاطر البيئية قد تجتمع لتدفعنا إلى ما هو أبعد من عتبة الـ 1.5 درجة مئوية وتأخذنا إلى السيناريو الكابوس الذي ترتفع فيه درجة حرارة الأرض بمقدار 3 درجات مئوية – وهو ما نمتلك القدرة على التكيف معه.
فماذا يعني تجاوز هذه العتبة؟ تخيل معي تحولات مستدامة، تدوم طويلاً من تلقاء نفسها، تحدث في آليات كوكبنا وتؤثر بشكل مفاجىء وخطير على رفاهية الإنسان. وقد يظهر ذلك في صورة ارتفاع مستوى سطح البحر بسبب انهيار الصفائح الجليدية، وانبعاث الكربون من ذوبان التربة الصقيعية، واضطراب التيارات المحيطية أو الجوية بشكل لا يمكن تداركه. وحتى مع وجود تقنيات التخفيف، قد تكون هناك تأثيرات ملحوظة تطول المسؤوليات القانونية والديناميكيات الجيوسياسية وأجندة المناخ.
وحتى عند عتبة الـ 1.5 درجة مئوية، قد تبدأ أنظمتنا في التدهور الذي لا يمكن تداركه ويشمل ذلك: الذوبان المفاجئ للتربة الصقيعية، وموت الشعاب المرجانية عند خطوط العرض المنخفضة، وانهيار الصفائح الجليدية في جرينلاند وغرب القارة القطبية الجنوبية.
إن الترابط القائم بين العديد من هذه التأثيرات – والذي لا يمكن التنبؤ به – يحمل في طياته مخاطر من نوع خاص تجعل من الصعب التنبؤ بالتأثيرات المتتالية. ويستشهد المنتدى الاقتصادي العالمي بمثال ذوبان الغطاء الجليدي في جرينلاند، الذي يؤدي إلى تدفق المياه العذبة، والذي بدوره يؤثر سلباً على استقرار الدورة الانقلابية في المحيط الأطلسي، فيذوب الغطاء الجليدي في غرب القطب الجنوبي بشكل أسرع.
وهناك مخاوف من أن تصبح العديد من الاقتصادات العالمية غير مستعدة على الإطلاق لمواجهة الصدمات المقبلة الناجمة عن تغير المناخ. ففي نهاية المطاف، لا ينذر تجاوز عتبة ارتفاع درجة الحرارة بفقدان التنوع البيولوجي وحسب، بل وبانهيار النظام البيئي أيضاً، وبالمزيد من الأحداث المناخية المتطرفة، فضلا عن التراجع الحاد في الموارد الطبيعية. وسيتبع ذلك أزمات اجتماعية واقتصادية: كالهجرات الجماعية، والصراعات الحدودية، واستشراء الأمراض المعدية (خاصة إذا ما انتشرت فيروسات قديمة بسبب ذوبان التربة الصقيعية) وانهيارات اقتصادية واسعة النطاق. ومن الممكن أن يؤدي انخفاض الإنتاج الزراعي و ندرة المياه إلى انهيار أنماط التجارة العالمية والتحالفات إلى الأبد.
إن نقص التمويل يعني أننا لا نستعد لمواجهة تغير المناخ بالسرعة اللازمة، إذ يبلغ الفارق بين التزامات التمويل الدولية الحالية، ومتطلبات تمويل التكيف المتوقعة بحلول عام 2030 366 مليار دولار أمريكي سنوياً.
استراتيجيات جريئة وأمل جديد في مواجهة آثار تغير المناخ
على الرغم من أن المخاطر المرتبطة بالمناخ جد مثيرة للقلق، هناك العديد من الأسباب التي تدعونا للتفاؤل، والعديد من الأسباب التي تدعونا إلى التحرك لمعالجة القضايا الناشئة بحماس.
وتظل الأدوات التي تستخدم حالياً في عملية نمذجة المناخ غيرمثالية، وتنطوي على العديد من الأخطاء. ولعل التطور المتزايد للذكاء الاصطناعي، على الرغم من المخاطر المحتملة التي تصاحبه، يأتي وعداً ببزوغ فجر جديد في مجال التحليلات التنبؤية. ومن المنتظر أن تصبح الحكومات وكيانات القطاع الخاص قريباً قادرة على توجيه مواردها نحو الاستراتيجيات الأكثر تأثيراً، والتي تتمتع بكفاءة غير مسبوقة، متى زودت ببيانات أكثر تفصيلاً وموثوقية حول نقاط التحول وفعالية الحلول المحتملة.
ويشير المنتدى الاقتصادي العالمي إلى أنه “من الممكن دعم هذه الجهود من خلال إنشاء قاعدة بيانات عالمية لعلوم المناخ، إلى جانب ضخ المزيد من الاستثمارات في الأدوات ذات الصلة (مثل معدات الاستشعار عن بعد والقدرة الحاسوبية) والتنبؤ البيئي”.[14]
وتعد الاتفاقيات العالمية بمثابة السلاح الأقوى لمواجهة آثار تغير المناخ، وذلك بحسب آراء المشاركين في أحدث دراسة استقصائية عن المخاطر التي يواجهها عالمنا. إن مثل هذه الاتفاقيات، إذا ما تمت صياغتها ودمجها بشكل صحيح، سوف تصبح السبيل الأسرع لضمان خفض الانبعاثات بشكل قوي وتجنب نقاط التحول الأكثر خطورة.
ومن أجل زيادة فعاليتها، تحتاج هذه الاتفاقيات (والتي تعد الاتفاقية التي صدرت عن مؤتمر الأمم المتحدة المعني بالمناخ كوب 28 أبرز مثال عليها) إلى الدعم من خلال التشريعات الوطنية والمحلية.
وتشمل الاستراتيجيات الأخرى التي تتحول إليها الأضواء الآن ما يلي:
- أنظمة إنذار مبكرأفضل، وهو الأمر الذي يعد بردود فعل أسرع للأحداث المناخية والجوية الوشيكة.
- أن تعمل الدول والمنظمات غير الحكومية وبنوك التنمية على إزالة المخاطر المرتبطة باستثمارات القطاع الخاص في المشروعات البيئية.
- أن تفتح الاستثمارات في مجال البيئة والاجتماع والحوكمة المجال أمام مسارات تمويل جديدة للمشروعات ذات الأولوية ومشروعات البحث والتطوير التي تهدف إلى مواجهة الأزمة البيئية.
- أن تعمل شبكات الطاقة اللامركزية، والتي تقوم على طاقة الرياح والطاقة الشمسية والطاقة المائية، على تعزيز القدرة على الصمود على مستوى المجتمعات المحلية.
- أن تتغلب الهندسة الجيولوجية على المخاوف المبكرة وأن تعمل على مواجهة العوامل الرئيسة التي تؤدي إلى التغير المناخي. وفي حين لا تزال هناك شكوك حول قدرة الهندسة الجيولوجية على التطور، تزيد مشروعات احتجاز الكربون واستخدامه وتخزينه من احتمال إزالة كميات أكبر من ثاني أكسيد الكربون من الغلاف الجوي. وقد وصل حجم الاستثمارات في مجال احتجاز الكربون وتخزينه إلى مستوى قياسي بلغ 6.4 مليار دولار أمريكي خلال عام 2023. وتقدم تقنيات الهندسة الجيولوجية الأخرى، مثل إدارة الإشعاع الشمسي (SRM)، مقترح تبريد المناخ بشكل مباشر، والذي من الممكن أن يتم عن طريق حقن طبقة الستراتوسفير بالأيروسولات أو تبييض السحب البحرية حتى تعكس المزيد من ضوء الشمس.
- زيادة الوعي العام بمشكلة تغير المناخ والانفجار السكاني. وتضم شبكة العمل من أجل المناخ أكثر من 1900 منظمة من منظمات المجتمع المدني تتواجد في حوالي 130 دولة حول العالم وتقود العمل المستدام من أجل مواجهة تغير المناخ والدعوة إلى تحقيق العدالة الاجتماعية.[15]
ويعد الدعم القوي الذي يقدمه القطاع الخاص أمراً ضروريا لتعزيز أي من هذه الإجراءات العلاجية حتى تؤتي بثمارها المرجوة. وهنا يبرز دور المؤسسات التي تشمل عبد اللطيف جميل باعتبارها قوة مؤثرة قادرة على إحداث الفارق.
نعمل معاً من أجل مواجهة مخاطر عالمنا
تماشياً مع أجندة الأمم المتحدة لعام 2030 وأهداف التنمية المستدامة، نحن نسخر ما لدينا من قوة رأس المال الخاص لغرض الاسهام في التصدي لما يواجهه العالم من مخاطر من خلال مكافحة تغير المناخ وتعزيز التعافي الأخضر.
وتعد الطاقة الخضراء حجر الزاوية لمجتمعات المستقبل التي تهتم بالبيئة. في هذا السياق، تدير شركة فوتواتيو لمشاريع الطاقة المتجددة (FRV)، وهي الشركة التابعة لنا والرائدة في مجال الطاقة المتجددة، مجموعة متنامية من مشروعات طاقة الرياح والطاقة الشمسية وتخزين الطاقة والطاقة الهجينة في مناطق الشرق الأوسط وأمريكا اللاتينية وأوروبا وأستراليا.
كما تقود شركة فوتواتيو – إكس FRV-X ، ذراع الابتكار لشركة فوتواتيو لمشاريع الطاقة المتجددة، الجهود لضمان توفير امدادات الطاقة المتجددة على مدار الساعة للمنازل في كل مكان. وتدير شركة فوتواتيو – إكس بالفعل محطات لتخزين الطاقة بالبطاريات على نطاق المرافق (BESS) في المملكة المتحدة في كل من كونتيجو في غرب ساسكس؛ وهولزباي في دورست؛ وكلاي تاي في إسيكس، بالإضافة إلى محطة هجينة للطاقة الشمسية ومحطة لتخزين الطاقة بالبطاريات في دالبي، وكوينزلاند في أستراليا. وإلى جانب ذلك قامت الشركة بالاستحواذ على مشروعين إضافيين من مشروعات تخزين الطاقة بالبطاريات في المملكة المتحدة في خريف عام 2022، بالإضافة إلى حصولها على حصة الأغلبية في مشروع تخزين الطاقة بالبطاريات في اليونان.
من ناحية أخرى، قامت شركة شركة فوتواتيو – إكس مؤخراً باستثمار مبلغ 10.6 مليون دولار أمريكي في شركة إيكوليجو، وهي شركة رائدة في مجال توفير الطاقة الشمسية كخدمة ويوجد مقرها في ألمانيا وتقوم بتطوير مشروعات خاصة للطاقة الشمسية حسب الطلب في الأسواق غير المتطورة. ويتم تمويل كل مشروع من قبل مستثمرين أفراد عبر منصة استثمار جماعي مبتكرة. وفي الوقت الحالي تعمل شركة إيكوليجو في أمريكا الجنوبية وأسيا وأفريقيا.
قد تمثل ندرة المياه أحد المخاطر المحتملة في وقت أقرب مما كان متوقعاً، فمن المنتظر أن يواجه حوالي 700 مليون شخص تهديد النزوح بسبب ندرة المياه الشديدة بحلول عام 2030[16]. ونحن نساعد في مواجهة مخاطر المياه من خلال شركة ألمار لحلول المياه، وهي جزء من شركة عبد اللطيف جميل للطاقة والخدمات البيئية. وينصب التركيز هنا على تعزيز كفاءة شبكات المياه من أجل ضمان توفير إمدادات مياه نظيفة ووفيرة من هذا المورد الحيوي.
ومع تنامي عدد سكان العالم، يصبح الأمن الغذائي من القضايا المهمة أيضاً في أجندتنا. ويقوم معمل عبد اللطيف جميل للماء والغذاء في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا (J-WAFS))، والذي شارك في تأسيسه مجتمع جميل في عام 2014، بتشجيع إجراء البحوث وتحفيز الابتكار لغرض مواجهة تحديات الغذاء. ومن أوجه التعاون الأخرى بين كل من مجتمع جميل و معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا معمل عبد اللطيف جميل لمكافحة الفقر (J-PAL) والذي يهدف إلى مكافحة الفقر العالمي من خلال الدعوة لتبني السياسات التي يقودها العلم.
يقول فادي جميل نائب الرئيس ونائب رئيس مجلس إدارة العمليات الدولية لشركة عبد اللطيف جميل: “إذا كان عام 2023 قد أثبت أي شيء، فإنه قد أثبت أن ثمة مخاطر هائلة تحدق بنا، وتحمل تلك المخاطر في طياتها مفهوم يتطور بلا توقف “.
“لقد اتسم التقرير الأخير الذي أصدره المنتدى الاقتصادي العالمي عما يواجه عالمنا من مخاطر بالذكاء الشديد، حيث ركز على أزمة المناخ وبروز الذكاء الاصطناعي المعادي للبشر، وإن كان تفاقم الصراعات المسلحة على مستوى العالم بمثابة المفاجأة للمشاركين فيه “.
. فالعام المقبل سوف يأتي حاملاً مخاطره الخاصة، وتحدياته الخاصة، وبياناته الخاصة. وبدلاً من الاستسلام لعالم فوضوي، تقع على عاتقنا مسؤولية مواجهة التهديد الشمولي المتمثل في الاحتباس الحراري العالمي بقوة، وجعل التماسك العالمي الذي يعزز الاستقرار وتنسيق العمل هدفا يلزم تحقيقه”.
“إن وعينا المشترك بالتحديات التي تنتظرنا يحفز هذه المبادرات كي نبني عالما أكثر أماًناً وإنصافاً للأجيال القادمة. فأولئك الذين سيرثون هذا الكوكب سيواجهون مخاطر فريدة من نوعها، والأمثلة التي نضربها الآن سوف يتردد صداها في المستقبل.“