ظل مفهوم البناء الأخضر في نظر بعض المنتقدين مجرد بادرة رمزية تجاه المخاوف البيئية إلى أن جاءت حقبة الثمانينيات من القرن الماضي ليتحول معها  إلى مبدأ إرشادي أساسي في صناعة البناء والتشييد. ولعلنا لا نجد سبباً وجيهاً لهذا التحول أكثر من غريزة البقاء التي حفظت بقاءنا على الأرض لملايين السنين، ذلك أن البناء الأخضر يُسهم في الحفاظ على أثمن مواردنا الطبيعية، وجودة حياتنا، والأهم من ذلك كله أنه قد يُساعد في النهاية في إنقاذ كوكبنا من مخاطر كثيرة تتهدده.

يُعد قطاع البناء مستهلكاً شرهاً للموارد الطبيعية، ونصفها غير متجدد. فوفقاً لمعهد المراقبة العالمي، تستهلك صناعة البناء نحو 40% من استخدام العالم للأحجار الخام والحصى والرمل و25% من الخشب البكر كل عام[1]. كما تظهر أحدث الأرقام المنشورة أن صناعة البناء تساهم بنسبة 23% في تلوث الهواء، و40% في تلوث مياه الشرب، و50% في نفايات المكبات[2].

لكن الأمر لا يقتصر على المواد التي يستهلكها البناء وحسب، سيما وأن هذه الآثار السلبية تمتد إلى الهياكل المبنية نفسها.

فعلى المستوى الداخلي، يتسبب البناء غير المدروس في مشاكل صحية للسكان والعمال. على سبيل المثال، تتسبب “متلازمة المباني المريضة”، في ارتفاع معدلات التغيب عن العمل، وبالتبعية انخفاض الإنتاجية، نتيجة عدم كفاية التدفئة والتهوية[3] ونقص الإضاءة الطبيعية. أما على المستوى الخارجي، نجد أن عوامل مثل الضوء الطبيعي وجودة الهواء تشكل مصدر قلق كبير في التخطيط للمدن والمناطق الخضراء لأنها لا تؤثر فقط على “جودة الحياة” بل على الحياة نفسها، فقد ثبت أن نوعية الهواء الرديئة تزيد من خطر الإصابة بالذبحة الصدرية[4]، حتى أن ما يصل إلى 36000 من الوفيات السنوية في المملكة المتحدة وحدها تُعزى إلى تلوث الهواء.[5]

لكن الضرر الناجم عن ممارسات البناء الحالية يتجاوز ذلك بكثير، إلى حد أنه يهدد الكوكب نفسه بسبب ارتفاع مستويات انبعاثات الكربون – السبب الرئيسي لتغير المناخ الناجم عن أنشطة الإنسان. ووفقاً لأحدث تقرير صادر عن الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ، ستصل الأرض وربما تتجاوز العتبة الحرجة البالغة 1.5 درجة مئوية بحلول عام 2052 إذا لم يتباطأ معدل الاحترار الحالي[6].

ويشير التقرير أيضاً إلى أن الاحترار هو نتيجة مباشرة للانبعاثات الناتجة عن أنشطة البشر وأن 38% من تلك الانبعاثات المرتبطة بالطاقة تأتي من المباني- 28% من الانبعاثات التشغيلية و 10% من المواد وأنشطة البناء[7]. وقد أوصى مؤتمر الأمم المتحدة لتغير المناخ لعام 2021 )كوب 26)، بضرورة خفض الانبعاثات العالمية إلى النصف بحلول عام 2030 وتحقيق صافي انبعاثات كربونية صفرية بحلول عام 2050[8]. ومن غير المتصور أن ينجح العالم في بلوغ هذا الهدف دون أن يغير قطاع البناء ممارساته بشكل جذري.

إن مفهوم البناء الأخضر، في حد ذاته، لا يحدد شكلاً معيناً من أشكال البناء، بحيث يمكن لأي مبنى أن يكون مبنى أخضر، سواء كان منزلاً أو مكتباً أو مدرسة أو مستشفى أو مركزاً مجتمعياً أو أي نوع آخر من المنشآت، بل ومن الطبيعي أن تكون هناك اختلافات بين البلدان والمناطق بسبب عوامل مثل المناخ والثقافة، بالإضافة إلى الأولويات البيئية والاقتصادية والاجتماعية المختلفة.

وعلى أية حال، يصف تعريف المبنى الأخضر المبدأ الكامن وراء بنائه، بمعنى أن المبنى ‘الأخضر’ هو مبنى يساعد بأسلوب تصميمه أو بنائه أو تشغيله، في تقليل أو إزالة الآثار السلبية على المناخ والبيئة الطبيعية وقد يسهم في تحسينها.

مبادئ البناء الأخضر المرتبطة بأهداف الأمم المتحدة للتنمية المستدامة من أجندة 2030. مصدر الصورة- المجلس العالمي للبناء الأخضر

إن مبدأ التصميم هذا يقتضي أن تتشارك العديد من الأبنية الخضراء في ميزات مشتركة، مثل الاستخدام الفعال للطاقة والمياه والموارد الأخرى، واستخدام مصادر الطاقة المتجددة، بما فيها الطاقة الشمسية والمضخات الحرارية ذات المصدر الهوائي أو الأرضي. 

كما يتطلب هذا النموذج أن يتم بناء الأبنية الخضراء من مواد غير سامة ومستدامة، وعادة ما يتم تدبير هذه المواد من مصادر محلية تجنباً لانبعاثات الكربون الناتجة عن استيراد البضائع من مسافات طويلة. وغالباً ما يتم اتخاذ تدابير أخرى تقلل التلوث والنفايات وتعزز إعادة الاستخدام وإعادة التدوير. 

ومن الطبيعي أن تكون جودة الهواء داخل المبنى الأخضر عالية، ذلك أن جودة حياة السكان تأتي في صميم تصميمه وبنائه وتشغيله. ويهدف التصميم أيضاً إلى جعل المبنى ‘مستداماً للمستقبل’، وذلك بأن يكون هيكله قابلاً للتكيف مع مختلف التغيرات البيئية أو التكنولوجية المستقبلية.

فوائد المحصلة النهائية

إن تبني نهج البناء الأخضر لا تبرره الحاجة البيئية الملحة وحسب، فثمة الكثير والكثير من دراسات الجدوى التي تظهر مجتمعةً جدوى هذا التوجه للملاك من حيث زيادة معدلات الإشغال وتقليل تكاليف التشغيل بنسب ملحوظة. كما أنه يعزز من مكاسب المطورين من خلال ارتفاع قيم العقارات؛ ويعود على السكان بوفورات كبيرة في فواتير خدمات المرافق بفضل كفاءة الطاقة والمياه.

ولدينا على سبيل المثال دراسة حديثة أجريت في المملكة المتحدة[9]، كان موضوعها مقارنة 336 من الأبنية الخضراء المعتمدة بحوالي 2000 من الأبنية غير المعتمدة التي تم بناؤها بين عامي 2003 و2014. وقد كشفت الدراسة عن زيادة إقبال المستأجرين على الأبنية الخضراء المعتمدة بنسبة 13.3 % -36.5% مقارنة بالأبنية غير الخضراء. وبالمثل، أشار تقرير اتجاهات البناء الأخضر العالمي[10]، وهو دراسة أمريكية لسوق العقارات العالمية، إلى أن الأبنية الخضراء- سواء كانت جديدة أو مجددة – تحقق ارتفاعا بنسبة 10% في قيمة الأصول مقارنة بالأبنية التقليدية.

وأظهرت ذات الدراسة أيضاً أن الملاك أفادوا بانخفاض تكاليف التشغيل بشكل ملحوظ في الأبنية الخضراء، حيث بلغ متوسط التوفير في الأبنية الجديدة على مدى خمس سنوات 16.9% و14.6% للأبنية التي تم تجديدها. وجاءت المملكة العربية السعودية ضمن أفضل الدول أداءً في الدراسة، حيث أفاد 47% من المشاركين بزيادة القيمة عند البيع، واستفاد 34% من معدلات الإيجار المرتفعة، فيما حقق 41% معدلات إشغال أعلى.

ويمكن اجمالاً اختصار فوائد البناء الأخضر في ثلاث كلمات: “الناس والكوكب والربح”، مما يعني أن العديد من مزايا أماكن العمل والمنازل الخضراء تنبع من صحة ورفاهية أولئك الذين يعيشون ويعملون بها.

كما خلصت دراسة أمريكية أخرى إلى أن تحسين جودة الهواء الداخلي بالمكاتب الخضراء ساهم في تقليل التغيب عن العمل المدفوع بالخوف من الربو والحساسية التنفسية والاكتئاب والتوتر، وكذلك في تحسين إنتاجية العاملين بشكل ملحوظ[11]. كما كشفت دراسة استقصائية أجريت بتكليف من مجلس المباني الخضراء الأمريكي (USGBC) أيضا أن المباني الخضراء ” توفر لأصحاب العمل ميزة لجذب أفضل المواهب في فئتها”[12].

تكنولوجيا المباني الخضراء

تعتبر المواد التقليدية المستخدمة في صناعة البناء رديئة بطبيعتها من حيث كميات الكربون المنبعثة منها. فسواء كانت هذه المواد هي الأسمنت أو الطوب أو الزجاج أو الجبس، فهي تحتاج في كل الأحوال إلى درجات حرارة عالية لتصنيعها، وبالتالي فهي تستهلك كميات هائلة من الطاقة وينبعث منها بالنتيجة مستويات عالية من ثاني أكسيد الكربون، ويكفي أن نعرف أن إنتاج طن واحد من الإسمنت يؤدي إلى إطلاق ما يقرب من 600 كيلوجرام من ثاني أكسيد الكربون؛ وهذا هو السبب في أن تصنيع الأسمنت يمثل 8% من انبعاثات ثاني أكسيد الكربون في العالم[13]، بينما يطلق طن واحد من الطوب المصنوع حديثا 258 كجم من انبعاثات ثاني أكسيد الكربون[14].

وهنالك بالفعل تحركات مدروسة لتغيير هذا الواقع بالبحث عن بدائل لأساليب البناء التقليدية وعن تكنولوجيا ذكية تُسهم في تقليل كمية الطاقة المستهلكة في هذه الصناعة وبالتبعية انبعاثات الكربون.

تتمثل إحدى الإستراتيجيات في تطوير معادلات خضراء لمواد البناء المستخدمة. ففي حالة الخرسانة، مثلاً، يمكن التقاط ثاني أكسيد الكربون وضخه في الخرسانة نفسها، مما يؤدي إلى حبسها إلى الأبد.[15] وقد يؤدي ذلك أيضاً إلى تحسين خصائص المادة الناتجة. وفي هذه الحالة يتفاعل ثاني أكسيد الكربون المحقون مع أيونات الكالسيوم في الأسمنت، وينتج المزيد من كربونات الكالسيوم التي تُسهم بدورها في جعل الخرسانة قادرة على تحمل أحمال أكبر. ويمكن أيضاً الحصول على “الخرسانة الخضراء” من خلال ما يعرف بـ أسمنت الجيوبوليمر[16] الذي يقلل من انبعاثات ثاني أكسيد الكربون بنسبة تصل إلى 80 % -90%. ففي حالة أسمنت الجيوبوليمر، يتم استبدال المخلفات الصناعية، مثل الرماد المتطاير، بالكالسيوم والسيليكون في خليط الأسمنت.  

مصنع هيبريت للصلب الخالي من الوقود الأحفوري في نوربوتن في أقصى شمال السويد. مصدر الصورة-هيبريت

كما تم أيضاً تطوير ‘الصلب الأخضر’، الذي يساعد في التخلص من فحم الكوك اللازم لصناعة الصلب القائم على الخام، واستبداله بالكهرباء المتجددة والهيدروجين، لكن هذه التكنولوجيا لا تزال في مراحلها الأولى. وبالفعل، في أغسطس 2021، نجح مشروع الائتلاف السويدي بين ساب (SSAB), و لكاب (LKAB) و اتنفول هيبريت (تحسين تكنولوجيا صناعة الحديد عن طريق الهيدروجين)[17] في تسليم الدفعة الأولى من الصلب الأخضر إلى شركة فولفو إيه بي لصناعة الشاحنات كدفعة تجريبية، لكنه لن يبدأ في الإنتاج التجاري الكامل قبل عام 2026.

وثمة نهج آخر يتمثل في تقليل الكربون المنبعث من تصنيع المكونات الإنشائية. على سبيل المثال، يمكن استخدام ركام الطوب في إنشاء جدران صلبة كثيفة عن طريق خلط خليط الركام الرطب والمواد الصلبة مثل الحصى أو الطين مع عناصر التثبيت مثل الخرسانة لإنشاء جدران صلبة كثيفة. تقلل عملية استغلال بقايا الطوب وتشكيلها من التأثيرات البيئية، في حين أن المادة الناتجة يمكن أن تساعد بنفس القدر في استقرار درجة حرارة المبنى بحيث يظل بارداً في الصيف ودافئاً في الشتاء[18].

كما يتزايد انتشار الأخشاب الهيكلية التي تحتوي على الكربون كبديل مستدام للصلب والخرسانة، وهي مصممة باستخدام الراتنجات لإنتاج مكونات جديدة مثل الخشب الرقائقي المتقاطع وخشب القشرة الرقائقي الذي يمكن استخدامه في الهياكل والأبنية التي يصل ارتفاعها إلى تسعة طوابق[19].

وهنالك أيضاً تقنيات واعدة لمعالجة انبعاثات الكربون في المنشآت الصناعية. على سبيل المثال، تستخدم الأسطح الباردة دهانات عاكسة وبلاطاً خاصاً يمتص حرارة أقل ويعكس معظم الإشعاع الشمسي، مما يساعد في تقليل امتصاص الحرارة والانبعاث الحراري، وبالتالي يمكن للأسطح الباردة تقليل درجات الحرارة بأكثر من 28 درجة مئوية، والنتيجة هي تقليل الحاجة إلى استخدام مكيفات الهواء، مما يؤدي إلى تقليل استخدام الطاقة وبالتالي انخفاض انبعاثات غازات الاحتباس الحراري من محطات توليد الطاقة.

ويمكن أيضا تقليل انبعاثات الكربون باستخدام التكنولوجيا لتقليل هدر الطاقة في الأوقات التي تكون فيها الأبنية التجارية غير مأهولة، حيث تترواح هذه الأوقات ما بين  30% إلى 40% في المتوسط على مدار اليوم.  فباستخدام الأجهزة الإلكترونية مثل أجهزة كشف الحركة والماسحات الضوئية وقارئات بطاقة الدخول المزودة بتقنية تحديد الهوية بموجات الراديو، يمكن لأجهزة الاستشعار إطفاء المصابيح تلقائياً وضبط خيارات التدفئة والتهوية والتكييف والتبريد عندما يكون المبنى أو القسم أو الغرفة غير مأهول، وبالتالي توفير ما يصل إلى 30% من فواتير الطاقة.

ومن بين التقنيات الواعدة أيضاً في توفير الطاقة هو الزجاج الإلكتروني الذكي (ESG) الذي يستخدم إشارات كهربائية دقيقة لتغيير كمية الإشعاع الشمسي الذي تعكسه النافذة. ويمكن دمج الزجاج الإلكتروني الذكي في نظام التحكم في المبني، بحيث يتاح لشاغليه اختيار مقدار الإشعاع الشمسي الذي يجب منعه وبالتالي خفض تكلفة التدفئة والتهوية وتكييف الهواء.

التوسع

مع كل هذه المزايا الفريدة، لن يكون لمبنى أخضر واحد سوى تأثير محدود في الحد من انبعاثات الكربون، ذلك أن إحداث فرق ملموس في رحلتنا نحو انبعاثات صفرية صافية، يتطلب تشييد أحياء كاملة – إن لم تكن مدن – وفق مبادئ البناء الأخضر.

وإذا ما تمكنا من توسيع نطاق البناء الأخضر بهذا الحجم والمستوى، فسيكون من الممكن عندها تضخيم التأثير الإيجابي للأبنية الخضراء من خلال تدابير أخرى واعية بيئياً، مثل التنقل المستدام وأنظمة إدارة النفايات والبنية التحتية. كما أن التحول إلى حلول تنقل منعدمة الانبعاثات، مثل مشاريع وسائل التنقل المسيرة بالهيدروجين التي يجري تطويرها في إسبانيا بوسطة فوتواتيو لمشاريع الطاقة المتجددة (FRV)  التابعة لعبد اللطيف جميل للطاقة، يمكن أن يُساعد في تقليل التلوث على مستوى الكوكب وتحسين المجال العام.

وثمة طرق أخرى للتصميم المستدام تشمل الرصف المسامي، والمساحات الخضراء، ومسارات الدراجات، ومصادر الحرارة والطاقة المشتركة لإنارة الشوارع، وتدفئة المناطق وتحويل النفايات إلى سماد.

ويمكن أن تضمن أنظمة تخزين الطاقة بالبطاريات على مستوى المدن والأحياء إمدادات ثابتة بالطاقة المتجددة على مدار اليوم، مما يسمح بالتوسع في تبني نموذج البناء الأخضر عند تشييد المدن. فعلى سبيل المثال، تشارك فوتواتيو لمشاريع الطاقة المتجددة مع ذراعها الابتكاري “فوتواتيو-إكس” بالفعل في مشاريع رائدة لتخزين الطاقة بالبطاريات في المملكة المتحدة كما عو الحال في محطة هولز باي، دورست، ومحطة كونتيغو، غرب ساسكس، ومحطة كلاي تاي، إسيكس، بالإضافة إلى مصنع هجين للطاقة الشمسية وتخزين الطاقة بالبطاريت في دالبي، بمقاطعة كوينزلاند في أستراليا. وفي خريف عام 2022، استحوذت فوتواتيو على مشروعين إضافيين أيضاً في فئة  مشاريع تخزين الطاقة بالبطاريات في المملكة المتحدة، بالإضافة إلى حصة أغلبية في مشروع لتخزين الطاقة بالبطاريات في اليونان

كما تركز ألمار لحلول المياه، وهي شركة تابعة لعبد اللطيف جميل، على إظهار دور التكنولوجيا المتقدمة في تعزيز جودة أنظمة المياه وكفاءتها.  وقد دخلت ألمار مؤخراً في شراكة مع داتاكوروم، المتخصصة في إنترنت الأشياء، وفازت الشركتان مع إي آند إنتربرايز (سابقا اتصالات الرقمية) بعقد لتنفيذ مشروع الاتصالات الذكية للبنية التحتية للمياه والطاقة في أبوظبي، والذي يهدف إلى تحسين الكفاءة للعملاء والمساهمة في رقمنة البنية التحتية المحلية للمياه، وتسريع التحسينات التشغيلية من خلال تجهيز الشبكة الذكية.

تختلف المدن أو المناطق ‘الخضراء’، تماماً كما هو الحال في الأبنية الخضراء نفسها، تبعاً للمناخ والعادات وأوضاع العمل. على سبيل المثال، تتمتع تقنيات الحد من استخدام المياه بفترة استرداد لرأس المال أسرع بكثير في المناطق الشحيحة بالمياه مثل الشرق الأوسط وأفريقيا مقارنة بالمناطق التي يتوافر بها كميات كبيرة من المياه. وبالمثل، من الطبيعي أن تكون فترة استرداد رأس مال تقنيات تدفئة المناطق في المدن المعتدلة أطول بكثير مقارنة بالمدن ذات المناخ البارد.

Hammarby Sjã¶stad Stockholm Sweden

خريطة منطقة هاماربي أوشستاد. مصدر الصورة: إدارة تخطيط المدن في ستوكهولم

وليس هذا مجرد طموح بعيد المنال، فالمجتمعات الخضراء تزدهر بالفعل في جميع أنحاء العالم. ولدينا هنا مثالاً يتجلى بقوة في مدينة هاماربي أوشستاد [20]في ستوكهولم، التي كانت سابقاً منطقة صناعية متهالكة وغير مستغلة بشكل كافٍ، وأصبحت الآن واحدة من أشهر المدن الصديقة للبيئة حول العالم.

وحالياً يستفيد سكانها البالغ عددهم 25000 نسمة من نظام النقل الذي يولد كمية أقل من انبعاثات ثاني أكسيد الكربون بنحو 30%-40% لكل أسرة مقارنة بالمناطق المجاورة لها، ويرجع ذلك أساسا إلى انخفاض عدد الرحلات بالسيارات الخاصة بنسبة 40%. 

كما تحظى المدينة بنظام مبتكر لمعالجة مياه الصرف الصحي، حيث يتم استخدام الماء الساخن المتولد منه في تدفئة المنطقة المحلية، ما ساعد على انخفاض تكاليف استهلاك الطاقة بنسبة تتراوح بين 32 % و39%.

عقبات أمام البناء الأخضر

تكمن صعوبة تطوير المناطق الخضراء في أن المطورين يتحملون حاليا تكلفة إضافية تزيد بحوالي 10% عن تكاليف البناء العادي المرتفعة أصلاً[21]. وهذه الزيادة في التكلفة الأولية لا تشجع المستثمرين المحتملين على خوض غمار هذه التجربة، على الرغم من انخفاض تكاليف التشغيل على المدى الطويل. 

Masdar City Abu Dhabi

وفي سبيل تجاوز هذه العقبة، تتجنب بعض المشاريع الرائدة مثل مدينة مصدر في أبوظبي هذه العقبة من خلال الجمع بين دور المطور والمشغل.  تم تشييد مدينة مصدر بواسطة مصدر، الذراع التنموي لشركة مبادلة، صندوق الثروة السيادي في أبوظبي، وتحتضن اليوم واحدة من أكبر منشآت الطاقة الشمسية في الشرق الأوسط، وهي مبنية حول نفق رياح مركزي ينبعث منه نسيم بارد، بحيث يمكن للعمال والمقيمين التجول في المدينة بأريحية تامة حتى خلال فصل الصيف. وبفضل هذه المزايا الفريدة، نجحت المدينة في اجتذاب شركات رائدة مثل جنرال إلكتريك ولوكهيد مارتن وميتسوبيشي للصناعات الثقيلة وشنايدر إلكتريك وسيمنز. ويتم تشييد المباني هناك من الأسمنت منخفض الكربون، والألمنيوم المعاد تدويره بنسبة 90% ومواد بناء محلية المصدر، وقد أدى ذلك كله إلى جعل احتياجاتها من الطاقة والمياه أقل بنسبة 40% من المتوسط.[22]

وتلتزم مدينة مصدر بتحقيق متطلبات تصنيف “3 لآلئ” كحد أدنى بموجب نظام التقييم بدرجات اللؤلؤ للمباني التابع لبرنامج “استدامة” في أبوظبي، وهو أحد أكواد البناء المستدام المتاحة لقياس مدى توافق المبنى مع المتطلبات البيئية، وأكثرها شيوعاً هو النظام الأمريكي “ليد” (LEED) للريادة في الطاقة والتصميم البيئي، يليه نظام “بريآم” (BREEAM) في المملكة المتحدة، ثم نظام نابرز (NABERS) (النظام الوطني الأسترالي لتصنيف البيئة المبنية).

وفي غياب صندوق ثروة سيادي، مثل مبادلة، للاستثمار في الأبنية والمناطق والمدن الخضراء، قد تضطر الحكومات والهيئات الدولية إلى التدخل لتشجيع المطورين أو حتى إلزامهم بتحمل التكاليف الأولية الإضافية. والكثير من الدول تنحو إلى ذلك.

وقد أظهر أحدث تقرير حول الوضع العالمي للبناء والإنشاءات في سبتمبر 2021، أن هناك 80 دولة تتبنى قوانين إلزامية أو طوعية لتنظيم صناعة البناء على المستوى الوطني أو دون الوطني، منها 43 دولة تطبق قوانين إلزامية على المستوى الوطني لكل من المباني السكنية وغير السكنية[23].

ويجري حالياً تطبيق قانون البناء الإقليمي لكفاءة الطاقة في الجماعة الكاريبية لسنة 2018 في جميع أنحاء منطقة البحر الكاريبي، على سبيل المثال، في حين أن المغرب وتونس لديهما قوانين بناء إلزامية تغطي قطاع البناء بأكمله.  كما تعكف دولا أفريقية أخرى على صياغة أكواد جديدة للبناء. ولدى غانا ونيجيريا أكواداً تغطي جزءاً من القطاع، بينما تطبق مصر وجنوب إفريقيا أكواداً طوعية. كما تعمل بوتسوانا وبوروندي والكاميرون وساحل العاج وغانا وغامبيا وكينيا والسنغال وتنزانيا وأوغندا على صياغة أكوادها الخاصة[24].

وفي الوقت نفسه، وعلى الرغم من تداعيات جائحة كوفيد-19، كشف التقرير عن زيادة في الاستثمارات العالمية في كفاءة الطاقة بقطاع البناء بنسبة غير مسبوقة بلغت 11.4% في عام 2020 ، مسجلة حوالي 184 مليار دولار أمريكي، مقارنة بـ 165 مليار دولار أمريكي في عام 2019، مدفوعة بشكل أساسي بالدعم الحكومي المركز في أوروبا. وللمرة الأولى منذ عام 2015، تجاوز المعدل السنوي للنمو في الاستثمار في كفاءة الطاقة في القطاع 3%.

اجمالاً، يمكننا القول أننا نشهد زخماً تدريجياً نحو صافي الصفر، لكنه بحاجة إلى أن يصبح – كما تقول الأمم المتحدة – ‘سباقا نحو صافي الصفر’، يدفعه شعور أكبر بالإلحاح، وتصور جديد يضع البناء الأخضر ومزاياه في مستوى القاعدة، بدلا من النظر إليه كحل مبتكر، وهذا يتطلب اعترافاً عالمياً بأن الأبنية الخضراء هي النوع الوحيد من المباني القادرة على تحقيق صافي الصفر، والحفاظ على كوكبنا وحماية أسلوب حياتنا.

 

[1]. Hawken, P., Lovins, E and Lovins, H, Natural, Capitalism – Creating the next Industrial Revolution, Little Brown and Co., 2009 369pp

[2] Brown MT, Bardi E. Handbook of energy evaluation. A compendium of data for energy computation issued in a series of folios. Folio #3: Energy of ecosystems. Center for Environmental Policy, Environmental Engineering Sciences, University of Florida, Gainesville; 2011

[3] https://www.ncbi.nlm.nih.gov/pmc/articles/PMC2796751/#:~:text=The%20sick%20building%20syndrome%20(SBS,or%20cause%20can%20be%20identified.

[4] https://tinyurl.com/2vwvyjnd

[5] https://www.newscientist.com/article/2263165-landmark-ruling-says-air-pollution-contributed-to-death-of-9-year-old/

[6] The Intergovernmental Panel on Climate Change, Climate Change 2021: The Physical Science Basis, August 2021, https://www.ipcc.ch/sr15/

[7]UN Environment Programme 2020, Global Status Report for Buildings and Construction: Towards a zero-emissions, efficient and resilient buildings and construction sector, 2020, https://globalabc.org/sites/default/files/inline- files/2020%20Buildings%20GSR_FULL%20REPORT.pdf

[8] https://www.unglobalcompact.org.uk/race-to-zero/

[9] https://nbs.net/green-building-has-a-strong-business-case/

[10] https://proddrupalcontent.construction.com/s3fs-public/WorldGreen-2021-SMR-29Oct.pdf page 26 and 29

[11] https://www.ncbi.nlm.nih.gov/pmc/articles/PMC2920980/

[12] https://www.usgbc.org/articles/employees-are-happier-healthier-and-more-productive-leed-green-buildings

[13] https://www.nature.com/articles/d41586-021-02612-5

[14] https://henninglarsen.com/en/news/archive/2017/09/28-recycled-bricks-reduces-co2-emissions-by-1-millionplus-kg/   

[15] https://arstechnica.com/science/2021/07/quest-for-green-cement-draws-big-name-investors-to-300b-industry/?comments=1

[16] https://www.cbre.co.uk/insights/articles/is-green-cement-making-concrete-progress 

[17] https://www.theguardian.com/science/2021/aug/19/green-steel-swedish-company-ships-first-batch-made-without-using-coal

[18] https://designbuild.nridigital.com/design_build_review_april19/the_rise_of_green_technology_in_construction

[19] https://polandweekly.com/2022/05/25/clt-wood-has-conquered-the-world-now-its-time-for-poland/

[20] https://www.mckinsey.com/capabilities/sustainability/our-insights/building-the-cities-of-the-future-with-green-districts

[21]https://www.mckinsey.com/capabilities/sustainability/our-insights/building-the-cities-of-the-future-with-green-districts

[22] https://www.cityscape-intelligence.com/architecture/why-masdar-worlds-most-sustainable-city

[23] https://globalabc.org/sites/default/files/2021-10/Buildings-GSR-2021_EXECUTIVE-SUMMARY_ENG_14-10-21%20FIN2.pdf2

[24] https://globalabc.org/sites/default/files/2021-10/Buildings-GSR-2021_EXECUTIVE-SUMMARY_ENG_14-10-21%20FIN2.pdf2